سافر عكاويٌّ من غرفة نومه
فوق ظهور الخيل إلى الشرفة
حلف بغربته السوداء
وبكى: يا غرفةَ نومي
ما أطولَ أيام الغربة
ما أبعدَ قلبَ الغرفة
" عز الدين المناصرة"
يعني الحديث عن التوقيعة، أو الومضة حديثاً عن النزعة البلاغية الشعرية، وعن تقنية الانزياح، والإيحاء، والتكثيف اللوني، واستنطاق رموز الطبيعة وصورها.
وقد جنح الشعر العربي الحديث نحو القصيدة القصيرة، ونحو التكثيف والتركيز. فقد غدت القصيدة تعبيراً عن لحظة انفعالية محددة، وأضحت هذه القصيدة شديدة الشبه بفن التوقيع؛ لتكثيفها، وإيجازها.
ويمكن أن نعيد التوقيعة في شعر الحداثة إلى فن التوقيعات النثرية في العصر العباسي، فثمة تشاكل بين شعر التوقيعة وأدب التوقيعات من جهة الغنى المعنوي، والدفق العاطفي، والتكثيف. وثمة من يرى أنها متأثرة بقصيدة الهايكو اليابانية بما يميزها من صفاء الصورة. وهذه القصيدة مقطعة شعرية قصيرة يهتم ناظمها بغنائية الموضوع أكثر من اهتمامه بمعيارية الشكل، في حين أن إيقاعية الشعر العربي ذاتية قائمة على المقطعية. ويمكن أن نرى أن شعرية التوقيعة ناجمة عن التراثين العربي والعالمي.
يعرّف الشاعر عز الدين المناصرة التوقيعة بقوله: " قصيدة قصيرة مكثفة تتضمن حالة مفارقة شعرية إدهاشية، ولها ختام مدهش مفتوح، أو قاطع، أو حاسم، وقد تكون قصيدة طويلة إلى حد معين، وقد تكون قصيدة توقيعة إذا التزمت الكثافة، والمفارقة، والومضة، والقفلة المتقنة المدهشة."
ويرى بعض النقاد أن الشاعر عز الدين المناصرة واضع مصطلح التوقيعة في منتصف الستينيات في قصيدته " توقيعات". لكن المتتبع حركة الشعر العربي يرى أن د. طه حسين قد كتب في هذا النوع في منتصف الأربعينيات من القرن الماضي، ونقله إلى العربية نثراً في مقدمة كتابه "جنة الشوك"، ودعا إلى الاهتمام بهذا النوع الأدبي، والإضافة إليه؛ لأنه يحتاج إلى قدر كبير من المعاناة، والتكثيف البلاغي، والمفارقة التي تعد روح التوقيعة أو الأبيجراما – على حد تعبير كولردج -. وقد خصص الشاعر الدكتور عز الدين إسماعيل ديواناً بعنوان" دمعة للأسى - دمعة للفرح" احتفى فيه بالتوقيعة.
لكن الشاعر المناصرة من الشعراء الذين جربوا مشابهة الأنماط الشعرية في الحداثة الغربية، وإعادة تمثلها عربياً، وإعادة إنتاجها شعرياً. فقصيدته هايكو مبنية على نظام قصيدة هايكو اليابانية التي تعتمد على الأبيات الثلاثة:
باب ديرنا السّميك/الهاربون خلف صخرك السميك/افتح لنا نافذة في الروح
وقد سمى قصائده توقيعات؛ لاعتقاده أن هذا الشكل الشعري يشبه التوقيع في توخي الإيجاز، وعمق المعنى، وكثافة الإيحاء. فيحوّل عبر التوقيعة شعريته إلى خطاب اتصالي يثير انفعالات المتلقي، ويجعله يشاركه مشاعر الشعب المحتل، وعذابات المنفى.
ومن أبرز شعراء التوقيعة محمود درويش، ومظفر النواب الشاعر العراقي الذي يعد شاعر توقيعات بامتياز، فقد قضى سنوات من حياته متنقلاً بين دمشق وليبيا بعيداً عن وطنه العراق، وروز شوملي،وأحمد مطر الذي تميزت توقيعاته بالمفارقة السياسية: صباح هذا اليوم / أيقظني منبه الساعة / وقال لي: يا بن العرب / قد حان وقت النوم! إنها رؤيته المجتمعَ العربي الذي يراه يغطّ في نوم عميق لا توقظه المنبهات.
ومن المغرب الأقصى شعراء نظموا قصيدة التوقيعة متأثرين ببعض شعراء المشرق العربي، والتراث العالمي مثل حسن نجمي، ونجيب خداري، وجلال الحكماوي، ومحمد بو جبيري.
واتكأ شعراء التوقيعة على حقول دلالية محددة أبرزها: الزمن والحزن والموت. وقد سميت توقيعة؛ لأن الشكل الشعري يشبه التوقيع في الرغبة في الإيجاز، وكثافة العبارة، وعمق المعنى. فتثير التوقيعة لدى المتلقي الدهشة، وتدخله إلى عالم الشاعر، وتنجم شعريتها عن موقف انفعالي، وقد تأتي في خاتمة المقطع أو القصيدة، وقد تكون القصيدةُ قصيدةَ توقيعة/ ومضة. فأما التوقيعة التي تأتي في خواتيم القصائد، أو المقاطع فتحمل الكثير من الإشارات والرموز؛ لذا تتركز فيها بؤرة الشعرية. يقول سالم جبران في ختام قصيدة بقاء:
سأظل هنا / أمسك جراحي / وألوح بالأخرى / لربيع يحمل لبلادي / دفء الشمس وباقات الأزهار. وفي هذا المجال نجد أننا أمام تداخل في المصطلحات إذ يمكن أن تتشاكل قصيدة التوقيعة مع القصة القصيرة جداً من جهة كونها تحمل زخماً تكثيفياً إيحائياً ومعنوياً. فيمكن أن ننظر إلى التوقيعة على أنها نموذج يماثل البناء السردي للقصة القصيرة جداً، يثبت تجاور الأجناس الأدبية في شعر الحداثة. أما التوقيعة التي تأتي في نهاية القصيدة أو المقطع فهي جزء من قصيدة تسير في تسلسل وهدوء إلى أن تأتي التوقيعة، فتحدث فجوة توتر هي شرط الشعرية، أو ما يسمى بالسمة الانفجارية في التأمل والدلالة والإيحاء. ويمكن أن نقول إن التوقيعة هي التي تحدث التوتر الشعري، فالتباين فيها يولّد حال إدهاش، ومتعةَ قراءةٍ تجعل هذه القراءة كاشفة.
وقد تكون القصيدة قصيرة لكنها لا تكون قصيدة توقيعة. فقد لا تكون مكثفة، ولا موحية، فتخرج وهذه الحال من دائرة شعرية التوقيعة.
أما قصيدة التوقيعة التي لا تكون نهاية مقطع، أو قصيدة فهي قصيدةُ ومضة مكثفة، خاتمتها مفتوحة على تأويلات، تمثل مفارقة شعرية. فكل توقيعة قصيدة قصيرة لكن ليست كل قصيدة قصيرة توقيعة؛ لأن هذه القصيدة أشبه بالبرقية، تقدم صورة واحدة، أو انطباعاً واحداً باقتضاب شديد يهدف الشاعر من خلاله إلى إحداث تأثير جمالي لدى المتلقي، وتقدم لقطة سينمائية درامية تهتم بالإيقاع الموسيقي في التشكيل الفني. يقول سالم جبران: كما تحب الأم /طفلها المشوّها /أحبها../حبيبتي بلادي
يحمل هذا التشبيه لبلاده بالطفل المشوه إيحاءات متعددة. إنه الاحتلال الذي شوه التاريخ، وطمس معالم الحضارة... لكن الشاعر يحب بلاده كما تحب الأم طفلها المشوه، وفي هذا الاختزال ما فيه من الإيحاء والجمالية، والقدرة على شد المتلقي.
لم يعد شاعر الحداثة يحفل بالخطابية في شعره بل التفت إلى الإيحاء؛ لأن قصيدته وليدة ظرف مختلف، فما يشهده عصرنا من أحداث ساخنة لم يعد يسمح بالتطويل الشعري، ويقتضي هذا الأمر أن تكون القصيدة مكثفة موحية مؤلفة من عدد من التوقيعات لها شعريتها الخاصة. إنها شعرية الومضة، شعرية التقابل والتضاد المعبرة عن الحال النفسية المتأزمة لدى الشعراء: تأزم في الزمان والمكان، تعدد في الظلال الرؤيوية، استرسال سردي، فتأزم، فتشوق إلى النهاية التي تبلغ عندها الأبيات ذروة الختام. إنها المفاجأة الأسلوبية. وهنا نتساءل: هل هي جمالية شعرية جزئية، أو جمالية سياق عام؟
يكون التركيز على جمالية السياق؛ ليكون لخطاب الشاعر وظيفة انفعالية تولد وظيفة تنبيهية لدى المتلقين يصل بعد السرد الشعري إلى لحظة الإدهاش. ولعل أجمل ما في شعرية التوقيعة أنها تولي أهمية كبرى للمتلقي، فيُظهر الشاعر درجة من الذكاء تتطلب بالمقابل من المتلقي أن يكون على درجة عالية من النباهة؛ ليستوعب التوقيعة المتضمنة رمزاً وسخرية، والمولدة غير المُنتظر بالمنتظر -على حد تعبير جاكبسون-. إنها شعرية ناجمة عن السياق العام في القصيدة، وتمثل الحداثة الشعرية في الشكل والبناء.