قالَ الخمسيني إنّه يعرفُ الوزير. ثمّ قالَ إنّه لا يعرفُه شخصياً، لكنّه يعرفُ منْ يعرفُه، والسبيلُ إلى مكتب سيادته، في الوزارة، سالكٌ، وقصيرٌ أيضاً. وفيما افترّت شفتا صاحب الوزير الزرقاوان في ما يشاكلُ ابتسامة، بينما هو يدلي بتصريحه ذاك، طفقَ هو، منْ جانبه، يفتّشُ في أعطاف الملفّ، بين يديه، عنْ ورقة. يعزلُ الورقة تلو الورقة بأصابعه الرقيقة الطويلة، ذات العقد البارزة، كما لو يحاكي بها مشيةً سريعةً. ليس كلّ الأصابع، في الحقيقة، يشغّل، وإنّما السبابة والوسطى من اليد اليمنى فحسبُ. اليدُ اليسرى تمسكُ بالملفّ، واليمنى تقلبُ. بعد حين، استلّ ورقة من بين الأوراق المصفّفة والمتراكبة. ورقة واحدة، وتحملُ كتابةً على الوجه دون القفا. ثمّ بسطها فوق الطاولة، وراح يصقلها بحدّ الكفّ، وقد حرّف من وضعتها قليلاً بما يجعلُها في متناول بصر مُجالسه. أنا القاعدُ في الحذاء، باستطاعتي أن أتابع المشهد في تفاصيله. ومضطراً كنتُ أتابعُ. الرجلان فرضا عليّ قعدتهما، وأنا لم أشأْ أن أبدّل قعدتي بأخرى. لن أبدّلَ هذه الطاولة. وأحسبُ أنّني استطبْتُها.
على الورقة، بصمَ صاحبُ الوزير بإبهامه ضاغطاً، وصار يغمغمُ بكلام، وهو يتابعُ بسبابة اليد اليسرى الأسطر. ثمّ رفع رأسه، وقالَ لصاحب الملفّ إنّ الموضوع واضحٌ، وأنّ حاجته مقضيةٌ إنْ شاء الله. ومدّ اليد اليسرى، منْ غير أن يتبعها بنظره، إلى البراد، فصبّ كأساً أخرى إلى غاية الفوهة تماماً. كيف عرفَ أنهّا فوهة الكأس، وبصره في الورقة؟ أخذ الكأس إلى فمه الأزرق، وارتشف رشفةً مسموعةً. صاحبُ الملفّ أشعلَ السيجارة الثانية، ولعلّها الثالثة، والتفتَ إلى الجالسين على شماله. نظرَ إلى الشّابة التي وضعت كفّها بين يدي الشاب قبالتها. أبقى عينيه لوقت في عروة الأكف الثلاث. وحينما تنبّهت الشّابة إلى نظر صاحبنا عوّج ببصره هو، في التو، إلى النافذة العريضة؛ نافذةٌ بزجاج مظلّل يفتحُ على الشارع حيث العُبّار والسيارات. والجوّ خربفٌ.
عاد بعينيه إلى الملفّ. في الواقع، عاد بعين، فيما ترك العين الأخرى فوق الأكف إيّاها. العينُ التي عاد بها ركّزها على الملفّ قدّامه، وجعل يمشي أصابعه بين أوراقه. وكاد أن ينتشلَ ورقةً بعينها، بيد أنّه عدل عن الفكرة. ضمّ دفّتيْ الملفّ، ونقل عينه هذه إلى الخمسيني. رآه منهمكاً في قراءة الورقة أمامه ما يزالُ. ومنْ جديدٍ ألحق عينه بالعين الأخرى على الشمال، وثبّتهما معاً على محيا الشّابة في البداية، ثمّ على وجه الشّاب لاحقاً. وصار ينوسُ ببصره بين الوجهين. لم تولي الشّابة لحركته اهتماماً، وكذلك الأمر بالنسبة للشّاب. هذه المرّة، كانت يدا الشّاب تحضنان يد الشّابة، فيما إبهام اليمنى يمسحُ على ظهر يدها برفقٍ. منْ وضعتها، يبدو أنّها استحْلت الموقفَ. لم تكن في قعدتها منتصبةَ الظهر. كانت، بالأحرى، أميلَ قليلاً إلى الأمام. وثمّة انحناءةٌ بسيطةٌ تطبعُ جلسة رفيقها كذلك. أدرك صاحبُنا أنّهما منشغلان بهواهما عمّا عداهما. كيف إذن، يعيرانه اكتراثاً؟ يفعلان كأنّما هو خارج مدارهما بالكامل. تغافلا وجوده بالأحكم. لم يعدْ، منْ جهته، يفكّرُ في أيّ كف يحضنُ الشّاب بين يديه، اليمنى أم اليسرى؟ غير أنّه فكّرَ، في الحال، أنّ حاجته إلى كأس قهوة ثانية باتت ملحّةً. ولم يفكّر طويلاً، فندهَ النادلَ يطلبه. في الواقع، لم يندهْه. فتحَ فاه، وسرعان ما أقفله. انتظر التفاتة من النادلِ. وما إن سنحت، حتّى أشار باليد عليه بالمجئ. لم يرغبْ في أن يثيرَ بصيحة منه نظر العاشقين أوانتباه باقي الرواد (أفترضُ أنا أنّهما عاشقين). أقبلَ النادلُ متثاقلاً كما لو استهجنَ تقديم هذه الطَلِبة. طلبَ صاحبُنا كأساً، فحرّك النادلُ الرأس بالإيجاب، ورفع الكأس الفارغة والمرمدة. لكنّ صاحبنا لوّح بالسيجارة غير المشتعلة بين أصبعيه، فأعاد النادلُ المرمدة إلى موضعها على الطاولة، ومضى، بالتباطؤ نفسه، مدبراً صوب الكونتوار. تابعه صاحبُ الملفّ بعينيه، فيما هو يعجو بشفتيه. غير أنّ صاحب الوزير لم يمهله كثيراً، فسأله عمّا إذا كان التوقيع، أسفل الورقة، هو توقيعه. بدا صاحبُ الملفّ، بوجهه المستطيل، كأنّما لم يفهمْ، فكرّر مُجالسه السؤال. وآنذاك فحسبُ أكّد صحّة الإمضاء. صاحبُ الوزير راح يمعنُ النظر في الورقة كما لو يكذّبُ صاحب الملفّ. كان يدقّقُ بالبصر، ويجمجمُ باللّسان، ويرتشفُ منْ شايه. أكونُ كاذباً، أنا أيضاً، لو زعمتُ أنّني لم أكن أتنصّتُ إليهما. بلى، كنتُ أتسمّعُ إلى كلامهما كأنّما أقاسمُهما الطاولة.
تركَ صاحبَ الوزير على حاله ذاك، وصار هذه المرّة، منْ طرفٍ خفيّ، يسترقّ النظر إلى العشرينية. وكأنّي به، الساعة، يقولُ: هذا الوجه الماسّي، بقَصّة الشعر القصيرة هذه، أعرفه. أين رأيتُه؟ وأخالُه لا يتذكّر. يديرُ في خياله عشرات الوجوه الأنثويّة، لكن لا يتذكّر متى رأى وجه الشابة الجميل (والوجهُ جميلٌ فعلاً، بلْه هو فاتنٌ). كيف يَنْسى؟ في الكلّية؟ لا، لا يمكن. هو قطعاً يكبرُها بسنواتٍ. أين رآها؟ في الحومة؟ في إدارة؟ يخمّنُ أنّ الوجهَ، هذا الوجهُ، ليس بغريبٍ عنه. وجهٌ مألوفٌ، وصادفه في مكانٍ. أين؟ لا يقدر أن يتذكّرَ. تخونُه الذاكرة وقتَ حاجته إليها. يا لشقائه! أراد أن يبتسمَ للشّابة، فخافَ أن تظنّ به الظّنون. وربّما فطنَ رفيقها إليه فيكون ما يكون منْ سوء فهم لنظره المحايد. هل حقاً نظرُه كذلك؟ في خاطره، قال إنّها جميلةٌ، وتمنّاها بصدقٍ. عندما لكزَهُ صاحبُ الوزير كان النادلُ قد بارحَ الطاولة، وكان هو قد ندّت منه التفاتة إلى الشّابة، فتخيّل أنّها ربّما تكونُ نبلتْه بلحظ خاطفٍ منْ عينيها النجلاوين. على أنّ مُجالسه لم يتركْ له فرصة التّثبّت في ما إذا كانت تعنيه، هو بالضبط، بنظرها المنبل ذاك. خاطبه صاحبُ الوزير قائلاً: إنّ الإمضاء غير دقيق آالسي محمد، ولا يكادُ يشبه إمضاءاتِ باقي الأوراق. ثمّ قٌال له إنّه تحقّقَ من ذلك، وبصرُه هذا لا يمكن أن يغالطَه. وهو يفرزُ التوقيع الأصيل من التوقيع الزائف، وليس هي المرّة الأولى التي يفعلُ. يتحدّثُ صاحبُ الوزير، فيما هو يقلب الورقة بين يديه. وقالَ، كما لو يكلّمُ نفسه، إنّ هذا إمضاءُ شخصٍ آخر، ما في ذلك من شكّ. صاحبُ الملفّ نفى أن يكون الإمضاء مزيّفاً. وأصرّ على موقفه. نغضَ صاحبُ الوزير رأسه يميناً وشمالاً، وطرطقَ لسانه في جوف فمه. وبسطَ جملة أوراق قدّامه، ثمّ جعلَ يعلمُ بالسبابة على الإمضاءات. بدا بعضُ جدال خفيف بين الرجلين. واحدٌ يؤكّدُ، وآخر ينفي. كان من السّهل على القريب منْ طاولتهما من الزبائن، كما هو حالي، أن يدرك أنّ خلافاً هو آخذٌ في النّشوب بينهما. أنا تتبّعتُ أطوراه. لا يرفعان الصوتَ بما يجري بينهما، لكن بإشاراتٍ منهما، باليد والرأس طوراً، وباللّسان طوراً ثانياً، بمقدور المرء أن يكشفَ عن سرّ الخلاف الحاصل. وأقدّرُ، منْ جهتي، أنّهما أفسدا على الشّابين قعدتهما الحميمة. منْ همسهما، ومنْ نظرتهما إلى الرجلين، حدستُ ما لحق بقعدتهما منْ ضررٍ، فباتَ تركيزُهما على ما كانا عليه مشوّشاً. نظرُ العشرينية معاتبٌ. ونظرُ الثلاثيني مستنكرٌ. ونظرُ غيرهما، في الجوار، بين هذا وذاك. وأنا لا أفهمُ كيف يسمحُ البعض لنفسه بأنْ يفسدَ على الآخرين خلوةً طلبوها، أو جلسةً سعوا إليها. كيف لا يأبهونَ بالزبائن. صدقاً لا أفهمُ.
صاحبُ الوزير زغلَ شرابَه، وسكتَ. ومثله صنعَ صاحبُ الملفّ. سكوتٌ يتخلّله، منْ حين لحين، كلامٌ. يلتفتُ صاحبُ الوزير إلى مُجالسه، ويسلّمه أوراقاً قال إنّها تستدعي تصحيحاً لإمضاءاتها. صاحبُ الملفّ يقدّرُ أنّ العملية ستستغرقُ أياماً أخر. كلامُه، الساعة، خلا منْ عناد البدايات. بدا كما لو أذعنَ لفكرة صاحب الوزير، حتّى وإنْ أظهرَ بعض خلاف محتشم. لعلّه لم يكن بوسعه غير أن يستخذيَ. من الواضح، أنّه لا يملك سوى أنْ يخضعَ لقرار مجالسه. هذا الأخيرُ جعلَ يبصمُ على الإمضاءات المتعيّن تصحيحُها. ثمّ أعاد ترتيب الأوراق في الملفّ وتنضيدها، ومدّ الملفّ إلى صاحبه. بنظرٍ حسيرٍ تناول أوراقه، ومن دون أن يتفقّد طراز تنظيمها، وحشرَ الملف في باطن المحفظة، ثمّ أغلقَ، وأرسى المحفظة على كرسي في الجانب. لم يلتفت إلى صاحب الوزير، وإنّما تحاشاه إلى العشرينية، بينما يقذفُ بالدخان في الهواء. كيف يستعيضُ عن وجهٍ نَظِرٍ بوجهٍ أكلته البثور والتجاعيد؟ أكونُ في محلّه لن آتي سوى ما أتى. وما أتاه هو الصوابُ عينُه.
وجاء وقتٌ نحا فيه صاحبُ الملفّ ببصره، عبْرَ الشابين، وعبْرَ الزّجاج المظلّل كذلك، إلى الشارع. وأنا ألحقتُ بصري ببصره. زمنُ الغذاء أزفَ. عددٌ من السيارات يرسو جنبَ الطوار ما يزالُ. وأشعّة الشّمس الآن شاقوليةٌ تهرسُ الرؤوس. شمسُ الخريف تؤذي. حركةُ السابلة خفّت. فكّرتُ في أن أغادرَ. لم تعدْ تعنيني قعدة الشّابين على يميني، ولم أعدْ أبالي بالرجلين وزاني. صاحبُ الوزير مسحَ على صلعته، وألقى نظرةً فاحصةً على ساعة معصمه، وضمّ ياقتيْ السترة الكحلية، ثمّ بدأ يتهيّأُ للقيام. صاحبُ الملفّ سحبَ المحفظة الجلد منْ على الكرسي، ووضعها فوق ركبتيه، بينما جعل يهزّ اليمنى منهما كما لو يوقّع بها نغماً. في سرّي قلتُ لأتركهما يبارحان أولاً. وربّما أزايلُ، أنا الآخرُ، مباشرةً بعد انصراف العشرينية والثلاثيني.
وأنا أنقدُ النادلَ سمعتُ، فيما سمعتُ، في هذا اليوم، في هذه المقهى، منْ ركني هذا، صاحبَ الوزير يطلبُ من صاحبِ الملفّ أن يمدّه بالأوراق من جديد، ويقولُ له: لعلّ الأوراق لا تحتاجُ لتصحيح، وإنْ شاءَ الله، إنْ شاءَ الله، حاجتك لدى الوزير مقضية. لفظَ صاحبُ الوزير اسمَ الوزير منْ دون أن يرفدَه لا بنعتِ "السيد"، ولا بنعتِ "السي"، وإنّما وَردَ الاسمُ على لسانه هكذا حرفياً وعارياً، فهل أخطأتُ السّمع؟ في الواقع، أتساءل عمّا إذا كنتُ حقاً سمعتُ الخبرَ، بلْ أتساءلُ عمّا إذا كنتُ، أصلاً، مُحقاً في أن أتخيّلَ ماجريات الحكاية، بين هذه الشّخوص، على هذا النحوِ، وليس على نحوٍ آخرَ.