تحتضن فيلا الفنون بالدار البيضاء من 23 يناير إلى 29 مارس 2018 آخر أعمال التشكيلي نور الدين فاتحي تحت عنوان "مكاننا"، وهو معرض جاء بعد تجربة طويلة دامت أربعين سنة، سيعمل فيها الفنان فاتحي على عرض بعض من مراحل بحثه على مستوى التقنيات والمواضيع التي تناولها ضمن أسلوب متنوع يطرح أسئلة ضمن نسق تيماتي، انطلاقا من منظور فلسفي يخضع لسلطة معرفية بقوانين هذا الجنس الفني، في إطار مرجعية حوارية تمتح من الموروث الثقافي المغربي والعربي الإسلامي في علاقته بالديانة المسيحية واليهودية.
وقد جاء في كلمة دليل المعرض للفنان والناقد شفيق الزكاري تحت عنوان " هلامية الأمكنة وتعدد الأزمنة" ما يلي:
" أمكنة:
أن تستحضر تجربة الفنان التشكيلي نور الدين فاتحي الإبداعية، معناه أن تغوص في دواليب التاريخ الإنساني والإبداعي، بما يحملانه من مرجعية ثقافية ووجودية، قد تفضي بك إلى متاهات المعرفة العالمة بقضايا الإشكاليات المطروحة على المستوى الجمالي والمفاهيمي، ففي كل محطة سؤال، وكل سؤال حمال قضية، وكل قضية تحيل على إشكالية، وكل إشكالية في حد ذاتها موضوع، وكل موضوع مرآة لشعور جماعي يختزن فكرة روحية، وكل فكرة تتحول إلى قصيدة، وكل قصيدة ملاذ لتحفة فنية لها امتداد في الماضي والحاضر، حيث تعدد الأمكنة والأزمنة في المكان والزمان الواحد.
إن هلامية الأمكنة في تجربة فاتحي، تفتقت عن وعيه بضرورة عدم تحديدها، لتصبح سارية المفعول على جميع الفضاءات الممكنة، ومفتوحة على كل التأويلات بتعدد مرجعياتها، في علاقتها بالخطوط والرسومات والأشكال والأيقونات السابحة بتعدديتها وتكراريتها المغرضة والمرتبطة بتراتبية الأزمنة، فوق سند جعل منه الفنان فاتحي ركحا لسرد المشاهد الجمالية، بعين المتمحص العارف بقوانين وقواعد التشكيل، وبفكر المثقف الشاهد على العصور القديمة والحديثة، التي دشن في البداية علاقته بها أسطوريا، لتتحول إلى فكر جماعي تتقاطع فيه كل الرؤى المتمردة التي تحمل قلقا وجوديا.
شعر ونسوة:
لم تكن النسوة إلا ملهمة للشعراء منذ الأزل، ولم يكن العشق والهوى والجوى والشجن والخبل والكلف والغرام والتيتم والهيام والصبوة... إلا مرادفا لمخيلة الشعراء، هو زفاف مجازي للكلمة بالمرأة، حيث يفصح الشعر عما لا يمكن الإفصاح عنه، هو قران بين الروح والمادة، من هذه الفكرة انطلق الفنان فاتحي في كشف معالم وأغوار جزء من تجربته في هذا المجال، بأسلوب تشكيلي راود الكلمة على خدمة المرأة في بعدهما المشهدي، رغبة منه في تحديد المسافة التي تفصل بينهما، ضمن نسق مرئي وروحي، لسبك الخيط الناظم بين مجال أدبي وفني في نفس الآن، فكانت القصيدة والمرأة حاضرتين بعنفوانهما المتألق والمحفز على الرؤية والمشاهدة، بشكل أنيق يدعو إلى التساؤل حول ماهية هذا الحضور المزدوج، بطريقة متوازية، بعيدة عن توصيف الشعر وترجمته للصورة والعكس صحيح، هي غواية المبدع من خلال استقراء واستنباط السمعي والبصري، في حلة كان فيها حضور قوي للخط والشكل واللون والمنظور...
"الحب تساؤل مستمر" هذا ما قاله الكاتب ميلان كونديرا، بينما استمرارية هذا الحب والتساؤل حوله يأخذان أبعادا ميتافيزيفية في تجربة الفنان فاتحي، اجتمعت فيه النسوة ليشيدن صرح مدينة فاضلة، لا يحكمها الفلاسفة كما حلم بذلك أفلاطون، بل تحكمها الصنعة والحرفية والإبداع، في إطار حوار وجوار للكلمة والصورة.
إقامة الحدود:
عن أية حدود يمكن الحديث في عمل الفنان فاتحي؟ هل الحدود الجغرافية، أم التاريخية، أم الثقافية؟ كلها حدود تتلاشى وتذوب بانسيابية البارع في خلق المفاجآت، فيصبح العمل كونيا، يحمل أسئلة شاملة ووجودية عرفتها الحضارة الإنسانية، لم يؤطرها في قطر أو رقعة جغرافية معينة، ولم يحددها في زمن تاريخي بعينه، بل لم يلبسها ملامح ثقافية توصيفية، بل جعل مشاهدها مشرعة على كل الأزمنة والأمكنة ببعديهما الثقافي والفني، كمنتجع للإقامة الروحية والفكرية، لا يمكن إلا أن تبهر عين المتجول في مسالكها، هي الإقامة في المطلق اللامتناهي في حدوده، وهي الإقامة الضاربة في عمق التاريخ الإنساني، كمشروع تحمل عبأه المبدع والفنان فاتحي دون قيد أو شرط، متجاوزا رغبة المشاهد وطلبه، ليرقى بالذوق ولينتزع الاعتراف دون وصي أو عراب، إيمانا منه بحرية التعبير والخلاص من دونية الذوق، جمع عناصره بدقة متناهية، كل أيقونة تمثلها هذه العناصر، تحمل فكرة وحكاية حسب أسباب ترصيفها وتوضيبها، لمد الجسور بين الماضي والحاضر الإبداعي في بعده التاريخي الكرونولوجي، ليؤكد على ضرورة الاهتمام بأصالة مشروعه من منظور البحث والتطور، لكي لا يقيم تلك الحدود الجارفة لمعرفة جذور التجربة".