أمام ما يشهده العالم العربي والإسلامي من تقتيل وعنف بسبب الإرهاب والتطرف، واستفحال الفكر المتزمت للجماعات الإسلامية المتشددة، وبعد ظهور العديد من الدراسات الفكرية والدينية والاجتماعية التي اتخذت من هذه التحولات الخطيرة مدارا لدراساتها، لم يكن بمقدور المبدع والروائي العربي الصمت واتخاذ مسافة أكبر، للتعبير عن هذا الواقع المروع الذي تشهده الأمة العربية الإسلامية، والذي أثر على كل مناحي الحياة الفكرية والاجتماعية والثقافية، حيث صدرت في السنوات العشر الأخيرة روايات عديدة لأسماء مرموقة وأخرى مغمورة، تتخذ من سؤالي التطرف والإرهاب موضوعا لأعمالها الروائية، منها من عبر عن هذا الواقع الآسن، وعن التردي الفكري والاجتماعي والثقافي، عن طريق الاستنكار لهذا الوضع وتعرية هذا الواقع المؤلم، ومنها من فضل الغوص في عوالم الإرهابيين للبحث عن أسباب هذا الانحراف والانزلاق الخطير.
ولأن الإبداع بشكل عام مرآة المجتمع، والرواية بشكل خاص، من أكبر الأجناس الأدبية من حيث الحجم وتعدد الشخصيات وتنوع الأحداث، فإنها قد استطاعت عبر اعتمادها على السرد، والحوار، والوصف، وصراع الشخصيات، أن تقدم جوانب من هذا الواقع المأزوم الذي نعيشه، وتميط اللثام عن شخصية الإرهابي "الإشكالية"، وأن تكشف عن جذور التطرف الديني في التربة العربية؛ والمتمثل في انتشار نوع من التديُّن تميز بالتعصب المذهبي، والغلو، والتشدد، والتزمت، كما تمكنت، من أن تدفع القارئ إلى طرح الأسئلة الجوهرية: ما هو التطرف؟ ومن هو المتطرف من بيننا؟ وهل يدفع الدين والإيمان إلى التطرف؟
وعلى الرغم من التباين الكبير في المستويات الفنية للرواية العربية التي تناولت موضوعة الإرهاب والتطرف، والتي ناهزت المئة رواية حسب بيبليوغرافيا قيمة أعدَّها منسق ملف هذا العدد الناقد والأكاديمي المغربي عبد المالك أشهبون، ورغم أنها لا تعكس حجم المأساة الحقيقية التي تعرفها المجتمعات العربية الإسلامية التي اكتوت بنار هذا الإرهاب الفتاك، فإنها قد تمكنت على الأقل من جذب أنظار القراء إلى هذا الموضوع الشائك، وساهمت في إثراء النقاش حوله، خاصة بعد أن تحول مجموعة من الشعراء والكتاب والنقاد والأكاديميين إلى كتابة الرواية، وركوب مغامرة السرد، بحثا عن قارئ جديد، أو عن جائزة أدبية محتملة.
وكما تباينت الإبداعات الأدبية، تباينت الدراسات النقدية على "قلتها"، وركزت على محاور معينة دون أخرى في مجموعة من الأعمال التي تناولتها، فيما استعصى على أصحابها تناول جل الأعمال، إما لسوء توزيعها في العالم العربي، أو خشية الخوض في هذه القضايا الساخنة التي يعيشها العالم الإسلامي، والتي تجرأت على ولوج غمارها الرواية العربية.
ولإلقاء مزيد من الضوء على هذا الموضوع الشائك، خصصت مجلة "ذوات" الثقافية العربية الشهرية الإلكترونية، الصادرة عن مؤسسة "مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث"، ملف عددها (38)، لموضوع "الرواية العربية في مواجهة التطرف" مركزة على المحاور التالية: سؤال تواتر الروايات العربية التي تجعل من الإرهاب الديني موضوعاً رئيسا لها، وتمظهرات التطرف الديني في الرواية العربية وتجلياته، والرواية العربية بين إرهاب المقدس الديني وبين إرهاب السلطة: الحدود والتمفصلات، والتعبير الروائي عن الإرهاب بين هاجس التسجيل والتوثيق الحي وبين متطلبات الصنعة الروائية؛ فجاء هذا الملف، الذي أعده مشكورا الأكاديمي والناقد المغربي عبد المالك أشهبون بتقديم قيم يحمل عنوان "ظاهرة التطرف الديني في الرواية العربية"، وشارك فيه مجموعة من الباحثين والنقاد، وهم: الناقد والأكاديمي العراقي نجم عبد الله كاظم، الذي وسم دراسته بعنوان: "التطرف الديني والإرهاب في الرواية العربية المعاصرة..."، وقد قارب فيها هذا الموضوع، انطلاقا من رواية "يا مريم" للروائي العراقي سنان أنطون، حيث تناول بالدرس والتحليل معاناة المسيحيين وما لحقهم من أذى في عراق عام 2003 وما بعده، ومن خلال عائلة مسيحية تمزقت أفراداً بفعل الكراهية والخوف والعنف والتهديد والقتل وسوء التعامل، على أيدي إسلاميين متطرّفين.
والناقد والأكاديمي المغربي حسن المودن، الذي تناول بالنقد والتحليل في مساهمته المعنون بـ "شخصيةُ "الإرهابي": "عقدة أوديب" أم "عقدة الأخوة؟"، رواية "خريف العصافير" للروائي المغربي خالد أقلعي، وانطلق في تحليله لهذه الرواية من وجهة نظر نفسانية، من خلالها يستبر أغوار شخصية "الإرهابي" في هذه الرواية، مركزا بالدرجة الأساس على حضور عقدتي: "أوديب" و"الأخوة" في أكثر من مقطع من مقاطع الرواية، ليصل في النهاية إلى اعتبار أن "عقدة الأخوة" هي الأنجع، إذا أردنا أن نقارب شخصية "الإرهابي" في هذه الرواية بالذات؛ فالأخ هو أساس المشكل: هو الذي أساء إلى أخته، وكان سببا في أن تتحول إلى مطلقة عاهرة فاسدة، هو الذي شوّه موضوع الحب الأول عند الطفل: الأمّ..
كما سعت الناقدة الأردنية مريم جبر، في مقالتها المعنونة بـ "تمظهرات الإرهاب الديني في الرواية العربية..."، إلى تقديم إضاءات تكشف رؤية الروائي الأردني جلال برجس، صاحب رواية "أفاعي النار"، لمفهوم الإرهاب الديني، وأسبابه وبيئته وتمظهراته، وآثار توظيفه في تحقيق المآرب الخاصة والعامة في مجتمع الرواية، باعتباره نموذجا صغيرا من عالم كبير، يمور بهذه الظاهرة، إلى حدّ تصير فيه الرغبة في تغيير هذا الواقع حلماً عسير التحقق، بل تغدو عواقبه وخيمة.
فيما جاءت مقاربة الناقد التونسي عبد الدائم السلامي، المعنونة بـ "روايةٌ تكتُبُ الإرهابَ بِيَدٍ مُرْتعِشةٍ"، لتغوص في سردية الإرهاب في العالم بشكل عام، والعالم العربي بشكل خاص، وتحديدا الرواية التونسية، حيث توقف الناقد عند روايتيْن تمكّنتا من الخوضِ في موضوع الإرهاب باقتدار فنيّ وبوعيٍ ثقافيّ، وإنْ بَقِيَتَا تتحرّكان ضمن محور تفسيره، أُولاهما بعنوان: "غِلالات بين أنامل غليظة" للكاتبة عفيفة سعودي السّميطي، وثانيتُهما موسومةٌ بـ "أرصفة الضَّباب أو الطريق إلى داعش" للكاتبة منيرة درعاوي.
أما حوار الملف، فكان مع الناقد المغربي المتميز الدكتور سعيد يقطين، الذي توقف عند نقطة جوهرية تتمثل في أن الوعي بقضايا التطرف الديني على المستوى الروائي لا يتشكل فقط من خلال المحتويات التي يمكن أن يعبر عنها مهما كانت صدقيتها أو واقعيتها؛ لأنها أحيانا تسلم إلى المباشرة والسطحية، وإعلان المواقف، بالمقابل ركز على ضرورة التركيز على الطريقة التي يمكن بواسطتها الحصول على التأثير في المتلقي. ومن منظوره، فإن ذلك لا يتحقق على النحو الملائم إلا بقدرة الكاتب على جعل عالمه الروائي منسجما بين الخطاب والنص، ويقدم للقارئ معرفة تتجاوز المعرفة اليومية المتداولة في وسائل الإعلام المختلفة.
وبالإضافة إلى هذا الملف يتضمن العدد (38) من مجلة ذوات مجموعة من المقالات والدراسات التي تغني أبواب المجلة، وهي: رأي ذوات، ثقافة وفنون، حوار ذوات، بورتريه ذوات، سؤال ذوات، تربية وتعليم، مراجعات الكتب، إصدارات، لغة الأرقام.
ويمكن للقراء الاطلاع على العدد (38) من المجلة يوم 10 (يوليو) الجاري (2017)، في الموقع الإلكتروني لمؤسسة مؤمنون بلا حدود.