برعاية المجلس الملّيّ الأرثوذكسي الوطني بحيفا بفلسطين، أقام نادي حيفا الثقافيّ أمسيةً تكريميّة للدكتور فهد أبوخضرة، في قاعة كنيسة القديس يوحنا المعمدان الأرثوذكسيّة في حيفا، بتاريخ 25-5-2017، وسط حضور كبير من شعراء وأدباء وأقرباء ومثقفين، وقد رحّب المحامي فؤاد نقّارة مؤسّس ورئيس نادي حيفا الثقافي بالحضور، ثمّ تولّى عرافة الأمسية الإعلاميّ الكاتب نايف خوري، وقد قدّم مداخلات عن منجزات المحتفى به كلٌّ من: الشيخ الأديب حنّا أبو حنّا، ود. ياسين كتاني رئيسُ مَجمع القاسمي للّغة العربيّة ونائب رئيس كليّة القاسمي للشّؤون الأكاديميّة، والباحثة رنين صباغ متّى، والشاعرة آمال عوّاد رضوان، وقدّم الشاعر رشدي الماضي قصيدة شعرية رافقتهُ بالعزف على الكمان الواعدة ياسمين عيسى، من جمعيّة الكرمل للموسيقى، وقصيدة زجلية للزجال حسام برانسي، وبعد أن شكر د. فهد أبو خضرة الحضور والمنظمين والمتحدّثين، قدّم نادي حيفا الثقافيّ درع تكريم للمحتفى به، ثمّ تمّ التقاط الصور التذكارية!
مداخلة الأديب الإعلامي العريف نايف خوري: مساؤُنا يطيبُ بهذا اللقاء، وفرحُنا يزدادُ بحضوركم أيّها الأحبّة، بمناسبة حلول الشهر الفضيل، نتمنّى للصّائمين ولغير الصّائمين شهرًا مليئًا بأعمال الخير، وأن يكون الصومُ مقبولًا، ويختتم بالعيد السعيد.
وصفوا الشعراء المُخضرَمين بأنّهم الذين عاصروا حُقبتيْن من الزمن، أو جيليْن متعاقبيْن، فكيف بالذي عاصرَ ثلاثةَ أجيالٍ وربّما أربعة، وقلّما نجدُ بين أدبائنا، أولئك الذين يكتبون في اللغة بجميع مُكوّناتها، ولكنّنا نحتفي الليلةَ بأحدِ الشعراء ذوي الباع الطويلة، الذي نشأنا على كتبه التعليميّة، ومؤلّفاته الأدبيّة، وقصائده الشعريّة. إنه الدكتور فهد أبو خضرة.
كلّما توجَّهْنا صوبَ لغتِنا العربيّة، نجدُ الشاعرَ والأديبَ الدكتور فهد أبو خضرة يُرشدُنا إلى دروبِ معرفتِها وصواب جوانبِها، وكانَ مِن دواعي سرورِنا، أنّ الصديق المحامي فؤاد نقارة؛ رئيسَ النادي الثقافي الذي تكتنفُهُ أحضانُ كنيسة يوحنا المعمدان، في نطاق المجلس الملّيّ الأرثوذكسي الوطنيّ، هذا الصديق والإخوة إدارةُ النادي، بادروا إلى تكريم شخصيّاتِنا وقاماتِنا الأدبيّة منذ سنوات، فالشكرُ الجزيل لهم ولكلّ مَن سعى لتنظيم هذه الأمسية المميّزة.
يسرّني أن أرحّبَ على المنصّة بكلّ من الباحثة رنين صبّاغ متّى، والشاعرة آمال عوّاد رضوان، والشاعر رشدي الماضي والدكتور ياسين كتّاني.
الدكتور ياسين كتاني، أستاذ الأدب العربيّ الحديث والنقد في أكاديميّة القاسميّ، رئيسُ مَجمع القاسمي للّغة العربيّة، ونائب رئيس كليّة القاسمي للشّؤون الأكاديميّة، وباحثٌ مختصٌّ في القصّ الحداثيّ العربيّ. له ثلاثة كتب بالعربيّة، آخرها كتاب "شعريّة الحداثة في الرواية العربيّة المُعاصرة"، وكتابٌ رابعٌ بالإنجليزيّة صدَرَ مؤخّرًا، وله أيضًا عشراتُ المقالاتِ حولَ الأدب العربيّ باللغتيْن العربيّة والإنجليزيّة. وهو أيضًا صديقٌ عزيز.
المربية والباحثة رنين صبّاغ متّى مقيمة في معليا مُتزوّجة وأمّ لثلاثة أولاد. تعمل منذ 14 عامًا في وزارة التربية والتعليم. حاصلة على اللقبيْن الأوّل عام 2003، والثاني عام 2012 من جامعة حيفا في موضوع اللغة العربيّة وآدابها، وأرشدت في المدارس العربيّة طيلة 4 سنوات.
الشاعر المربي رشدي الماضي يحتلُّ حيّزًا مرموقًا في المشهد الشعريّ الحيفاويّ خصوصًا والفلسطينيّ عمومًا، حصلَ على جائزة القدس للثقافة والإبداع لعام 2016، وحصل قبلَ أسابيع على جائزة أكاديميّة فدريكو الثاني للشعر في إيطاليا، بصفتِهِ شاعر الإنسانيّة. الشاعر الماضي يقرأ نصًّا شعريًّا للشاعر أبي خضرة، حيث تربطُهُ وشائجُ صداقةٍ ومودّةٍ عميقةٍ منذ سنين طويلة بالدكتور فهد، ويُساهمُ بتكريمِهِ بقصيدةٍ خاصّةٍ جادتْ بها قريحتُهُ، ترافقُهُ بالعزف على الكمان الفنّانة الواعدة ياسمين عيسى، من جمعيّة الكرمل للموسيقى.
الشاعرة آمال عوّاد رضوان من أشد المعجبات، وهنّ كثيرات، بشعر الدكتور فهد، وفي هذه الأمسية ستلقي ضوءًا آخرَ على دوْر الدكتور فهد في المشهد الثقافيّ، والّتي استلهمتْ منه مميّزاتٍ خاصّةً في أدب وشعر الدكتور أبو خضرة.
مداخلة آمال عوّاد رضوان: أستاذي الغالي د. فهد أبو خضرة، سلامي لك فيضَ طفولةٍ زاهية تتكئ على أجنحةِ براءةٍ. سلامي لك مَن لستُ أنسى أبوّته، وأوّلَ من أمسكَ بيدِ حرفي ولامسَ نيران روحي الّتي لا تنطفئ، بسلطانِ بسمتِكَ البهيّة تدفعُني دومًا إلى الما بعد والأبعد.
لد. فهد أبو خضرة حضورٌ قويٌّ ومُحرّكٌ داعمٌ في المشهد الثقافيّ المحليّ منذ سنوات السبعين وحتى اليوم. أبدأ بجمعيّةِ المواكب التي ترأسَها المحامي زهير سعد منذ عام 1993، وكان فيها حنّا أبوحنّا صاحب الامتياز، أمّا د. فهد أبو خضرة، فتولّى رئاسة تحرير مجلّة مواقف الثقافيّة الفصليّة المُنوّعة، واستمرّت المجلّةُ في إصداراتها مدّة 22 سنة، من بداية عام 1993 حتّى نهاية 2015، وقد أصدرتْ أكثرَ من 90 عددًا ما بين مزدوَجٍ ومُفردٍ، وأصدرت أيضًا اكثرَ من 60 كتابًا أدبيًّا لأدباءَ مَحلّيّين مُشاركين ومؤيّدين لمواقف، وكلّها كتبٌ مُصنّفةٌ ما بين شعرٍ وقصّةٍ وروايةٍ ومسرحٍ ومقالاتٍ وأجناس وأنواع أدبيّة أخرى، وكانَ الدّعمُ من دائرةِ الثقافةِ العربيّةِ فقط لا غير، وبدعم مديرها موفّق خوري لروحهِ السلام والرحمة.
لد. فهد أبو خضرة نشاطاتٌ ثقافيّةٌ بنّاءةٌ في المجتمع المحلّيّ، فقد تولّى رئاسةَ اللجنةِ الإداريّةِ في مسرح الميْدان لمدّة أكثر من عشر سنوات، وقامَ مع الأعضاءِ في اللجنةِ والإدارة الفنّيّةِ بإنجازاتٍ مسرحيّةٍ كثيرة، وتحصيل ميزانيّاتٍ لمسرح الميدان، وأيضًا مَقرٍّ ثابتٍ في حيفا، ثمّ تولّت الإدارة الكاتبة سعاد قرمان، واستمرّ أبو خضرة في الإنجازاتِ وحافظَ على عضويّتهِ، وكان الكاتب د. حاتم خوري فعّالًا في بلديّة حيفا، وداعمًا بشكلٍ خاصٍّ لمسرح الميدان وإدارته مع أسماء أخرى عديدة.
د. فهد أبو خضرة مُثقّفٌ حيويٌّ لا يكلُّ، ونشاطاتُهُ الثقافيّةُ دائمةُ الاخضرار، فكانَ مِن المُؤسّسينَ لأوّلِ مجمعٍ للّغةِ العربيّة في بداية سنوات التسعين، وهو مَجمَعٌ مستقلٌّ للّغةِ العربيّةِ وغيرُ تابعٍ للحكومة، استمرّ حتى عام 2007، وقد ترأسَهُ د. فهد مرّتيْن على مدار خمس سنوات، وقد ضمّ من الأدباء أسماء عديدة: بروفيسور سليمان جبران، الأديب حنا أبو حنا، د. إلياس عطالله، الإعلاميّ نايف خوري، وبرفيسور محمود غنايم وآخرين. كان في البداياتِ مَقرُّ المجمع في مؤسّسةِ مار إلياس في عبلين، ثمّ في حيفا، وكانت فعاليّاتُهُ أوّليّةٌ أساسيّة، لأنّ الإمكانيّاتِ محدودةٌ وبسيطة، ثمّ دخلتْ دائرة الثقافةِ العربيّة، وبعدها تأسّس مجمعان، مجمعٌ تابعٌ لوزارةِ الثقافة، ومجمعٌ آخرُ تابعٌ لكليّةِ القاسميّ للغةِ العربيّةِ، ود. فهد أبو خضرة اليوم نشيطٌ جدّا في المجمع القاسميّ، ويُشارُ إلى إنجازاتِهِ الكثيرة في نشرِ أبحاثِ وموسوعةِ الأدب الفلسطينيّ الشامل، ومختاراتِ الأدب الفلسطينيّ المَحلّيّ، ويُصدرُ مجلّة المَجمع.
د. فهد أبو خضرة محاضرٌ في جامعة حيفا منذ عام 1971 حتى اليوم، ومحاضرٌ في كلّيّةِ إعداد المعلّمين في حيفا منذ عام 1973-2003.
منتدى الحوار في البادية عسفيا- تأسّسَ منذُ بداياتِ عام 2003، في لقاءٍ شهريّ ثابتٍ في الخميس الأخير من كلّ شهر، حيثُ يتناولُ الأدبَ المَحلّيّ في إصداراتِهِ، ويُناقشُ الإصدارَ بنقاشٍ حيويّ للمشاركين، فيُثري الحركةَ الأدبيّة، والمنتدى يضمُّ أكثر من ثلاثين عضوًا ثابتين مِن الأدباءِ المنتمين ومِن المفكّرين، ويُساهمُ في تعريفٍ بالأدباء، وقد ساهمَ في استمراريّةِ الحركةِ الأدبيّة وتطوّرها، وتعريف العالم العربيّ والخارجيّ بأوضاع الثقافةِ ونشاطاتِها في بلادِنا، وكانت بداية تعرُّفي بالمنتدى في نهاية عام 2005، بتناول ديواني الأوّل "بسمةٌ لوزيّةٌ تتوهّجُ"، وقد أبدى إعجابَهُ الشّديدَ حينها، وصرتُ من الأعضاءِ المُثابرينَ في المنتدى، أنتظرُ بلهفةٍ اللقاءَ الثقافيّ، وأخذتُ على عاتقي مسؤوليّةَ نشرِ التقاريرِ الثقافيّةِ التفصيليّة مَحلّيًّا وعربيًّا وعالميًّا، ولكل مجرياتِ الأحداث لتلك الأماسي الجميلةِ الحميميةِ، واليومَ لدى منتدى الحوار الثقافي في البادية أرشيفٌ ثقافيٌّ موثّقٌ كبيرٌ لأكثرَ مِن عقدٍ مِن الزمن، سيصدرُ في الوقتِ القريب بمشيئة الله، وكان المنتدى قد توقفَ لسنة تقريبًا، وأزفّ لكم البشرى، بأنّه سيُعاودُ نشاطَهُ بعدَ شهر رمضان الفضيل وبعد الفطر السعيد القريب بإذن الله.
د. فهد أبو خضرة وبتواضعِهِ الجمّ النادر أمسكَ بيدي في مسيرتي الأدبيّة، ففي بداية عام 2006 قادّني إلى الصالون الثقافيّ في الناصرة بإدارة د. روضة بشارة لروحها السلام والرحمة، لتناوُل ديواني الشعريّ الأوّل، بحضورِ نخبةٍ راقيةٍ من أدباء ومثقّفي منطقة الناصرة، وكان د. أبو خضرة آنذاك ولمدّة أربع سنوات، مسؤولًا عن افتتاح الندوةِ الشهريّةِ بمقدّمةٍ عن الأديب وعن الكتاب، وأيضا هو داعمٌ ومشاركٌ في المؤتمرات المختلفة في البلاد في الجامعات والخارج، وفي الأردن في مشاركات لغويّة، وفي مصر مرة واحدة. فيا أستاذي أبو خضرة، ما أبهاك حين تغلق فمك عن الكلام قبل أن أغلق أذنيّ عن سماعك، وما أروعك حين تفتحُ أذنيْكَ لسماعِ هسهسةِ نصوصي، قبلَ أن تفتحَ حروفي أفواهَها للنشيد، وها أنت كما الشّعاع، تظلُّ تقترفُ خطيئةَ الصمتِ، فيذوّبني وقارُكَ، وتتباركُ نفسي بقطافِ رضاكَ وحضورِك! حقا، لقد تشرّفتُ اليومَ بمشاركتي، وكرّمني حضورُكَ الثريَّ في القلب والروح. دمتَ لنا حقلَ عطاءٍ لا يبور!
مداخلة الباحثة رنين صبّاغ متّى: الحضورُ الكرام، تطيبُ لي هذه اللّحظات الّتي أقفُها اليومَ أمامَكم، مُنتقيةً أجملَ العباراتِ وأذخرَها، ليصدحَ بها فضاءً نورًا ومسكًا في حفل تكريم الدكتور والمحاضر والأديب والنّاقد والشاعر فهد أبو خضرة، الذي كانَ ولا يزالُ ذاك المعلّمَ والمرشدَ والباحث ، والدّاعي إلى العلم وزارعِهِ في نفوس معظمِنا. جميعُنا يَعلمُ أنّ عمر التجربةِ الشعريّةِ عند د. فهد أبو خضرة يقتربُ من اليوبيل الذهبيّ، وهذه الفترة لم ولن يمكنَ لأحدِنا أن يختصرَها، أو أن يُعبّرَ عن فحواها مهما حملتْ هذه الأمسيةُ من معانٍ وكلمات، ولأنّ رونقَ الكلمةِ وصفاءَ العبارةِ لا يتمّان إلّا بلحن القوافي ورنين التفعيلة، لا بدّ أن أستهلَّ حضوري بإلقاءِ مقطوعةٍ شعريّةٍ للشاعر، من قصيدتِهِ "سبيل الحب" المأخوذة من ديوان "الندى والأقاح"، فيتناغمُ بسماعِها عطرُ الأمسيةِ ببهاء الكلمة فلنستمع: أُعلِّمُهُمْ سبيلَ الحُبِّ: كيف يُعانقُ الآخرْ/ وكيفَ تُعانقُ الذّاتُ،/ فيرتدُّ الصّدى في العُمْقِ: كيف تعانقُ الذّاتُ/ ويُدوّي في رِحابِ الأُفْقِ: كيفَ تُعانقُ الذّاتُ/ فتَكبُرُ بيننا الأبعادُ.. تُقصينا المسافاتُ/ أُعلِّمُهُمْ، وأعلممُ أنّهمُ رفضوا/ تعاليمَ الّذي أعطى فما أبقى/ وأعلَمُ أنَّ مَنْ يَهدي/ طريقَ الحقِّ قد يشقى.
سأتناولُ موضوعاتٍ مختلفةً، يَصبُّ أوّلُها في لمحةٍ مقتضبةٍ عن البحث الذي أجريته ضمن دراستي، للحصولِ على اللقبِ الجامعيّ الثاني تحتَ عنوان "الإيقاعُ في شعرِ الدكتور فهد أبو خضرة". طرحَ البحثُ خمسةَ دواوين شعريّةٍ للشاعر، نُشرتْ في كتابٍ واحد عنوانُه: "الأعمال الشعريّةُ الجزء الأوّل" للعام 1996، ومن خلال هذا البحث تمَّ تناوُل الدواوين الخمسة، وتصنيف قصائدها بموجب البنية الشكليّةِ والإيقاعيّة الخاصّة لكلّ قصيدة، راصدةً ذلك التطوّر الشكليّ والإيقاعيّ في صُورِهِ الشعريّة، منذ بداية كتاباته وصولًا للديوان الخامس، ثمّ مُنقّبةً عن وجود تلك العلاقة ما بين مضمون القصيدة ونوع الإيقاع المستخدم في قصائد الشكل الموحّد وقصائد التفعيلة، ليتبيّن من الدراسة، أنّ الشاعرَ لم يربط بين غرَض القصيدة والتفعيلة أو البحر المستخدم، لا بين غرض القصيدة والبُنية الشكليّة لها. فشاعرُنا يكتبُ قصائدَهُ بروح صادقةٍ شفّافةٍ، ليُعبّرَ من خلالها عن فِكرِهِ ورؤيتِهِ مُتغلغلًا في النفس الإنسانيّة، خالقًا إلى جانب الإيقاع الخارجيّ إيقاعًا داخليًّا، يرتبط ومعاني الكلمات والتعابير، فهو يظهرُ في قصائدِهِ وإصداراتِهِ الشعريّة كشاعر طبع دون تصنُّعٍ أو تكلّف، ويختار الإيقاعَ الداخليَّ رابطًا ما بين الألفاظ والحقول الدلاليّة، وحتّى عند كتابة الشاعر لقصائد الشكل المُوحّد الملتزمة وزْنًا وقافية، يُبيّن الشاعرُ للقارئ ذاتيّةً وتلقائيّةً في التعبير وانتقاء البنية، دون قصدٍ أو تعمُّدٍ لصقل الفكرة في قالب دون الآخر.
ولا بدّ من الذكر، أنّ الشاعرَ فهد أبو خضرة كانَ ولا زال يعيشُ ومحيطه الثقافيّ والحضاريّ والحياتيّ، فرأيتُهُ في ديوانهِ الأوّل الّذي أصدِرَ في بداية السبعينات، يستخدمُ بكثرةٍ البُنيةَ الشكليّةَ للشّكلِ المُوحّد، بينما يظهرُ تراجُعًا في استخدام هذه البنيةِ في الدّواوين اللّاحقة، لكن بالرّغم من هذا، موسيقيّة القصائد موجودةٌ وناشئة من ارتباطها بمعانيها الأولى والمتداعية، وأيضًا مِن إصرارِهِ على توفّر التركيبة العروضيّة الهامّة، وهي التفعيلة كعنصرٍ إيقاعيّ هامّ لتعريف الشعر، فهو بمعظمِ قصائدِهِ يعودُ للبحر والتفعيلة، وعلى امتداد الدواوين المتعاقبة، لتأتي جملتُهُ الشعريّةُ مُنسابةً بهدوءٍ دون تكلّفٍ، وبموسيقى هادئةٍ كلاسيكيّة.
أمّا حضوري الكريم فهو ثاني الموضوعات، إذ يَصبُّ في عالم الكلمةِ وحرارتِها، تلك الكلمة التي حملت مِن الطربِ الصوفيّ والفلسفيّ ما يكفي القارئَ، ليقفَ ويتأمّلَ ويُبحرَ في عالم القصيدة، فيُعيدُ قراءتَها مرّةً تلوَ الأخرى. لماذا؟ لأنّ شاعرَنا استطاعَ أن يُمثّلَ في شِعرِنا المَحليِّ تيّارًا مميّزًا، يَحملُ مِن النّزعةِ الصّوفيّةِ والرؤيةِ الفلسفيّة، ما يجعلُ منهُ شعرًا تطربُ لهُ الأنفسُ والآذانُ، فجاءتْ صورُهُ الشعريّةُ عميقةً تُفجّرُ المواقفَ المختلفةَ مِن داخلِهِ، مِن ذاتِهِ ومِن قلب التأمّل؛ صورٌ تبنّتْ صياغاتٍ رمزيّةً غزليّةً موحيةً، فلجأت ذهونُنا إلى تفكيكِ الرمزِ بها مرهقةً حينًا، منسجمةً حينًا آخر، بمعاني وملامح الغزل والحلم، ولا يمكن للقارئ منّا أن يقرأ قصائدَهُ مُتّخذًا منحًى سطحيّا لفهمِها، إنّما تُلزِمُنا صورُهُ الشعريّةُ أن نقرأ قصائدَهُ بوعيٍ كامل، وذلكَ لِما تحويهِ مِن عاطفةٍ وفكرةٍ وحلم، حتّى في نَظمِهِ المُقفّى ووصولًا إلى كتاباتِهِ الممزوجةِ بروْنقِ التفعيلةِ المختلفة.
أديبنا وشاعرنا الدكتور فهد أبو خضرة، ودوْرُهُ وعملُهُ على وضع الكتب التعليميّةِ والتدريسيّةِ بمشاركة الآخرين، وعلى مدار سنوات مضت وسنوات آنيّة، فها هو كما عهدناهُ دائمًا، يدأب لوضع الكتب التعليميّةِ بمناهجِها المُتنوّعِة ومراحلها المختلفة، ابتداءً من المرحلةِ الابتدائيّة، مرورًا بالإعداديّةِ ووصولًا إلى الثانوية، بكلّ ما يخصُّ مجالاتِ اللغةِ، كالقواعد والتعبير الشفويّ والكتابيّ وفهم المقروء والمسموع، وكلّ هذا بموجب المنهج الجديد، جاهدًا في جميع كتبهِ أن يضمّها الفائدة القصوى للتلاميذ، لتساعدَهم في توسيع معلوماتِهم وتطوير تفكيرهم وسلامة لغتهم، ولتكونَ إلى جانب هذا كلّه ممتعةً لهم، وتُشكّل عندهم دافعًا لأن يقرؤوا ويُطالعوا، فيصبح الكتابُ جزءًا من حياتهم ليس فقط المدرسيّة بل الحياتيّة أيضًا.
فهو حقا استطاع بإشراقة أحرف اسمِهِ أن يضيءَ عتماتِ الأذهان لدى طلّابنا، فنصبحُ مُرتشفينَ أجملَ القصص، ثمّ نغفو وفي ذاكرتنا تتردّدُ أعظمُ الصورِ الشعريّة، ولأنّي اخترتُ أن أستهلَّ مداخلتي بمقطوعةٍ شعريّةٍ له، ها أنا أسمحُ لنفسي أن أنهيَها أيضًا بتتمّةِ القصيدة، فيأتي صوتُ شاعرنا قائلا: وأصرُخُ مِلْءَ ليلِ الرُّعبِ/ إنّي الآخَرُ – الجارُ،/ فتَدْوي في رحابِ الأقِ: كيف تعانقُ الذّاتُ/ ويرتدُّ بصدى في العُمْقِ: كيف تعانقُ الذّاتُ/ فتَكبُرُ بيننا الأبعادُ.. تُقصينا المسافاتُ/ أيا ذاتًا منَ الأحقادِ/ إنّي الآخرُ- الجارُ/ فمُدّي للعناقِ يَدًا/ لعلَّ الحقدَ ينهارُ/ فتلمعُ بابتسام الذّئبِ/ أشداقُ الهوى المُرِّ/ ويُغرزُ في مطاوي العظمِ/ حدُّ النّابِ والظُّفرِ/ وأُبصِرُ حوْليَ الأشباحُ/ ترقُصُ في محافِلِهمْ/ تُعلّمُني سبيلَ الحُبّْ/ كيفَ تُعانقُ الذّاتُ/ وكيفَ يُعانقُ الآخَرْ/ وأسمعُ من وراءِ الغيْبِ/ صوْتَ تَمَزُّقٍ ضاري/ يُردِّدُ ما تُكِنُّ النّفسُ/ يَكشِفُ سِرَّ أسراري:/ لأنّي قد رأيتُ الحُبَّ يَهرُبُ مِنْ مَعابدِهم/ لأنّي قد رأيتُ اللهَ يَهجُرُها ويَهجُرُهُمْ/ لأنّي قد سئمتُ لهُمْ دروبَ الحقدِ والتيهِ/ أُعلّمُهُمْ،/ فتَجفوني وتُنكِرُني مَحافلُهمْ/ ولكن.. يعرفُ الإصرارُ/ كيفَ يُفتّتُ الصّخرُ..
مداخلة د. ياسين كتاني: الدكتور فهد أبو خضرة من صفوة الأدباء والباحثين في بلادنا وفي العالم العربيّ، له ثمانية دواوين شعريّة قدّم لها كبارُ الباحثين في بلادنا بروفيسور دافيد صبيح، بروفيسور جورج قنازع، بروفيسور إبراهيم طه، والأستاذ حنّا أبو حنّا، وقد ضمّ هذه الدواوينَ مُجلّدٌ ضخمٌ صدرَ عام 2015 عن مجمع القاسميّ للغة العربيّة، تحت عنوان الأعمال الشعريّة الكاملة"، وكان لي شرف كتابة مقدّمته.
للدكتور فهد أبو خضرة رواية وحيدة هي "الليل والحدود" كتبها عام 1964، وهي باكورة إبداعاتِهِ الأدبيّةِ، وفي مجال الأبحاثِ والدّراساتِ كتبَ عشراتِ المقالات، وله كتبٌ علميّة كثيرة تبحث في الأدب والنحو والبلاغة منها: ابن المعتز- الرجل إنتاجه الأدبيّ/ دراسات في الشعر والعروض/ فصول التماثيل في تباشير السرور مع بروفيسور قنازع/ السرقات الشعريّة وما يتّصل بها/ التوافق اللفظيّ/ والحقيقة والمجاز (صدر عن مجمع القاسمي عام 2009)، وله كذلك كتبُ تدريسٍ عديدةٍ في اللغةِ العربيّة، للمدارس الابتدائيّةِ والإعداديّةِ والثانويّة.
ترأسَ د. فهد أبو خضرة معظم اللّجان الّتي أقيمتْ في فتراتٍ مختلفةٍ للمناهج والبجروت، وقد حالفني الحظ أن أكونَ أحدَ أعضاءِ لجنة المنهج الدراسيّ الجديد في الأدب العربيّ والعالميّ، للمرحلة الثانويّة في المدارس العربيّة الّتي ترأسها الدكتور فهد قبل ثلاثة عشر عامًا تقريبًا، وقد ضمّت اللجنة كبارَ الباحثين في الأدب العربيّ والمناهج بروفيسور جورج قنازع، بروفيسور فاروق مواسي، د. محمود أبو فنّة، الأستاذ حنّا أبو حنّا، السيّدة خولة السعدي، بروفيسور سليمان جبران، أ. كمال اغبارية، السيّدة إنعام برانسي، د. نبيه القاسم، ود. حسين حمزة، وقد ظهرت براعة د. فهد أبو خضرة في إدارة االجلسات والحوار، وأثارَ الاهتمامَ بالمنزلةِ المعرفيّة المُبهرة الّتي يتميّز بها، وقدرتُهُ على تجسير الهوّة بين وجهات النظر المختلفة التي كانت تصل أحيانًا حدّ الخصام والنقاش، كان في جوهرِهِ نقاشًا ثقافيًّا عميقًا حولَ تصميم الذائقة الأدبيّةِ للأجيال القادمة، عبرَ النصوصِ وبناءِ هُويّةِ العربيّ الفلسطينيّ في (إسرائيل). عشرات الجلسات أدارَها أبو حبيب على مدار أعوام تميّزتْ بالروح الديمقراطيّة وبالحيويّة، وبالابتسامة التي تُميّزُهُ وبالإعداد الحاذقِ للجلسات، وأنا لا أعتقدُ أنّ أحدًا غيرَ د. فهد أبو خضرة كان بمقدورهِ أن يُديرَ هذا الاختلافيّ في وجهات النظر.
امّا المحورُ الآخرُ مِن تجربتي مع د. فهد أبو خضرة فهي فترة السّنوات التّسع الأخيرة، فقد ضمّنا مَجمع القاسمي للغة العربيّةِ عام 2009، لنعملَ سويّة لخدمةِ اللغة العربيّة بإنتاج المعرفة، وخدمة أبناء شعبنا في أعمالٍ جبّارة، لا يقوى عليها إلّا مَن امتلكَ ناصيةَ المعرفة والإيمان القويّ والعزيمة الصلبة. بدأ ذلك في أعقاب كيدٍ دُبّرَ بليْلٍ ضدّ هذا الرجل الصادق الصدوق. كانت مجلة المجمع مجلة الأدب العربي المُحكّمة أوّلَ ما شرعنا به، وجنّدنا لها هيئةَ تحريرٍ من الأكاديميّين الكبار، ووضعنا لها قوانينَ صارمةً في التّحكيم وشروط النشر، وقد عُدّت المجلّة اليوم بعد صدور أحد عشر مجلّدًا، تتصدّر المجلات المرموقة ذات السمعة الطيّبة في بلادنا وفي العالم العربيّ.
أمّا المشروع الضخم الّذي أدارَهُ هذا المايسترو البارع د. فهد أبو خضرة، فهو قاموسُ المَجمع في ألفاظِ العربيّةِ المُعاصرة الراقية الشائعة في 1350 صفحة، وهو مشروعُ الدكتور فهد الّذي طالما حلم بتحقيقه. استغرقَ العملُ فيه ثلاث سنواتٍ عملَ معه في القاموس طاقمٌ من ستّةِ باحثين وفقَ خطّةٍ علميّةٍ محْكَمة، وقد خضعتْ جميعُ موادّ القاموس للنقاش في جلسات طاقم القاموس كلّ يوم سبت على مدار السنوات الثلاث.
يضمّ القاموسُ الكلماتِ العربيّةَ المُعاصرةَ الواردةَ في نصوصٍ متنوّعةٍ، كُتبتْ داخلَ البلادِ أو خارجَها في الجرائد والمجلّاتِ الثقافيّة، وموادَّ التدريس المُقرّرةِ في مختلفِ المراحلِ في المدارسِ، وموادّ التدريس المستعملة في الكلّيّات والجامعات في موضوع اللغة العربيّة والحضارة الإسلاميّة، بالإضافةِ إلى كتب الإبداع الأدبيّ في أنواعهِ المختلفة، وقد رُتّبَ المعجمُ بحسب صِيَغ الكلمات وليس بحسب أصلِها، بهدفِ التسهيلِ على الراغبين في استعمالِهِ، وقد خرجَ إلى النور عام 2012، وهو من أنْفَسِ وأمْيَزِ ما صدرَ في بلادنا من مشاريع ثقافيّة.
و"على قدْرِ أهلِ العزمِ تأتي العزائمُ"، فسرعانَ ما التأمَ الفريقُ ثانية، ليُصدرَ مُعجمًا آخرَ "المعجم الوافي في مصطلحات اللغة العربية وآدابها"، تلاهُ عملٌ موسوعيٌّ ضخمٌ، شاركَ فيهِ أكثرُ مِن مئةِ باحثٍ من بلادنا ومن العالم العربيّ، هو "موسوعةُ دراساتٍ وأبحاثٍ في الأدب الفلسطينيّ المُعاصر"، الذي استغرقَ العملُ فيه ثلاث سنوات، أيضًا صدرَ منه ثمانية مُجلّداتٍ، وقد فازَ هذا العملُ بجائزةِ الثقافةِ لمؤسّسةِ التعاون بنحو 90 ألف دولار. ويتفتّقُ ذهنُ أبو حبيب المبدع عن مشروعٍ جديدٍ آخر، طالما فكّرَ بإنجازهِ على نحوٍ مختلفٍ غير معهود، "موسوعة القصائد المختارة من الشعر الفلسطينيّ الحديث"، في مُجلّديْن. تضمُّ الموسوعة عددًا كبيرًا من القصائد المختارةِ التي كتبها الشعراءُ الفلسطينيّون في بلادنا، من عام 1948 حتى عام 2014، وقد قُسّمت السنواتُ إلى سبع مراحل، لتعكسَ القصائدُ أمريْن رئيسيّيْن هُما:
1- الحداثة اللافتة التي وقعت خلال هذه المراحل، والقضايا البارزة فيها، والمواقف التي واكبت هذه الأحداثَ والقضايا.
2- الاتّجاهات الشكليّة والمضمونيّة التي تُمثّلُ كلّ مرحلة من هذه المراحل بصورة عامّة، وتُمثّلُ هذا الشاعر وذاك بصورة خاصّة.
وقد اختارَ طاقمُ الموسوعة (المؤلف من خمسة باحثين) أفضلَ القصائد التي تُحققُ الهدف، وقد أنجز هذا العملُ في مدّةِ عاميْن كامليْن، صدر الجزءُ الثاني منه عام 2015.
وبعد، الإخوةُ والأخوات، في ختام مُقدّمتي لكتاب الدكتور فهد "الأعمال الشعريّة الكاملة" كتبتُ: "إنّ مَجمع القاسمي إذ يحتفي بإنجازاتِ الدكتور فهد أبو خضرة الأدبيّة والعلميّة، وبإسهاماتِهِ الجليلة في إغناءِ حياتِنا الثقافيّة، ليَفخرَ أن يُقدّمَ للباحثين والأدباء ومُحبّي العربيّة هذا الإصدارَ عرفانًا ووفاءً لد. فهد أبو خضرة الأديب والباحث والمعلم والإنسان". واليومَ، لا أجدُ أبلغَ من هذه الكلمات لأقولها في هذا المَحفل الكريم. أرجو للدكتور فهد أبو خضرة عمرًا مديدًا ومزيدًا مِن العطاء والتألّق.
مداخلة د. فهد أبوخضرة: حضرة الأخ المحامي فؤاد نقارة مؤسّس ورئيس نادي حيفا الثقافيّ، حضراتُ الأخوات والإخوة الأفاضل من أعضاء النادي والمُبدعين والباحثين والمُربّين مع حفظ الألقاب والمناصب، الحضورُ الكرام، أسعدَ الله مساءَكم بكلّ خير. أودّ أن أعبّرَ أوّلًا عن شكري الجزيل وتقديري العميق للإخوة الأعزّاء في النادي الثقافيّ، الّذين أكنُّ لهم كلّ المَحبّة والاحترام على هذه اللفتةِ النبيلة، مُعتبرًا هذا التكريمَ شهادةَ تقديرٍ أعتزّ بها كلّ الاعتزاز، وأمَلي كبيرٌ أن يظلَّ هذا النهجُ التكريميُّ متواصلًا، يشملُ كلَّ المُبدعين والمُفكّرين الذين يستحقّونَ التكريم، لأنّهُ يُمثّلُ موقفًا حضاريًّا إيجابيًّا داعمًا للإبداع والفِكر، وهُما ركنانِ أساسيّانِ مِن أركان التقدّم الحقيقيِّ عندَ الأمم، كما أودّ أن أعبّرَ عن شكري وتقديري بعريفِ هذه الأمسية الإعلاميّ نايف خوري، والمُربّية رنين صبّاغ متّى، والشاعر رشدي الماضي، ود. ياسين كتاني، والشاعرة آمال عوّاد رضوان، والمبدعين الذين شاركوا في تقديم الكلمات الطيّبة التي تستحقّ منّي أعظمَ التّقدير، ولكلّ الأخوات والإخوة الذين شرّفوني بحضورهم، واسمحوا لي بعد هذا أن أتحدّثَ بإيجازٍ شديدٍ عن تجربتي الشخصيّةِ مع الإنتاج الأدبيّ الإبداعيّ والفكريّ والنشاطات الثقافيّة، راجيًا أن يكونَ فيها ما يُنيرُ بعضَ الاهتمام بهذا المجال أو ذاك، وبهذا النشاط أو ذاك، حين أنظرُ اليومَ إلى الوراء، فإنّني أرى سنواتٍ طويلة حافلة بالعمل المتواصل في مجال الإنتاج الأدبيّ الإبداعيّ والفكريّ، اتّخذتُ فيها هذا العملَ هوايةً ومهنة في وقتٍ واحد. أمّا الهواية ففي الكتابات الإبداعيّة الشعريّة والنثريّة التي كتبتها لدوافع نفسيّة داخليّة، كانت تتواضعُ أحيانًا فتكتفي بالتأثيرِ الجَماليّ الذي كانت تحمله، ويكبرُ طموحُها أحيانًا أخرى، فلا ترضى بأقلّ من إصلاح العالم كلّه. وأمّا المهنة ففي العمل التعليميّ والتربويّ والثقافيّ الّذي امتدّ هو الآخرُ سنواتٍ طويلة، والّذي رافقتْهُ في معظم الأحيان كتاباتٌ مُتعدّدةُ الاتّجاهات، لها أهدافٌ مُحدّدةٌ وأسسٌ مُتعارَفٌ عليها في العالم كلّه. بدأتُ الاهتمامَ بالإنتاج الأدبيّ منذ أكثر من خمسين عامًا، ويمكنُ أن أقسّمَ هذا الاهتمامَ إلى ثلاثة مجالاتٍ رئيسيّة، يتعلّقُ الأوّلُ منها بالإبداع الأدبيّ؛ شعرُهُ ونثرُهُ، والثاني بالكتاباتِ الفكريّةِ الأكاديميّة وغير الأكاديميّة، والثالث بالكتب التّعليميّة.
وكان الشعرُ في المجال الأوّل هو التوجّه الرئيسيّ الّذي خصّصتُ له معظمَ وقتي في السنواتِ الأولى، وقسمًا غيرَ قليلٍ من وقتي خلالَ كلّ السنوات التالية وحتّى اليوم، وكانت حصيلة ما نشرته من كتب الشعر تسعُ مجموعات، بالإضافةِ إلى الجزء الأوّل من الأعمال الشعريّة، وإلى الأعمال الشعريّة الكاملة. في هذا الشعر تأثّرت بعدّة مدارس أدبيّة أبرزها ثلاث هي: الرومانسيّة والحداثة والواقعيّة الجديدة، وذلك في ثلاث مراحل مُتتالية: في المرحلة الأولى كتبتُ الكثيرَ مِن الشعرالّذي يتعلّقُ بالذات الفرديّة، والقليلُ من الشعر الذي يتعلّقُ بالذات الجماعيّة والذات الإنسانيّة، متأثّرًا بالمدرسة الرومانسيّة، أمّا في المرحلة الثانية فقد خصّصتُ الذات الإنسانيّة بالنصيب الأوفر، متأثّرًا في الأساس بمدرسة الحداثة التي انتشرت في الشعر العربيّ انتشارًا واسعًا في سنوات السبعين، بعد ان انطلقت من لبنان في أواسط الخمسين. وأمّا في المرحلةِ الثالثة، فقد توجّهت بمعظم ما كتبتُهُ للذات الجماعيّة، متمثّلة غالبًا بالذات الفلسطينيّة بكلّ أبعادها ومركّباتها ومقوّماتها متأثّرًا في الأساس بمدرسة الواقعيّة التي تلتقي مع الحداثة الاجتماعيّة في نقاطٍ عديدة. وكانت هذه المدارس الثلاث بالإضافة الى مدرسة الواقعيّة الاشتراكيّة من أبرز المدارس الّتي تأثّر بها زملائي شعراء الجيل الثاني، في تلك المراحل المذكورة، وقد برزت في المرحلتين الثانية والثالثة بصورةٍ واضحةِ الرموز والإشارات المستمدّة من التراث المسيحيّ، خاصّةً في القصائد التي تحملُ قبل عنوانها الخاصّ عنوانًا عامًّا مُتكرّرًا، هو من رسائل التلميذ الرابع عشر، وقد استخدمت هذه الرموز والإشارات لهدفٍ إنسانيّ أو لهدفٍ وطنيّ أو لكليهما معًا، وذلك في كلّ القصائد، كما برزت في المرحلتيْن المذكورتيْن القصائدُ القصصيّة التي تحمل كلٌّ منها بُعدًا رمزيًّا خاصًّا، لا يختلفُ من ناحيةِ الهدف عن الرموزِ السابقة، يحتاجُ في معظم الأحيان إلى نوعٍ من القراءة والإشارات المُتعمّقة لكشفهِ والإحاطةِ بكلّ جوانبهِ.
أمّا النثر الإبداعيّ فكان نصيبُهُ أقلّ بكثير، وهو يقتصرُ على رواية قصيرة بعنوان "الليل والحدود"، ومسرحيّة بعنوان "الطريق إلى القمّة"، وقصّة للأطفال بعنوان "جزيرة الطيور"، وعدد غير كبير من القصص القصيرة.
أمّا الكتابات الفكريّة الأكاديميّة وغير الأكاديميّة فقد خصّصتُ لها كثيرًا من الوقت والجهد، منذ أكثر من خمس وأربعين سنة، أي منذ سنوات التسعين حين بدأت الحياة الأكاديميّة في جامعة حيفا، وفي الأكاديميّة العربيّة للتربية في حيفا، ويُسعدُني أن تصلَ إلى أكبر عدد من الباحثين والمثقفين المهتمّين بمواضيعها، وأن تكون عند حُسن ظنّي بها، ومن المؤكّد أنّ هذه الكتابات تشكّلُ اتّجاهًا آخر، يختلفُ اختلافًا كبيرًا عن الاتّجاه السابق، وأنّ الجمْعَ بينهما يحتاجُ الى انتباهٍ شديد، وقد صدرت لي في هذا المجال خمسة كتبٍ، يتناولُ واحدٌ منها الأدبَ العربيّ القديم، وواحدٌ الأدبَ العربيّ الحديث، وتتناولُ ثلاثةٌ منها البلاغة العربيّة، هذا بالإضافة إلى مقالاتٍ عديدة باللّغتيْن العربيّة والإنجليزيّة، نُشرتْ في مجلّاتٍ مختلفة داخلَ البلاد وخارجَها، ولكنّها لم تُجمع في كتاب حتّى الآن، وبالإضافة إلى كتابٍ حقّقتُهُ بالاشتراك مع الأستاذ د. جورج قنازع، هو كتاب "فصول التماثيل لابن المعتز"، وقد صدر عن المَجمع العربيّ في دمشق سنة 1989.
وهناك الى جانب ذلك معجم للغة العربيّة هو" معجم المجمع"، يضمّ ما يقاربُ ثلاثين ألف كلمة، اشتركتُ في إعدادِهِ مع مجموعة من الباحثين في إطار مَجمع القاسمي للغة العربية، وقد صدرَ عن المجمع سنة 2012. وهناك أيضًا "معجمٌ لمصطلحاتِ اللغة العربيّة وآدابها"، اشتركتُ في إعدادِهِ مع الباحثين أنفسِهم، وفي إطار المَجمع نفسِه، وقد صدرَ أيضًا عن مَجمع القاسمي للّغة العربيّةِ سنة 2013، وهو يضمّ مئات المصطلحات الأدبيّة واللغويّة، وكان لي شرف المشاركة في إعداد "موسوعة أبحاث ودراسات في الأدب الفلسطينيّ الحديث"، وكذلك المشاركة في "موسوعة القصائد المختارة من الشعر الفلسطينيّ الحديث"، وكنتُ في كلتيْهما عضوًا في هيئة التحرير، وهاتان الموسوعتان أيضًا من إصدار مَجمع القاسمي للّغة العربيّة، وأنا أعتبرُ هذه الكتب في غاية الأهمّيّة لذاتها أوّلًا، وللعمل الجماعيّ الّذي رافقها ثانيًا، وهو عملٌ نحتاجُ إليه في مجتمعنا، بالإضافة إلى ذلك، عملتُ رئيسًا لتحرير مجلّة مواقف الصادرة عن مؤسّسة المواكب، وذلك منذ صدورها في الناصرة سنة 1993 وحتى توقّفها عن الصدور سنة 2015، وهي مجلّة ثقافيّة كانت تصدر ثلاث مرّات في السنة، وكان العمل فيها تطوّعيًّا دائمًا وجماعيًّا دائمًا، وهما أمران يستحقّان الإشارة، وإلى جانب هذا، فقد شاركت خلال سنوات طويلة في نشاطات ثقافيّة عديدة على الصعيد القطريّ، تشمل المؤتمرات والندوات والمحاضرات في المجالات الأدبيّة المختلفة، وقد تشرّفت بالمشاركة في إقامة مَجمع مُستقلّ للغة العربيّة في هذه البلاد، ورئاسته فترتيْن من الزمن، ثمّ المشاركة في إقامة المَجمع القاسمي للغة العربيّة برئاسة دكتور ياسين كتاني.
المجال الثالث هو الكتب التعليميّة، وقد صدر منها حتّى الآن، وبالاشتراك مع زملاء آخرين في غالب الأحيان ما يزيد على ثلاثين كتابًا في اللغة والأدب والفهم والتعبير لجميع المراحل الدراسيّة، إضافة إلى ثلاثة كتب مخصّصة لطلاب الكلّيّات ومسارات إعداد المعلمين، وقد وضعنا نُصْبَ أعينِنا في هذه الكتب ثلاثة أهدافٍ رئيسيّة هي: المحافظة على اللغة العربيّة السليمة، وترسيخ الاعتزاز بها، وبناء إنسان مُفكّر ومثقفٍ قادرٍ على مواكبةِ العصر، والتجديد في أسلوب التدريس، وهذه الأهدافُ في رأينا جديرةٌ باهتمام المؤلفين جميعهم، وممّا يسرّني في ختام هذا الحديث، أنّني ما زلت مستمرًّا في كتابة الشعر والأبحاث والكتب التعليميّة، والمشاركة في العديد من النشاطات الثقافيّة في أماكن مختلفة، والمشاركة في عضويّة مَجمع القاسمي للغة العربيّة الّذي قدّم وما زال يقدّم خدماتٍ جليلة لثقافتنا العربيّة، ولغتنا العربيّة في هذه البلاد، راجيًا أن تظلّ الحياة الثقافيّة في مستواها الذي عهدناه وفي نشاطها الذي رافقناه، وأن تُعدّ كلّ العُدَد اللّازمة لمواجهة المُستجدّات القادمة، وإنّني آملُ أن أكون قد حققتُ، بفضل من الله، بعضَ ما توقّعته من النجاح في ما قمتُ به، وإلّا فقد حاولت، وذك حسبي، ولكم مني كلّ الشكر والتقدير وكلّ التمنّيات الطيّبة.