"ما الثورة الدينية؟" داريوش شايغان
(الحضارات التقليدية في مواجهة الحداثة . ترجمة د. محمد الرحموني ، مراجعة د. مروان الداية ـ دار الساقي . الطبعة الأولى 2004 . سيُرافِقُنا هذا الكتاب طوال هذا الفصل الذي سنتحدث فيه عن نموذج من "الثورة الدينية" هي الثورة الدينية الإيرانية، التي يتحدث عنها الباحث المذكور في الكتاب المشار إليه. كما يتحدث، عن الإسلام ، وعن كل الديانات وعن ثوراتها وعن الثورات غير الدينية . تقتضي الموضوعية أن ننظر إلى الدين في تاريخيته، بل وإلى كل البنى الفكرية على أنها تعيش لفترة محددة وغير مؤبدة، بحيث لا تطغى حقبة تاريخية على أخرى ولا تستمر إلى الأبد، بل تتحطم وتنقطع، بحكم عدة عوامل و قوانين . لقد شهد العصر الأول هذا النزوع السحري الذي يميز الناس عن بعضها بالانتساب إلى الآلهة وإلى الأنبياء أوإلى "أهل البيت" ، واستمداد نسب شرف يضفي الشرعية ويباركه الناس أو وزارة حبوس ونقباء وعدول من شأنهم إثبات الشجرة الجينالوجية بالنسبة للأسرة التي تبرهن على محتدها . "المملكة الشريفة" لقب أطلقه السعديون في القرن السادس عشر، ثم نافستهم الأسر الملكية التي تعاقبت لاحقا وسعت إلى إسقاط الميزة السابقة وأكدت على طهارة الدم وعلى شرعية الخلافة الروحية . هذا وتلزم الإشارة أيضا إلى ظهائر "التوقير والاحترام "، التي تثبت شرف مواطنين مواطنين نجوما ، تشملهم "البركة" ، كما تشمل بعض الزوايا.... كما تلزمنا نفس النظرة التاريخية بالطبع أن ننظر إلى الكتاب نفسه في تاريخيته... )
ينقسم الكتاب إلى قسمين : القسم الأول ، درس فيه المؤلف "البنى الكبرى" للفكر التقليدي وعرض لانهيارها مع انبثاق العصر العلمي والتقني في أوروبا خلال القرنين الخامس عشر والسادس عشر وترتب عنهما حدوث تغيير مذهل في وعي الإنسان وذاته ومركزه في العالم (رأى فيه المؤلف "ثاني تحول ثقافي للبشرية" ، حدث التحول الأول ما بين القرنين السابع وقد نقل الإنسانية من "الرؤية التأملية" إلى الفكر التقني ولم يعد ينتسب إلى الآلهة والأنبياء ولم يعد الإنسان لاسيد نفسه ولا سيد الآخرين، بل صار يتصرف على وحي قوى لاواعية ولا عقلانية تتمثل في لا شعوره .
في القسم الثاني، يتحدث المؤلف عن الوضع الراهن للحضارات التقليدية "فهذه الحضارات تعيش مأزقا حقيقيا [ يتجلى في ] كونها فقدت بناها الفكرية الكبرى "، بل فقدت أيضا مبررات وجودها "بعد الهجمة الحداثية الأوروبية" .
ويقترح للخروج من المأزق التاريخي، مخرجا يتلخص في: فصل السياقين الثقافيين الغربي والشرقي عن بعضهما وذلك بأن نعي أن الدين ليس هو الإيديولوجيا وأن قوانين التاريخ تخضع لمعاييرغير معايير العودة العمودية إلى الوجود.
(يكرر شايغان في جميع ما نشره بعد 1982 ، فكرته الجوهرية التي يمكن تلخيصها في أن : الغرب والشرق يعيشان مأزقا حقيقيا ، فالفكر في الغرب كف عن أن يكون فلسفيا، بأتم معنى الكلمة ، كما كف الفكر في الشرق عن أن يكون دينيا ،لكنه صار شيئا بين الإثنين ، لذلك فإن النمط الفكري الوحيد القادر حاليا على فرض نفسه هو نمط جديد من الفكر لن يكون فلسفيا، بأتم معنى الكلمة، كما لن يكون دينيا ـ بل سيكون شيئا بين الإثنين ، يأخذ من الدين طاقته الوجدانية ، ومن الفلسفة مظرها المعقول والاستدلالي ، وهذا النمط الهجين هو الإيديولوجيا).
فالثورات الدينية (وآخرها، الثورة الإيرانية ) هي علامة على فشل مزدوج: عجزُ الحداثة عن إقناع الجماهير المحرومة والمطروحة على جانب التاريخ وعجزُ التقاليد الدينية العتيقة عن استيعاب ما عرفته العصور الحديثة من قطيعة مع الماضي . "وهكذا ، نحن مع انبجاس نزعة ظلامية جديدة ، هي النزعة التي سميتها أدلجة المأثور الديني [...]".
إن الخطاب الفلسفي باعتباره خطابا محطما "للأصنام الذهنية" هو الكفيل بإزالة هذه الظاهرة ـ التي كان يسميها فيبر: نزع الهالة السحرية للعالم.
لكن في الواقع إن تحرر الإنسان جاء على حساب عالمه الداخلي، فبقدر ما تحرر الإنسان من هيمنة الآلهة والأساطير وألغى "الأصنام الذهنية"، خلق أصناما أخرى، أشد استبدادا(ص32). إننا نشهد منذ وقت ليس بقصير ظاهرة تكذب توقعات المتمسكين بالنزعة التاريخانية تتمثل في الإنفجار المفاجئ للإنسان المُتديّن "الذي اقتحم التاريخ ساعيا إلى القضاء على القيم التي تراكمت عبر خمس قرون من العلمنة" [...] هذا " وقد لعب هيتلر ـ من دون شك ـ بوصفه شامانا جديدا للنظام التكنولوجي، دور المُترئّس للقداس الديني الوسيط والكاهن في خدمة عبادة التطابق والإيمان والدم والعِرْق . وكان الإنسان الصانع ـ بتعبير كاسيررـ ضمن هذا "الإنفجار العتيق"(توماس مان)، في خدمة الإنسان الساحر . ولـأن هيتلر كان كاهن ديانة جديدة منافية للعقل [ ف] قد كان عليه أن ينشر هذه الديانة [..] دون أن يترك شيئا للصدفة". وهكذا أصبحت الإيديولوجيا ديانة بديلة، تتمثل في الفاشية، كدين بديل .. "اليوم ، مع الثورات المسماة "دينية" [ صار مكبوت ] البورجوازي الصغير ونفسيته المهزومة [هي] ما يبرز على السطح معبئا الجماهير المذرة العادمة الهوية"[...] " والحال أن الدين هو نقطة تبلور ما يسميه يونغ الدساتير الثقافية، وهي دساتيرتقوم بدور السياج في وجه تفكك أشكال النفس المتسامية [...] ، فالدين يقوم بدور الحاجز الواقي بين دفعة غريزية مبعدة عن المركز ونزوع محفوف بالمخاطر نحوالاستعمال الـأداتي للعقل ، بين انفجار الإنسان الساحر وعقلنة الإنسان الصانع". لقد تكفل الدين لآلاف السنين من حفظ التوازن بينهما ومن تدبير شؤون العالم باعتباره نظاما اجتماعيا وسياسيا. غير أن ذلك توارى بعد حين ،وفي مقابله، برز الإنسان الساحر من بين أنقاض الدين، "لكي يلغي بخفّة المُدمّر، الإنسان الصّانعَ ـ الذي ـ بوصفه حاوي كنوز الإنسانية الروحية ـ [ يستطيع] المساهمة في الثورة الروحية للفرد [..] ويقدر حتى على إلهام حركات سياسية" كالحركة الهندية مع غاندي . لكن الدين "باعتباره شاملا بطبيعته " "فإن أي محاولة[ لجعله نظاما سياسيا] ستحوله إلى نظام شمولي " مغلق، وقبليّ .
لقد تمخض عن انبثاق العصر العلمي والتقني في القرن السادس عشر تغيّرٌ مذهلٌ في وعْيِ الإنسان بذاته وبمركزه في العالم ومهّد لحدوث التَّحول الثاني للبشرية الذي انطلق في القرن الثالث عشر والذي يتمثل في الثورة الكوبرنيكية حيث طُرد الإنسان من مقرّه ـ في مركز الكون "وكانت فلسفة النهضة قد قوضت نظام العالم التراتبي كما تمثله القديسان أنسليم والقديس توماالأكويني ، فالقول بالتماهي بين الـألوهية والكون هو ما يعطي العالم هالته السحرية ".
غيرأن النظرة الإحيائية الطبيعية التي سادت في عصر النهضة وقالت بوحدة عضوية للكون كله ، اضمحلت بدورها الآن ، أو أنها تجاوزت مفهوم الطبيعة واستمرت قدرة الله ، ولكن لم تعد ثمة لله علاقة مباشرة بالعالم .
هكذا تحطمت البنى الفكرية الكبرى القديمة، وخلقت علاقات مستحدثة بين الإنسان والطبيعة والألوهية ، فبيكون يعتبر النمط الغائي في المعرفة على علاقة بالأصنام الذهنية ولم يكتف برفض الميتافزيقا بما هي علم تقليدي يهتم بالعلل الغائية، بل أوكل أيضا إلى الفيزياء، بما هي علم حقيقي ، مهمة معرفة العلل الفاعلة .
لقد صار العالم الآن ، مفرغا من جوهره السحري كما صار يمثل امتدادا هندسيا لقوانين رياضية ، وأصبح الإنسان ذاتا معزولة وذاتا معلقة في العالم ، ومجردا من مفهومه الأخلاقي ، أما الطبيعة فقد نزعت عنها الصبغة السحرية .
مع بيكون حصل الفصل بين الدين والفلسفة وبين النظرية والممارسة، فالفلسفة نظرية وممارسة وليست تقاليد ومعتقدات.
أما مصير الفلسفة الإسلامية فيرمز لها داريوش شايغان بابن سينا في المشرق وابن رشد في المغرب الإسلامي . ف"كوسمولوجيا" ابن رشد المتقيدة بالمشائية الأرسطية تقيدا صارِماً توصلت إلى تحطيم التراتبية الفاصلة بين العالم العلوي والعالم السفلي فيما أبقى ابن سينا على تراتبية "العقول" السماوية والأرضية وفضاء تحولاتها المتبادلة، أي أنه أبقى على"صلة الوصل" التي كانت تؤمن تواصل مختلف مراتب الوجود، وتم اختزال علم التأويل الذي كان يهدف إلى إزالة الحجب عن عالم المثال إلى تقنية بحتة لرد المعنى الحرفي إلى المعنى المجازي، "وبذلك لم يعد التأويل يجسد الفعل العرفاني لعلم اللاهوت السالب "، لكن ابن رشد رفض فكرة "العقل الفعال" عند ابن سينا، باعتباره "واهب الصور" ، ورفض أيضا ذلك التصور العرفاني الذي يجيز التماثل بين عقل الفلاسفة وبين ملك الوحي عند الأنبياء.
ويتساءل ه. كوربان في هذا الشأن : والآن بعد انهيار العقول السماوية، ما مصير الفكرة التي شكلت أساس أنثربولوجيا إبن سينا ، أي التماثل بين العقول السماوية والعقول البشرية ؟ ما مصير التماثل بين العقل الإنساني والعقل الملائكي الفعال ، وعلاقة عقل سماوي بالعقل البشري الذي يحركه "شوقه" إليه ؟
كانت السينوية قد ألهمت السهروردي الذي تمخضت عن حكمته الإلهية مدرسة أصبهان في القرن السابع عشر .
(ينتصرالمؤلف كثيرا لابن رشد والرشدية التي "كانت تصب في مدار السياسة لتتجسد في أنثربولوجيا هوبز وميكيافيلي" ـ كأنه ـ ابن رشدـ لم يدشن "النزعة التوفيقية" حيث صارت الفلسفة هي "الأخت الرضيعة للدين ".. و يجعل من ابن سينا سببا في غياب فلسفة تاريخية إسلامية نظرا للنقص في التجربة السياسية مما منع المسلمين من تطوير معنى للتاريخ مناسب للتحولات الكبيرة التي شهدتها الإنسانية ابتداء من القرن 15 و16 م. بل وأدى إلى "انشطار العقل والنفس: ذلك المرض الذي عانى منه الغرب ، بل " وإلى "العدمية " نفسها مرورا بخلقه ل"أنثربولوجيا عرفانية وسياسة شرعية ضامرة وأسيرة للعقيدة الدينية الأخروية الانتظارية الاستبدادية التي أدت إلى إقامة الدولة الصفوية " . أخذ الكثيرون بهذه الفكرة التي انتشرت والتي ليس هذا موضع تفصيلها أو الاعتراض عليها).
لكن ، لنتوقف لحظة عند "العدمية" التي تسبب فيها ابن سينا (؟) . يقول لنا الباحث أن ف. بادر تطرق إليها (أي إلى العدمية)، بقدر أكبر من المنهجية ولقد استبق نيتشه نفسه و"نظرياته الإنقلابية" عندما توصل إلى الاستنتاج الرهيب القائل بـأن "الله قد مات". يرى ن. ف. بادر أن الجذر الروحي للكارثة الغربية تكمن في القطيعة بين الإيمان والمعرفة ، والتي ظهرت بشكل تدريجي ابتداء من الإنسية والإصلاح الديني (البروتيستانتي) ، وقد قادت هذه القطيعة من ناحية إلى النزعة الإلحادية في العلوم الطبيعية ... ويصف ن. ف. بادر العدمية بأنها "عقل مستغن عن الوحي "،(ص136).
ويرى ف. بادر أنه من المحتم أن تفضي العدمية ب هذا المنطلق، إلى نتيجتين : تتمثلان في نفي الله والعالم المفارق ، معا ، ثم إلى
وِلادةِ الإنسان الأعلى الذي يتبوأ "السيادة المطلقة مكان الإله المخلوع" . النتيجة الثانية هي القطيعة بين الإيمان والمعرفة ... وما توقعه بادر ثم ما عززه لاحقا النفي الفيورباخي لكل نظام مفارق والتحول الماركسي من الأخروية إلى التاريخ. كل ذلك اكتمل ، مجتمعا، في نيتشه.
يلعب مفهوم القيمة دورا أساسيا في فكر نيتشه . والقيمة هي ما يشترط إرادة القوة . الشروط الضرورية للبقاء وللنمو . تتميز العدمية بالإنهيارالتدريجي للقيم (القيمة الأولى هي الاعتقاد بوجود خطة إلهية تسير التاريخ مستلهمة من الوحي ومتحكمة في مجرى الأشياء. القيمة الثانية ما يسمح لنا بأن نفترض وجود عالم آخرأو وجود شيء في ذاته ذي نصاب إلهي ...أو أخلاق تتجسد في عالم آخرمفارق لعالم الصيرورة الحسي وينتج عن ذلك أن العالم المفارق ذاته فاقد للمعنى ...ويرتبط غياب كل معنى بموت الله).
وتفيدنا عملية انسحاب القيم هذه أن كل تاريخ العدمية يتمثل في الإحلال التدريجي لقيم عابرة وزائفة محل القيم القديمة، فيعوض الضميرُ الوحيَ ليعوض بدوره بالعقل ، وهكذا دواليك .
كانت الــأخلاق تتمثل في غريزة الانتقام لدى الضعفاء الذين يريدون التصرف كأسياد . فقد انتقصت الــأخلاق القديمة من قيمة الحياة ووضعت نفسها في خدمة الأديان العدمية ونادت باستئصال الغرائز الحسية واحتقار الجسد .
ولهذا يمثل نيتشه نهاية الميتافزيقا واكتمالها في الآن نفسه، بحسب هايدغر،( ينبغي أن نفهم من هذه النهاية إطاحته بالأفلاطونية ـ وهذه الإطاحة تظل أحد مشاريعه الأكثر أهمية ).
لكن ، إذا كانت العدمية هي نفي الإيمان ، فلأنه يظل محكوما عليها ،هي نفسها، أن تفضي إلى الإيمان بغياب كل إيمان .
كانت العدمية قد "أنهكت نفسها بعد نيتشه " كما يرى م . لوتر (يستشهد به شايغان ) ثم نجدها عند دوستويفسكي ـ الذي يعتبره لوتر الندّ الروسي لنيتشه الذي يمثل المسيحية الشرقية( يستخلص دوستويفسكي من العدمية النتائج كلها وذلك من خلال شخصية سترافروغين ، بطل رواية "الممسوسون". فلم يعد إله المسيحيين ولا إله الفلاسفة يهمان إنسان اليوم ).
.. يعني ذلك أن الجيل الثالث للعدمية بعد نيتشه يعيش نفيا مزدوجا: نفي ما كانت الأجيال السابقة تصر على إنقاذه ، الاعتقاد في استقلالية الفرد الخلاقة ، ونفي إمكانية الإندماج في البنى الجماعية القادرة على استعادة ذوات الأفراد المتفككة . وهكذا ليست هذه المرحلة الثالثة من العدمية سوى الانتشار الجدلي "لموت الله" الذي يظل يحدد منذ نيتشه الوعي الأوروبي. ترى هل وصلت هذه المرحلة إلى نهايتها؟ هل توجد ثمة خطوة ثالثة؟ الواقع أن هذه الخطوة الثالثة لا زالت غير قائمة ، ربما هي متضمنة سلفا في انعتاق (أو تحرر) هذا الجيل من كل التزام، لـأن الشك الذي كان من قبل يوجه إلى الله، أصبح هو نفسه غير ذي موضوع، فلا أحد صار يساوره الشك في شيء ، لأن الشك إحقاقا للحق ـ أصبح ، هو نفسه، غير ذي موضوع ، ولهذا فهم ـ أفراد هذا الجيل ـ ليسوا متشككين ولا أدريين ولا فوضويين ...(علق هيدغر على عبارة نيتشه السابقة بالقول أن التفكيرانتهى في الله بما هو قيمة ، وليس هو الله الذي مات ، بل مازلت ألوهيته حية لأنها أقرب إلى الفكر منها إلى الإيمان ؟ ).
إن الشكل الـأقصى للعدمية ـ يقول لنا لوتر ـ حاضر لدى دوستويفسكي ، الذي يتنبأ بخطر الدولة الشمولية ويمثل هو ونيتشه، نبيا العصور الحديثة. وهو يجسد "الهيستيريا الميتافيزيقية" التي كانت تمثل مظهر النبوغ الروسي ، الأكثر مدعاة للقلق والأكثر إبداعا ومأساوية .
لقد تنبأ كل من نيتشه ودوستويفسكي بوضوح برعب الكوارث الجمّة لعالم صار محروما من الروح . وتثير العدمية الروسية لدى أبطال دوستويفسكي مثل إيفان وسترافروغين جدلية سلبية تنفي كلا من الله و العالم كما تنفي كلا من الإيمان والإلحاد، لتفضي، من خلال أسطورة المفتش الأعظم، إلى نفي كل نفي، المفضية إلى السطالينية وإلى الغولاغ ، وهو مأزق يتخلص منه دوستويفسكي بإنجاز قفزة باتجاه أورثوذوكسية الشعب الروسي الحامل لرسالة الله ، وإن حدث العكس مع نيتشه، لأن المخرج المتمثل في "موت الله"لا يمكن إلا أن يكون إثباتا لإرادة القوة، أي إثباتا للإرادة المتفجرة للإنسان الأعلى الذي ليس سوى صورة المسيح مقلوبا (على حد قول شايغان) أو صورة الله مقلوبا .
من جهة أخرى فإنه "عندما تغيب الآلهة تسود الأشباح"حينئذ، كما يقول نوفاليس.
ويلاحظ م لوتر أنه لا يوجد حل ثالث إلى جانب الإعتقاد والإعتقاد في عدم الاعتقاد ، فالاعتقاد مثل عدم الاعتقاد يوضع كلاهما موضع سؤال . تقول إحدى شخصيات دوستويفسكي أن سترافروغين تستبد به فكرة غريبة، فهو عندما يعتقد، فإنه يعتقد أنه يعتقد، ولكنه عندما لا يعتقد، فإنه لا يعتقد أنه لايعتقد. ويستخلص لوتر من ذلك أن عدمية المساءلة تبلغ هنا ذروتها، "فكل من الاعتقاد واللاعتقاد يبقى معلقا ". وفي مقابل ذلك التردد الديني فإننا نجد بطلا آخر يعتقد عند هبوط الليل (أي يصير مومنا)، ثم يتحول إلى ملحد عند طلوع النهار. غير أن التناقض الوجداني لسترافوغين، راسخ و لا يتزعزع أبدا ، فالاعتقاد مثل اللاعتقاد، ليسا متصالحين صراحة ولا منفيين صراحة أيضا ، بل إنهما معلقان ، وهكذا يظل التناقض بلا حل ولا تجاوز .
المرحلة الأعلى في العدمية هي " مرحلة المابين " هذه والتي تقود إما إلى التدمير الذاتي أو إلى مفهوم "الزمن الضيق" الهيدغيري ، وهو زمن موسوم بضيق مزدوج : ما لن يعود أبدا، فيما يتعلق بالآلهة المتوارية، وما لن يحدث أبدا، للآلهة القادمة .
وهكذا سيغوص هايدغرفي هاوية الوجود ليعيد التفكيرفيما لم يتم التفكير فيه بعد ، في الوجود المنسحب . ( وكذلك كانت قفزة سبينوزا إلى ما بعد هاوية العدم بحثا عن الإيمان الفلسفي).
تتطابق المرحلة الأخيرة من العدمية مع بداية تجربة إلهية جديدة ترمي إلى إدراك الألوهية فيما وراء أسمائها وتمثلاتها الرمزية .
لكن الحضارات غير الغربية لا توجد فيما بين بين ،لا في الزمن الضيق ولا فيما لم يحدث بعد.
ففي أية مرحلة هي توجد ؟ يقول شايغان : بين ما لم يحدث بعد، وما لن يعود أبدا .
(من جهة أخرى : ترى لماذا حل السؤال عن السقوط محل السؤال عن النهضة؟ يتساءل بصدد المرحلة التي توجد فيها الحضارات الأخرى، "السمعية")
بما أن تعميم التعليم بعد اكتشاف ماكلوهان للمطبعة لم يقلص دور السماع لفائدة البصر أو لفائدة الكتابة ومازال المأثور الشفوي يلعب دورا كبيرا ومازالت القيم التقليدية الجماعية تؤدي وظيفة رئيسية في التعليم، ولهذا فإن تراكم المعرفة يكمن في الحفظ عن ظهر قلب وفي حشو التفكير في قوالب جاهزة من الأمثال والوصايا والقصائد والحكم.. وكل أصالة إنما هي بدعة، وحتى في الأنظمة السياسية فإنه لا يخرج من الجماعة إلا الشيطان، فالفرد هو مجرد ترجيع للصدى واندماج في العلاقات الكلية حيث تصير كل حركة تحرر شاذة وعلامة عن انحراف عن المجموعة ويصيركل إبداع فردي إفسادا للإجماع والتكيف والانسجام المسبق ...
"ولكن عندما يحيد الفكر عن المجرى الطبيعي للذاكرة الجماعية ويصبح [..] شبيها بالماء المحول عن النهر " حينئذ يصير فكرا حقيقيا " ، والفكر الغربي حاد عن مجراه ، واعتاد منذ قرون "على ذلك " وهذا ما يفسر عنفوانه المخيف وجهوده المتواصلة بحثا عن آفاق جديدة ".
تمجيد الإنسان ـ بدل تمجيد السماء ـ ظهر في فن الرسم الغربي ويبدو أن الفن المعاصر يعود إلى المرحلة الأولية للتعازيم والتعاويذ واللاموضوع ومثلما تفضي العدمية إلى "مرحلة المابين بين، التي هي نهايةُ شيء وبزوغ شيء وشيك لحقبة جديدة ، نبقى [..] في ميدان الفنّ معلقين بين السديم [..] وبذلك يصبح الفنان [ هو ] المعبر عن الحقيقة" التي لا يمكن التعبير عنها.
وأما الدين، فإنه يتجلى في ممارسات "الشافي [ المُعالج] الإفريقي والشاماني السيبيري" وفي الجدارية الأزتيكية والمنظر الطبيعي الصيني والمنحوتة المصرية والأوبانيشاد الهندية والتوراة اليهودية وفي الهندسة المعمارية المحلية التي لم تعد لا غربية ولا شرقية وهي موضوعة على نحو يصير فيه "الفضاء الداخلي بمثابة استطالة مشوهة " للفضاء الخارجي ، بل هي تكشف عن كل شيء بكيفية يصبح معها الفضاء الداخلي " بمثابة امتداد مشوه .
لقد أعاد الفنُّ صياغة الفضاء على نحو ما كان يشكل مستوى المثال الوجود نفسه ، فاتحا المجال للتأويل واكتشاف أنماط أخرى من الحضور في العالم "لقد أعاد الفن إنتاج ما كان يشكل ، على مستوى عالم المثال ، طوبوغرافيا الوجود نفسها" .
إن البحث في الدين يبقى ناقصا من غير الفن وكذلك في اختراقات و"بدع" بعض المتصوفة "الكفار" و الخارجين عن الجماعة (ليس متصوفة الزوايا ومتصوفة المخزن بالطبع): حافظ الشيرازي ، يلقب ب"لسان الغيب" و"ترجمان الأسرار". اشتهر بديوانه في الغزل الصوفي . يقول : " إني عاشق عربيد ألعب بالنظرات ، وأعلن عن ذلك في غير خفاء " .
هذا وتلعب الإيديولوجيا ، مرة أخرى ، نفس الدور الذي لعبته الميثولوجيا في العالم القديم ، فهي "من ناحية ، ترضي الروح الجماعية لمعتنقيها برؤيتها لمجتمع مغلق ، ومثالي ، وتزعم من ناحية أخرى أنها "عِلميّة" ، أي أنها مطابقة للواقع. وإذا كانت تتوفر على شحنة انفعالية كبيرة تقرب الشقة بينها وبين العاطفة الدينية ، وعلى جهاز منطقي عقلي يعطيها مظهرا علميا وفلسفيا ، فإنها ليست علما ولا فلسفة ولا دينا " .
إن نجاح الإيديولوجيا ـ من حيث هي " وعي زائف"ـ عائد إلى كونها تلبي حاجتي الإنسان الرئيسيتين : حاجته الملحة إلى الاعتقاد وحاجته التي لا تقل إلحاحا إلى تبرير وتفسير اعتقاده علميا وعقلانيا (ص219).
يرى كاسيرر ، فيما يخص علاقة السياسة بالإيديولوجيا، أن الأساطير السياسية الحديثة هي في منتهى الغرابة والتناقض ، لأنها تجمع في داخلها بين فاعليتين تقصي إحداهما الأخرى، فعلى رجل السياسة الحديث أن يشغل في الوقت نفسه وظيفتين مختلفتين وغير متلائمتين : فعليه أن يتصرف ياعتباره إنسانا صانعا ثم باعتباره إنسانا ساحرا في نفس الوقت : إذ يتعين عليه أن يكون كاهن ديانة لاعقلانية أي إيديولوجية توهم الجميع أنها عقلانية ، إنها ( العقيدة باعتبارها إيديولوجية ) هي "نتاج الانفصال [ بينها وبين] المعرفة" .
نتيجة أخرى : تظهر الإيديولوجيا كأنها "خطاب عقلاني متماسك".
حينما يصير العقل أداة ، "يصبح لا عقلانيا" ويعمل " في خدمة الفئات المحظوظة ".
(من جهة أخرى فإن فلاسفة الأنوار لم يحطمواـ كما يرى هوركهايمر ـ الدين، باسم العقل ، بل دعوا إلى تحطيم الكنيسة فقط ، وحطموا معها المفهوم الموضوعي للعقل ذاته ـ على العكس مما يقول المثقفون).
بقدر ما يصبح العقل مجرد أداة، فإنه يغترب عن جذوره ويقع فريسة التلاعبات الإيديولوجية والنزعات الفكرية المانوية، إلى درجة يمكن القول معها إن التقدم الذي حققه عصر الأنوار قد خلق ميثلوجيا جديدة ، فكل فكرة فلسفية أو أخلاقية أو سياسية تنزع، عندما تنقطع عن جذورها التاريخية ، نحو أن تكون نواة لميثولوجيا جديدة . وهنا يكمن أحد الأسباب التي جعلت ما حصل في عصر الانوارمن تقدمٍ، ينحط أحيانا إلى مستوى الخرافة .
لقد أصبحت الأسطورة عقلا منذ بداية عصر الأنوار...
يثني ماركس في مخطوطات 1844 على فيورباخ"لأنه وقف موقفا جديا ونقديا من الجدلية الهيغيلية التي ليست الفلسفة بالنسبة إليها سوى الدين وقد تنكر في شكل روح مطلق وصار يدعي أنه فلسفة .
(بقدر ما تنفصل الإيديولوجيا عن العمل عند ماركس ، أي عن قاعدتها الاقتصادية ، فإنها تتحول إلى دين أو إلى فلسفة ، وتتقنع بالإرتباطات بين التمثلات والأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المزرية ، هذا التنكرهو الذي يخلق، وفق المنظور الماركسي، الوعي الإيديولوجي الزائق).
علي شريعتي / الشيعة الإثنا عشرية / هو الأب الروحي للثورة الإيرانية ـ بحسب شايغان (ص252).
تبرز الحاجة الملحة إلى القائد والزعيم وإلى الإنسان الساحر، زعيم العشيرة البدائية ، بحسب فرويد هو الذي يجسد الأب البدائي المهاب : فالجمع برغب دائما في أن يحكمهُ زعيمٌ لا حدود لقوته ولأسلحته وهو متعطش أيما تعطش للسلطة . هذا الأب البدائي هو المثل الأعلى للجميع الذي يهيمن على الفر د بعد أن "يأخذ مثال الأنا "(ص108). أما يونغ فقد رأى أن "الأمم [.. . ] تتميز ، من وجهة نظر علم النفس، بالرعونة والغباء والتوحش اللاأخلاقي ، وهي شبيهة بالزواحف ذات الأجسام الضخمة الأدمغة الصغيرة جدا ، إنها تعرض عن الحجج العقلية ، ولديها قابلية لأن تقاد إيحائيا كما يفعل [ المصابون بالخرف المرضي] ، إنها طفولية ومزاجية وانفعالية ، إنها غبية غباء عجيبا [ وهي أيضا ] جشعة ومتهورة وعنيفة عنف حيوان الكركدن عندما يستفيق فجأة من نومه [وهو في منتهى الغيظ] ، إنها دائمة الحمق [ودائمة الغضب] والأحكام المسبقة وهي ، فوق ذلك ، فريسة لأتفه أنواع الخدع ".
يضيف يونغ أن الديماغوجيين = السحرة ، ضليعون في صناعة الإمَّعات ، أي الأشخاص المنقادين ، العديمي الشخصية والمنتكصين إلى مستوى النفس السفلى.
درس نوربيرت إيلياس انفعالية إنسان العصور الوسطى " إنها[ أعمال العنف هي ] بمثابة شهادات على مجتمع يركن بكل سهولة وبسرعة وتلقائية إلى غرائزه وأحاسيسه ولا يعود الدين مسألة خاصة ،بل أداة قهر بيد الدولة التي لا تعود دولة علمانية ".
يعود ما كان مكبوتا : الشنق ، امتلاك الحقيقة ، الجلد في الساحات العامة ، ومحاكم التفتيش التي لا تراعي حرمة البيوت .
الواقع أنه "تاريخيا ، انتهى زمن الدين باعتباره نظاما سياسيا"، فبمقدوره إثراء الحياة الروحية للإنسان ، غير أنه ليس بإمكانه ادعاء "القدرة على توجيه الحياة الاجتماعية " فكل جهد " يرمي إلى إعادة إدماجنا في العالم المغلق للمركزية الدينية هو مجهود محكوم عليه بالفشل مسبقا ، لأن الوعي المتطور للإنسان الحديث لا يمكنه احتمال البنى الانفعالية الناتجة عن النكوص نحو أشكال الوعي العتيقة".
إن الديموقراطية هي خلاصة مجهودات متوالية من العلمنة ، ولقد أتى بها الإنسان الغربي حتى يتحمل العيش في عالم محروم من الإله والفصل بين الروحي والزمني الذي دشنته الحداثة هو أمر أساسي بالنسبة إلى الحضارات التقليدية .