جمع الطرح
دارت كل أحداث حياتي في نطاق دائرة ضيقة في الحي المحمدي تسمى بلوك الكدية. كان من الأجدر تسمية هذا الجزء القاصي من الدنيا: ربوة اقسى العزلات. كان موطنى هذا يرتسم وقتها حول بضع تجمعات منازل، وعشرات من الوجوه لا يصيبها للصدأ، وأسماء بطولية تتردد على الألسن كما تردد الأسماء الواردة في القرآن لتذكرنا بأن رجالا قد عاشوا من قبلنا هنا على هذه الأرض: رجال بنوا هذه القطعة التي تتحمل اليوم وطئ أقدامنا جميعا؛ رجال عمروا هذا الركن المهجور حيث كان على المرء أن يكون صلبا كالصخر لكي يدبر أموره فوقها.
شُيد موطني حول شخصيات لا تنسى، من أمثال أحمد وإدريس وخديجة وفاطمة وعبد القادر وفاطنة ورحمة ولمزابي وإيطو وسي احمد وبن صالح والحاج عبد القادر وابراهيم العكرب، "العقرب"، الذي لم نستطع يوما أن نعرف إن كان علينا التحدث إليه أم قراءته. كان إبراهيم هذا كتابا في جسد: فقد كان الرجل موشوما من قمة رأسه إلى أخمص قدميه، ويتربع وشم عقرب على يده اليمنى كأنه تصدير كتاب أو تنبيه لقارئه أو مفتاح من مفاتيح قرأئته.
كان هناك أيضا بوعزة، اللص. كان شخصا وضيعا: مخبر يعشق الوشاية والتبليغ؛ إنسان بذيء تشع عيونه بالمكر ويمشي مشية شرار الزواحف المتعطشة للدماء؛ شخص حقير حقيقة وأكثر الناس خسة من الذين لم يعرف الحي مثلهم أبدا.كان يثير على طول الوقت مآت الضربات. تاجر مخدرات ونصاب وبصاص وقواد، كان كل هذا في ذات الوقت. عصارة مركزة لكل الأعمال السيئات التي كان يأتيها بإفراط دون أدنى حرج. يجد راحته في كل الأوضاع والحالات. كان مستعدا لأن يبيع أخاه الشقيق من أجل أن يظفر في المساء بخمرته وبمفاتن حسناء من حسناوات الليل التي يكون قد رتب لها مواعيد سهر عديدة.
كان في الحي أيضا وجه أيوب البزناس،بائع المخدرات المعتمد عند منعطف أقصى الدرب. نموذج لمسوق الحشيش بطريقته المرتجة في الحركة المعهودة عند من يركضون طول الوقت. كانت طريقة كلامه غير مفهومة بحيث يبدو كمن لا يمضي حتى النهاية في عرض أفكارة، فيبتلع نصفها وينتج ضجيجا نشازا لا يكاد يفك شفراته من كان حديث العهد بعالم الحي. كان صديق الجميع وعدو الجميع، في ذات الوقت. قدرته خرافية في الانتقال من حال إلى حال بين الشعورين الذين لا يتناقضان في جوهرهما. كان أيوب ذلك الشخص الذي يمكنه أن يدعوك إلى مأدبة عجيبة ويؤدي عنك ثمن أجمل فتيات الحي ويشهر السكين في وجهك في نهاية الليل. كل ذلك بنفس الحركات المتقطعة والابتسامة اللازمة. أيوب اليوم يتموقع اليوم بين الاسلامي الورع وبائع المخدرات ذو الغلضة والشدة. لحية مهذبة بعناية وجلباب باهر اللون، لزوم لباس الورع، وجيوب ممتلئة بالحشيش. يا أيوب! أين الله في كل هذا؟
"أه! إن الله يعلم من أكون؛ لا يضره شيء من كل هذا. لقد غدت القضية بيني وبيه؛ وحدهم الأغبياء لا يفهمون ان الله كبير، وأن قلبه صافي صفاء خالصا حتى أنه يغمض عينه أحيانا لكي لا يرى ما نحن فاعلون في هذه الدنيا"، هكذا كان يقول أيوب بابتسامة جانبية تجعله يبدو وكأنه يمضع جدار وجنته الداخلي باستمرار. وكان يضيف أنه على الطريق الصحيح، فلا فرق في الجوهر بين الصلاة وبين لفافة جوان حشيش جيد. سكينة الروح غايتهما، وهذا هو الأساس.
بين هذه الكوكبة من الوجوه البشرية كان يلوح طيف عزيزة الجميل: العاهرة التي لم تكن تهب جسدها الفاتن لغير الأغنياء. هذا ما نسميه امرأة ترمي بشرر كل ما لديها لتسر الناظرين، وهي بأنفة هيأتها، وقوامها السامي تبدو كملكة من ملكات العصور الغابرة في ابتسامتها التي تشبه ابتسامة الملائكة يوم الحساب. حين تتكلم، تجعل صوتها يتبعها؛ وتفصل بين ابتساماتها بحركة من كتفيها تحرك نهديها الجامدين تحت قميص الحرير الأحمر. هي ذي الصورة التي أريد أن أحتفظ بها عن المرأة إلى يوم البعث والحساب. مهما حصل في قادم الأيام، أظن أن هذا المشهد بالذات الذي تكرر تمثيله أمام عيني مرارا هو الذي سآخذه معي إلى قبري ليؤنس وحشتي في أطراف الغيب.
لم تكن عزيزة تهاب أحدا، كانت تمارس عملها علانية وتظهر برودة دم تجعل الدم يتجمد في عروق كل من يسيء الحديث عنها. ورغم ذالك لم يكن تمة رجل من رجال المنطقة لا يحلم بالظفر بخلوة مع عزيزة الحسناء. لقد جعلت الجنون يمس الرجال في أجسادهم بما في الكلمة من معنى، وقد كانت تعلم ذلك تمام العلم. فكانت تذكي نار هيجانهم أكثر فأكثر، قائلة إن ذلك سلاحها الوحيد لردعهم وص أذاهم. أعترف أنني لما كنت شابا في مقتبل العمر لم أكن أفهم شيئا من كل هذا، وبما أن عزيزة كانت تحكي لي أشياء كثيرة، فقد كنت في الغالب تائها بين رغبة تولد وتنمو في أحشائي أمام منظر قميصها الأحمر وبين رغبتي في أن أقول لها أنه يمكنني الزواج بها في الحال حتى يٌكمم الرجال أفواههم ويعودوا إلى صواب عقلهم. كان لعابهم جميعا يسيل هناك على هذا الجسم الخارج للتو من حرارة مصنع سباكة الجنس الحارقة. وكانت عزيزة تقول أنها ما دامت على هذا الحال لم يكن هناك ما تخشاه : "سيفترسونني يوم أكف عن تحريك تلك الكرة في بطونهم المترهلة. " وكانت على حق في هذا الأمر. وتضيف أنها تعرف الرجال أكثر من أي شخص آخر: " لقد أشبعت جوعهم من نسغي، وملأوا جسمي ببصماتهم. أحملهم كلهم في كياني. إنهم أولادي، شرعيين كانوا، أم لقطاء. أستطيع الآن أن أتنبأ بأحقر رغباتهم. "
لا يمكن الحديث عن بلوك الكدية دون ذكر رؤوف بالخصوص، الملقب بالقذر. لقد قام ذات يوما بسكب البنزين على فأر بحجم كلب صغير فحرقه حيا. جرى الحيوان بشكل جنوني لما يقارب مأتي متر. كان يبدو كشهب نار أرضي أو كدابة آتية من العالم الآخر تنذر بحدث عظيم، أمام الأنظار المشدوهة لسكان الحي الذين جعلوا من الواقعة موضوع أحاديثهم لشهر كامل. هل يجوز فعل ذالك؟ هل كان خيرا أم شرا في نظر الله أن نحرق كائنا، علما أن الفئران حيوانات عفنة بالفعل لكنها خلق من خلق الله؟ بأي حق يقتل إنسان مخلوقا من مخلوقات الواحد القهار؟... وغير ذلك من مواعظ دينية عن الآخرة وعن نار جهنم التي سيقذف فيها الملائكة رؤوف ليمكث هناك عشرة آلاف سنة. عشرات الأسئلة التي سجلت بمداد لا يمحى شهرة رؤوف، وهو الذي كان يعود بعد هكذا عملية قذرة إلى بيته ليغسل لأمه المريضة وينظف لها فرجها ويجمع ما تخلفه تحتها.
كان هناك أيضا بعض المشاهير الذين صنعوا مجد ركن من العالم يقع بين الزنقة 6 والزنقة 9، وهي أرض خلاء لا تخضع لأحد، كانت تدعى "لكروة" . لعل الاسم اختزال محرف في لهجة الحي للكلمة الفرنسية croisement التي تعني نقطة الملتقى والتقاطع. ملتقى تقاطع الأجناس والأنواع والأفكار والأجسام والأقدار.
لنبدأ بعبد الخالق، الجاحظ “خارج العينيين”، و بومهراز الأسود الشديد، ثم السي أحمد، “المجرم”، رغم أن المرة الوحيدة التي ارتكب فيها الرجل ما يمكن اعتباره جناية تعود إلى سنة 1981 عندما اندلعت المواجهات الكبري لانتافضة يونيو في الدار البيضاء فأشعلت المدينة. كان موموـالمجرم داخل سيارة يدخن لفافة حشيش مع أحد الرفقاء، وأشهد على ذلك أمام كل آلهة وكل الأولياء والجان. قضى الرفيقان سنتين سجنا بتهمة نهب وتخريب ممتلكات الدولة. إضرام النار والسرقة والهجوم على قوات حفظ الأمن والنظام هي التهم الرئيسة التي توبعوا بخصوصها. لم يقدر مومو بعدها على أن يستجمع قواه وينهض من جديد: دخل في غيبوبة ضبطت إيقاع حياته. كان يردد عبارة "الثقب الأسود" كلما استطاع أن ينطق بجملة من ثلاث كلمات متتابعة. منذ خروجه من السجن التزم صمت الزاهد في خلوته حتى إشعار آخر. أما القصة فقد استفاد منها الحي جيدا. أت يحرق “المجرم” سيارات خلال المواجهات! هذا ما لا يريد أحد أن يصدقه! كان الأمر أشبه بأن تزعم أن فأرا قد ابتلع أسدا. يتذكر الجميع أنه في الوقت الذي كان فيه الحي يغرق في الدماء والسيارات تحترق لتتحول إلى دخان يصعد في السماء، كان الناس يتهكمون على مومو لأنه لم يكن يفهم ماذا يجري، ويسأل الناس، بين نفس وآخر من لفافة الحشيش القوية: " ماذا بكم تركضون هكذا! فليس هناك حريق ولا نار!" وقال لشريكه وهو يلتفت إليه ليمده بلفافة الحشيش : " الحي يفقد صوابه، لقد أصيبوا كلهم بالجنون، ألا تراهم كيف يركضون!"
يكفي المرء النظر إلى “المجرم” لكي يفهم كم كان عاجزا عن بذل أي مجهود أو إتيان أي فعل، لأنه كان هائما دائما، خمولا وقليل الحركة وثقيل الفهم والانتباه. إلا أنه أدى ثمن جريمة خيالية، ربما لان موقفه اللامبالي بالاحداث الجارية كانت غاية في الوقاحة. لم تفهم السلطات وقتها كيف يمكن لإنسان أن يكون منفصلا عن الواقع وغير مبال بكل ما كان يحدث من حوله؛ كيف يجرؤ على تدخين لفافة حشيشه بينما تسير البلاد إلى الهاوية بسبب انبثاق وعي خفيف وغير تام بأن العلة استحكمت بالبلد وأن طريق الخلاص من الفساد المستشري الذي ينخره هو الشارع ونار الرفض والعصيان.
السي أحمد، الذي لم يعد يذكر أي شيء، لا يذكر حتى تلك الليلة، وقد يكون رأى عجلة القدر تهشم رأسه دون أن يرمش له جفن. لقد تدثر بصمت مطبق، لا هو عدم فهم ولا هو لا مبالاة، بل هو فقط خواء فكري أمام هول ما حدث. عند خروجه من السجن، نحيف الجسم بعينين سوداوين مذعورتين، وبشرة شبه رمادية، لابسا رداءا من الصوف مثقوبا من جهة الظهر، ذكر أن أحد عناصر الشرطة الذي كان يضع له في فمه خرقة مبللة بالبول ليخنقه، همس له في أذنه : "قل لهم أنك حرقت شيئا ما، لينتهي الأمر." لم يفهم مومو أن الشرطي كان قد تعب من ضربه وأنه تصبب عرقا كثيرا حتى انه كان يقضي ساعات طوال في حك جلده، وأن عينيه التين علاهما الأحمار بسبب العرق والروائح الكريهة، ستلاحقان مومو طويلا في منامه.
تغير السي أحمد فجأة بشكل كامل. صار يدخن اليوم أكثر من الماضي، و يستهلك كل شيء يبدد الواقع. دخل في علاقة غرامية مع متشردة من الحي، هي أيضا سجينة سابقة في عنابر النساء بعد محاولة قتل. لا يفترقان. جثتان متنقلتان. معوقان يعبران الإسفلت طوال النهار يستعرضان وجه الظلم الصارخ بلا سفور. بمعنى من المعاني، مومو ورحمة يلعبان بإخلاص دور الفزاعة المنوط بهما. وقد استوعب الكل في المحيط أنه لا يجب السقوط في نفس الشراك التي سقط فيها هذان الحطامان. حاولت رحمة ذات يوما أن تقتل رجلا اغتصبها هو ورفيقان له، كما حاول أن يغتصب ابنتها ذات العشر سنوات أمام الملأ. بعد ستة أشهر استدرجت المرأة الرجل إلى مجمع سكر وعربدة، وهناك حاولت قتله بقطع قضيبه. لم يكن الامر إلا قصاصا عادلا في نهاية المطاف؛ لكن الرجل استبسل على المرأة المغلوبة على أمرها فأرسلها إلى السجن لعدة سنوات. لم نكن نسمع أية أخبار بشأنها. لقد دفنت حية، وأدخلت في غياهب النسيان، محيت محوا من الذاكرة الخصبة لهذا الطرف من العالم. ولم يبق لها أي شيء،عند خروجها من السجن: لا حضانة أولادها ولا بيت يأويها ولا ماض يذكرها، وأدهى من ذلك لم يبق لها مستقبل ينتظرها.كان السي أحمد،” المجرم”، هو من لمها تحت سقف بيت والديه، حيث يعيدان نسج ذكرياتهما البالية.
في الزنقة 6 من هذه البقعة من أراض الله ، كان هناك أيضا أولئك الذين يبحرون بين الأحياء الأخرى التي كانت تشكل دولا حقيقية مستقلة بذاتها، بزعمائها ودواوين وزاراتها، وقوات نظامها، ورعاتها وعرابيها، وعصاباتها وغير ذلك من الأمور. لا يبحث كل هؤلاء إلا على السعادة. كان من الأجدر تسمية بلوك الكدية: تل السعادة زهيدة الثمن. يكفي المرء الاستيقاظ في الصباح، وتمرير الماء على وجهه لتطهيره من دنس هذا العالم وقذارته، وارتداء ما يشبه اللباس، ثم تمرير شفتيه على يدي الأم الموشومتان، ثم الانصراف على عجل لتحدى الله وعالمه الغاضب. فالطواف اليومي القاسي تحت شمس رب الأرباب، بلا زاد غير أشتهاء أن يكون اليوم أطول والغد أفضل من الأمس، أو أن لا يأتي هذا الغد أبدا ليمتد اليوم إلى نهاية الأزمان، متجاوزا يوم البعث والحساب. ذلك أن "المجرم" كان يقول : "لقد عشنا الحساب في الدنيا، وأريد أن أقضي هناك في السماء أياما هنيئة، وإلا فليتركوني إلي الأبد تحت التراب ولا يوقظوني."
عندما أفكر في تلك الأيام السعيدة، تتزاحم أسماء ورؤوس لتحتل أذق زوايا ذاكرتي. مدينة بأكملها ما تزال تسكن عقلي وتطلب استعادة الحياة خارج الزمن وتوالي الأيام. حياة تترمم وتٌراجع، وتجدد زادها عبر السنين من خلال الحب والعطاء والتسامح؛ من خلال اللقاء والفقدان والنسيان. أعيش منذ عشرين عاما، حاملا هاجس تكريم الرجال والنساء الذين هزوا أركان طفولتي. منذ سنوات عديدة، وأنا أرعى في داخلي الحاجة إلى تسجيل شهادة على عظمة جيل تم التضحية به على مذبح الحرية والكذب والنفاق والنصب والاستغلال وغياب الكفاءة، والتجييش والخيانة والغش، والخداع والحقد والجهل. ذلك أن كل تلك الوجوه سامية الشأن وعالية القدر في ذاكرتي، أسمى من الحياة، وكان علي أن أصير منزل مسارات حياتهم، المختلفة بعضها عن بعض. نعم، كان علي أن أصير صندوق أسرارهم وأفراحهم وأحزانهم. فكان لا بد أن تفتح في يوم من الايام نافذة صغيرة ليدخل عبرها خيط ضوء نقي خالص يمكن من اكتشاف الطريق إلى قلوبنا.
بلوك الكدية من خلال عراءه التام يبرز جمال قطعة أرض معزولة عن بقية العالم تماما مثل غير من أحياء المدينة. جزر صغيرة حقيقة معزولة عزلة الحجر الصحي حيث تحتشد الأحلام وتتكدس المصائب والألأم. ولكن الحياة هي هذه، سعادة أناس نادرا ما يهتمون بما يجري خارج الحدود الوهمية التي تحكم الوثاق على عقولهم. ليس ثمة من يجد في قدره ما يستدعي اللوم أو الانتقاد، إذ لا يتصور أحد هنا أن الحياة يمكن أن يكون رحيمة في أي مكان آخر.
بالنسبة إلينا نحن الذين كانت أعمارنا بين ست وعشر سنوات، كان مقياس الحرارة الوحيد المعتبر هو وجه الجار. كان يكفينا لنقيس درجات هؤلاء وهؤلاء أن نلتفت سريعا إلى مشية جارة من الجارات، أو إلى الضحك المتقطع والعصبي للحاج، أو للشكوى الملثمة في شكل نكتة لاذعة، أو لرغبة غير مصرح بها، أولألم تعدى الحدود التي تسمح بإخفائه عن العيان . أتذكر الناس تعبر وتصرخ بتذمرها، لكنهم كانوا سعداء دائما. كانوا يصرخون لكن في إطار البهجة والفرح. ومهما كانت خفية وغير مرئية، فإن تلك البهجة تتسلل بين ثنايا لفتة أو حركة، وتبرز ذاتها في جملة أو عبارة. مجمل القول، انه عندما كانت الموت تخبط خبطتها، كانت السعادة هناك لاستقبالها بترحاب. تلك السعادة التي لا مثيل لها، سعادة أولئك الذين يفتحون الباب لسر الأسرار ويتركونه ينمو من دون التجرؤ على سحب أي علامة من علاماته. في بيتنا، كنا نرفض أن نعرف. وحكيم الحي كان يقول "ما الفائدة من ذلك؟ الذين يعرفون يعانون "، ولم يكن يجانب الصواب في قوله.
كان الحي المحمدي دائما تلك الأرض الهائلة الضيقة التي وهي تخنقنا، تدع المجال لاستمرار تدفق دماء طرية في عروقنا. كانت أنظارنا تمتلئ بالضوء لكي ترى بشكل أفضل الجحيم الذي يحيط بنا. ولكن بما أننا لم نعرف غير هذا، فقد كانت الجنة تبدو لنا مجرد تلوين طفيف على الجملة الموسيقية للحرمان. والحال أن في هذا الجانب من المدينة، لا توافق التلوينات أذواق الناس جميعهم!
واحدة من تلك التلوينات هي الحب. ذلك الألم في الجسد. تلك الجنة الصغيرة التي لا حظ لها في الاستمرار دوما أو في إتاحة مجال تبرعم القليل من العشب الذي سرعان ما تعصف به عاصفة الرفض. رفض الأسرة، ورفض الحي، ورفض الغرباء؛ الرفض الذي ينتهي به الأمر في النهاية إلى حصرنا بين ضفتين تماما كما يفاجأ ركاب سفينة وهمية في قلب العاصفة بغياب قاربهم. هم هناك، يطفون فوق الموج، على ذرى الأمواج العملاقة دون أمل في الخلاص. لكنهم لا يغرقون. بل يظلون هنا، دون حراك تقريبا، وهم يشعرون بهيجان المياه يمزق جنوبهم إربا إربا. ولكنهم لا يموتون. لا يستسلمون. يظلون كما لو كانوا مربوطين بالسلاسل إلى الماء، أسرى للمد، وعبيدا للجزر.
عرفتها وقد كنت في السادسة من عمري، وسرعان ما فهمت أنني أحبها، لا كما يحب رجل امرأة، ولكن كما تتحد دابتان صغيرتان عند الخوف، ضد الفراغ أو البرد. ومثلما يتحالف مخلوقان لمقاومة العدو الذي لا يكشف عن وجهه لكنه يضرب دائما في المكان المقصود دون أن يخطئ هدفه.
وكانت تكبرني بعام، لكنها تبدو كطفل رضيع يجب الخوف عليه. كنت أخشى عليها ان تتكسر كما يتكسر الخزف. وحدي، بعيدا عن الجميع، متقوقعا على حبي في زاوية من هذا الحي، كنت أراها تتفتت كما يتفتت جدار من رمل، تكنسها الريح. فكنت أتيه وأنا أحاول التقاط حبات الرمل التي تسرع في الابتعاد بعيدا. كنت أعيش على هذه الوتيرة لأمد طويل جاعلا من جسدي قلعة لها، وسدا لم تكن ترفض لأنه إذا كان خوفي عليها ينسينى مخاوفي وهواجسي، فهي، في المقابل، كانت تقبلني كدرع لها لكي تنقذني من الهلاك غرقا بين أهلي الذين لم يكن يبدو أن فيهم من ينتبه لوجودي. كانت تزورنا في البيت وتلاحظ بنفسها أي وضع فٌرض علي. كنت مجرد طيف مزعج في غالب الأحيان، سيكون من الأفضل له أن يتيه في زحام الشوارع. كانت تأخذني من يدي وتسلم كامل كياني إلى الإسفلت. وهناك صرت حارسها وحاميها.
كم كانت جميلة!! كيف لي أن أفسر هذا الجمال الذي كان يحملني إلى بقاع يستحيل وصفها؟ حتى اليوم لا أعرف كيف أفعل. لن اقدر أبدا على أن أقول لا كيف ولا كم كانت جميلة. لكنها كانت التجسيد الكامل للطهارة والنقاء بالنسبة لي. لا احتفظ لها بأية صورة لكي أمرر عليها ملامحها. لم يكن لها وجه، أو بالأحرى كانت لها كل الوجوه، وجه العطاء،ووجه السماحة والغفران، ووجه المحبة. قد كان الشكل ذاته الذي يشكل قالبا لوجوه كل النساء الأخريات اللاتي قدن خطواتي إلى العوالم التي يعرف فيها الرجل مزايا أن يكون رجلا. تحتفظ ذاكرتي بشكل كنت أراه دائما من جهة الظهر، لا كتعبير عن رفض بل عن حياء يخفي شكله الظاهر ليترك للخيال مهمة إعادة تشكيل وجه الحب بحسب المناسبة. كانت صديقتي تقطن على الجانب الأخر الشارع في منزل صغير غير مكتمل أيل للسقوط، لكنه صمد لمدة عشر سنوات فيما يشبه سحر ساحر. من الخارج من بين الشقوق كنا نرى أباها يتناول طعامه أو مستسلما لنومه أو ملصقا جهاز الراديو الصغير بأذنه لسماع أخبار السياسة. وكان المسكن طابقا أرضيا أقرب إلى مكعب من الاسمنت به فتحة في الوسط بمثابة باب، بلا نوافذ، ومغطى بسقف من الزنك. هذا المنزل هو الذي كان يمنح الحي خصوصيته، كما تطبع منازل أخرى أحياء أخرى بشكلها أو مظهرها أو لونها، وتميزها بعلامة خاصة، وتسطر خطوط التميز وتكاد تشكل هويات سكانها . كان المكعب التي تسكن فيه صديقتي بلون الاسمنت المجفف، بلا صباغة، لون رمادي مبلل يفيض على وجوه سكان.. ما عدا وجهها هي.
كنا نتردد على نفس المدرسة في حي صفيحي شهير في المدينة. كان بياض بشرة مثلما كانت عليه بشرتها إهانة لغيرها من الفتيات، وخطرا يجب علينا مهما كلف من ثمن تدبير أمره بحكمة. كنت أرافقها إلى دولابها، المجاور لدولاب الأولاد، لتهدئة النوايا المعتمة التي تكنها لها من كن تغرن منها. فتلك الفتيات تتمنين لو أعدنا رسم صورتها، للتخفيف قليلا من كمال وجهها، وتسويده بعض الشيء لمنع النور الذي يشع منه. لكني كنت لمدة ثلاث سنوات دائما حاضرا كحارس لا يسمح بأي اقتراب، إلى أن حاصرنا ذات يوم والدها، الذي لا يفارق جهاز الراديو أذنه، عند بائع حبوب "الزريعة" . دون أن يسألنا عما كنا نفعل ، أمسك بي من الرقبة ووجه لي ركلة في البطن. استفرغت أحشائي وما فيها. بدل أن يهدأ الرجل بعد هذا الاستعراض المفاجئ لقوته، فقد هرع بالركل والرفس بلا توقف على جسدي كما لو كان جسد ألد أعداءه وقد ضبطه ينهب أقدس ما يملك. ضربني حتى أسال دمي دون ان يتوقف، ودون أن ينبس ببنت شفة. كان يضربني باسترسال وكـأن بالرجل اختل عقله وأصابه مس من الجن. أما الذين كانوا يشاهدون ما يحدث فلم يتدخلوا بطبيعة الحال. فقد كان الرجل يصلح فسادا عظيما. كان الرجل بصدد الدفاع عن عرضه وشرف أسرته. لو كان الأمر لهم، لمدوه بيد العون لتربية الزنديق الكافر. أما أنا فكنت أنزف، وجسمي منكمش ونظرتي منطفئة، وثغري معوج من ألم الركل على جوانبي.
كانت صديقتي تراني أنهار تحت ضربات والدها التي كانت تتالى لتزداد قوة وعنفا. لم تحرك ساكنا قيد أنملة تعبيرا عن الاحتجاج. كنت أحاول بكل أوتيت من وسيلة وحيلة أن أخفي عنها وجهي. لم أكن أريدها أن ترى وجهي يفقد تقاسيمه تحت وطئ الألم والضربات . أريد تجنيبها صورة حصن يتداعى، ومشهد قلعة تستسلم للغزاة مدرجة في الدماء. فقد جرفت السد سيول أمواج الضرب العاتية، ولم يكن تمة من سبيل لتجنب الفيضان والغرق. كنت أغرق، بما في الكلمة من معنى؛ وكان والدها يغرق رأسي في المياه الهائجة. أما حبيبتي، فكانت ما تزال هناك، واقفة أمامي، من دون حركة، ومن دون أن تلتفت إلى بنظرة. عندما انتهى الأب من امره، مد إليها يده التي كانت ما تزال مبللة بعرق الجهد، حيث ركنت يدها، ثم أنصرفا متوجهين نحو اسوداد بيتهم المكفهر. فكان أمرا مقضيا.
لم نتبادل أبدا منذ ذلك اليوم كلمة واحدة. لم أعرف كيف أفسر هذا الامر. أكان خوفا؟ أهو احتقار، لأن والدها طرحني أرضا؟ أم نسيانا لمشهد تابعته دون أن يحرك فيها شيئا وهي تكاد تكون غائبة عن الوعي؟ لم أعرف أبدا ما الذي جرى. ولم أفهم أبدا لماذا صديقتي لم لم تعد صديقتي. بمعنى ما على الرغم من الضرب والألم ، كنت أقول مع نفسي وأنا أتلوى تحت سيل ركلات والدها، انها كانت ستحبني أكثر. أي نعم! كنت أتحمل الضرب من أجلها، في نهاية المطاف! لكن لا شيء من ذلك كان، فقد طوت الصفحة طيا.
كما هو الحال مع كل ما يجري في حينا، فقد أنتقلت بطبيعة الحال حكايتي بين كل البيوت .وحكاية صمت صديقتي كذلك. ظل الأطفال يسخرون مني ويتخذونني هزءا إلى أن غادر جلادي الحي نحو مدينة أخرى. لم أر بعد صديقة طفولتي ثانية ولم أعرف أبدا لماذا صرت ذلك الشخص الغريب في نظرها. لكنها استمرت تكبر في قلبي حتى طبعت بصورتها كل النساء التي أحببت من بعدها.
لكي أنسى، كانت بين يدي الكتب وقاعات السينما. هناك كنت أغرق حزني وألمي في حزن وألم الآخرين، كل أولئك الأبطال الذين طٌرحوا أرضا مثلي ذات يوم أو آخر دفاعا عن حلم من الأحلام. ما كنت أكره أكثر هي الطوابير الطويلة التي لا تكاد تنتهي أمام مدخل قاعة سينما السعادة (وهي السعادة بعينها، لا غير!) أو قاعة سينما الشريف. هناك حيث كان يجمعنا مراقبوا التذاكر ، ويجلدون أجسادنا بسياط أحزمتهم الجلدية الخاصة مثلما تجلد الدواب المحملة بالأثقال، قبل السماح لنا بالدخول والحلم مع أفلام ببروس ليه أو طاكسي درايفر، ذلك المقيم للحق في المدينة ومطهرها من حثالة الله المتعفنة. كنا نتعلق بالبطل المهزوم للعصور الحديثة، ذلمك المهمس الممتلئ بالإنسانية الذي يتنقل عبر المدينة ليلا، خلف دخان الشوارع المحاطة بحزام العاهرات والقوادين ومدمني المخدرات، والسياسيين الذين تزكم رائحة فسادهم الأنوف، وكل أصناف وأنواع أولاد القحبات، بحثا عن خلاص لا تأتي أبدا. كنا نحلم به أيضا بالمستقبل الذي كان له بالنسبة لنا وجه الشمس، كان نجما بسمات حسناء سمراء ذات شعر أسود، ممدة على شاطئ رمال بيضاء، وجه يضاهي جماله جمال ذلك اليوم الذي قالت فيه صديقتي أني الشخص الذي تحبه أكثر في العالم. أي نعم، جرت الأيام على وقع المشاجرات، والاعتقالات، والاعراس، والجنازات والأحلام. تماما كما في سينما الهواء الطلق، وفي تصوير فيلم لا يتوقف، وفي ورش لا ينتهي ، وفي استوديو يكون في السبيل الوحيد للاستمرار في دور من الادوار هو ارتجاله.
كنت في السابعة من العمر لما رأيت فيها لأول مرة روبرت دي نيرو،. وكان ذلك في سينما السعادة، رفقة صديقي حسن، أو حسن قريطيسة كما كنا نسميه. وهو لقب أقل ما يقال عنه أنه مناسب جدا، ويعني خرطوشة مسدس صغير. حسن قد تشبه أخيرا الأسلحة الصغيرة من 38 وسريعة جدا، مكتنزة جدا، والهواء الذكية، التدوير، المحموم، كما لو كان لمتابعة مسار وهمي، كما لو كان مقدرا له أن حفر أهداف واضحة وحده. بدا الأمر وكأنه مستشفى الثوم المعمر تحويله هذا الفيلم كل الشياطين! مبنى مستطيل ملاصقة لمستشفى السعادة (على بعد مبنيين من الحجر لا تزال موجودة، والمستشفى لا يزال بسطها رعايته، أغلق المسرح المحل، ولكن لا يزال لديهم نفس الاسم). وقال هذا هو المكان الذي أدليت به نفخة الارداف يوم واحد من قبل حشد من الكلاب الجائعة بينما كنت أنتظر الجزء عودة والدتي ويقول مرحبا لصديق ممرضة انها لم تر لها منذ ولادته. سأتذكر دائما، كنت جالسا أمام الباب، وعندما رأيت ما لا يقل عن اثني عشر جائع كليبس تعمل في الاتجاه الخاص بي. أنا بالذعر. بدأت عدو وكأنه غريب بدلا من يطرق على الباب وأدخل إخفاء. ركضت، ولكن كانت الكلاب أقوى. يقفزون في نهاية المطاف على لي. انها بت لي في بعقب والظهر والساقين. ولكن من دون خطورة. كان لي جهنم من الحظ في ذلك اليوم. ومنذ ذلك الحين لم أكن أبدا قادرة على موطئ قدم في هذا المستشفى. وعندما يحدث أن يمر، وأنا لا تزال ترى الكلاب، جميع الأسنان البارد، وعلى استعداد لتناول الطعام لي على قيد الحياة.
باختصار، كان عارض الأفلام السينما السعادة رجل عجوز من الجيل القديم. كان الفرد كما أن هناك الآلاف في ذلك الوقت. وهناك نوع بسيط. رجل مستقيم وحياة المتمسك، مع الذي كان لي صديقا وسريع جدا. قلت له كل ما أخي كان لي على هذا المخرج من أصل إيطالي، اسم مارتن سكورسيزي، هذا الرجل كل صغيرة وذكية جدا الذين لديهم طن من الأشياء في الحديث عن أصولها، إيطاليا د الأمس وما ترافيس، مجنون سائق سيارة أجرة الذين وجدوا صعوبة في العيش حياة كلبه. كان عارض الأفلام دهشتها ذلك خطابي حماسي للفيلم الذي لم يتحدث حتى المغاربة أو العرب أمضى الملفوف، تماما، بدون تقطيع بأي قدر من التفصيل يابس. كيف لي ان شاهدت الفيلم في مجمله فقط لأنني قد معبأة الرجل العجوز في قصة قال فيها يمكن أن يكون بدلا من كل ترافيس العالم، وأن حياته كانت أكثر مثيرة للاهتمام من أي انه يتوقع السينما محافظة السعادة. لكنه لن نقول للشخص في حياته. لأنه في الاساس هو غير لائق لنشر وجودها في الصور أو الكلمات. جعلت كل الأفلام منه الضحك مثل مجنون. وقال انه يفهم ان الناس كانوا يقاتلون في أفلام مثل الكونغ فو والكاراتيه، ولكن بعد ذلك أن يقول القصص الشخصية عن الحب والأطفال والنساء، ومشاكل الألم، والأسرة، الشعور بالضيق وكل شيء ... الحياة، ما! "لا، كرر غير لائقة! الرجال لم يعد لدينا أي ضبط النفس، بلا فرامل، ابني، بلا فرامل "، فدق لي يأخذني إلى الشهود. وقبل المتابعة، اجتاز دائما يده على رأسه لتخفيف أحكامها. "المفتاح هو الآن لكسب المال دون خجل، وحتى الذهاب الخوض في حياة الناس، يا للعار، يا عزيزي، يا للعار! ". كنت أفعل فقط ما تركني على حياة حميمة. كان ترافيس بالنسبة لي رجل مثل أخي الأكبر، وهو هامشي، الرجل القوي عريق، طابعا المتعنت والإنساني إلى الشجاعة. بقية هراء النفاق أنني دحض كتلة. كل ما تريد أن تجعلني ابتلاع هذا السائق ورجال العصابات والمهمشين والبلطجية، وجدت غير ذات صلة.