لا تصدق كلامهم
لا تصدق خبر موتك أيها المعلم الكبير، فما وقع في فجر يوم الخميس تاسع عشر نونبر ألفين وخمس عشرة ميلادية، لم يكن إلا حُلما آخر سيزعجنا ويؤلمنا كما نتألم يوميا. أيامنا كما تعرف أيها العزيز، جراحٌ ومقاومة. أنتَ وأمثالك القلائل من كان يُعزّينا ويشد من عضدنا...
هل أعَدِّد من صفاتك الكثيرة التي اكتسبتها عبر تاريخ طويل مع حياتنا المغربية.
فأنتَ أشرف المناضلين في مسيرة تمتد منذ الستينيات،طالبا بكلية الآداب بفاس، في صف أستاذنا أحمد اليبوري وبرفقة خيرة المناضلين والمثقفين في اليسار المغربي، ثم وأنت رجل التعليم المتفاني والنقابي الممارس والمناضل الحزبي في صف القوات الشعبية، والمحامي النزيه،عاليُ الكعب في القانون بلغة أدبية صافية، بل والخطيب الذي يُقنع بالحجة .. ألم تكن في محاكمة نوبير الأموي سنة 1992 ذلك القائد والخطيب والمدافع عن الحق. وتلك والله إحدى خصالك الأكثر إشعاعا وقوة.. أنك تدافع عن الحق مهما كلفك ذلك.فمرافعاتك ومذكراتك دروس تُعلم الطالب في الحقوق والمحامي والقاضي والمتقاضي، تعلمهم الأخلاق والقيم وفلسفة الحياة والعقل والمنطق واللغة.
قبل خمس عشرة سنة
بتاريخ سادس عشر يوليوز 2000، كتبتُ إليك تحية نُشرت بجريدة الإتحاد الاشتراكي تحت عنوان : (الميتر محمد الصبري ) :
قليلون هم رجالات القانون الذين يمتلكون خصوصيات استثنائية فضلا عن تسلحهم بالمبادئ أولا والقانون ثانيا .
والميتر محمد الصبري أحد المجتهدين في النُّبل والقانون، فقيه في البحث عن نقط الضوء التي يمكن أن تبدأ صغيرة لتتسع فتعمّ الجميع.وهذا ليس بغريب عنه فهو المتمرس أكاديميا بثلاث شهادات عن حق معرفي وخبرة مشهود لها : دبلوم من كلية الحقوق ، وآخر من كلية الآداب ودبلوم الدراسات العليا كان على وشك مناقشته تحت إشراف محمد بن تاويت ، ثم دبلوم الممارسة الحقوقية والسياسية والنقابية والجمعوية ، ومدير مشرف على سلسلة "حقوق الناس ". رغم كل هذه الشهادات فإن حدوسه واحتمالاته الشفوية والمكتوبة تجيء أكبر من كل شهادة في واقعيتها وأحيانا في دُنُوّها من النبوءة.
سياق هذا الكلام عن الميتر الصبري ( والذي نفضل – كما تعوّدنا أن نناديه ببويا الصبري)هو نجاح عمليتين أجراهما مؤخرا بفرنسا على قلبه الرهيف[ كان ذلك في صيف سنة 2000] ، وقيامه بالسلامة، يمشي بيننا، في طريقه المفضل بين شارع عبد الرحمان الصحراوي والمداخل المتعددة لشارع آنفا ومولاي يوسف، متأبطا يد أحدنا ، يتكلم بصوت جهوري لا يخلو من حرارة وأمثلة وحدوس، وأحيانا من أحلام يقولها وهو يبتسم ثم تتطور ابتساماته إلى ضحك يغلبه، فيسعى ليُداريه قبل أن يعود إلى الواقعية المفرطة، مشيرا بيديه ثم يتوقف ، يلتفتُ إليكَ ليرى ردّك أو ملامحك .
الأكيد أن ما يشدني إلى سي محمد الصبري ، دائما، تلك الأبعاد الكثيرة التي نشترك فيها، ولكنه ذلك الثراء الذي يحمله كرجل قانون وسياسي واقعي ومثقف متفتح ... إنها المعرفة ، فضلا عن الأخلاق التي تجعلنا أكثر حرصا للحفاظ على هويتنا وملامحنا . سلامتك بويا .
لماذا لا تردّ علينا
سي محمد، أيها الصديق الوفي لأصدقائه ولمبادئه ولكل الشهداء في هذا البلد. أعرف أنك لا تخشى الموت كما كنتَ لا تخشى الاعتقال والتضييق. لا تخشى الغد لأنك تؤمن بما هو كامن في أجيالنا حاضرا ومستقبلا . ما ضرّك إلا الغدر والتهاون والانبطاح .. ورغم ذلك كنتَ شامخا تتحدى كل النكسات ونجتمع حولك كما يجتمع المريدون بوليٍّ حميم .. تمنحنا الثقة والأمل . وقد كنتُ أرى فيك أستاذا لي كما هم أساتذتي الذين منحوني نفس القيم بحمولات المعرفة والكرامة .
كنتُ أسعد ُ كثيرا وأنت تكلمني سعيدا بشيء. وأنا أتخيلك واقفا تنظر إليّ أو إلى السماء، تراقب الشروق بقلب يتحسس الغروب. كثير القراءة والتأمل ، كأنك ، يا محمّد، سليل فلاسفة الإغريق المتشبعين بالحرية والخلود.
بعد محاكمة الأموي، كنتَ أنت رئيسنا ، أنا وجلال الطاهر في تجربة فريدة وشجاعة ب" حقوق الناس " التي أصدرنا ضمنها عددا من الكتب القانونية. وحينما توقفت السلسلة بقيتَ رئيسنا في مدرسة أعتز بالتعلم فيها.
الموت يعْبُرُنا أو نعْبُره. يعبرنا حينما نختفي ونتراجع .. لكننا نعْبرُه ونحن في خضم الحياة . وأنتَ أيها المبدعُ في كل شيء، كنتَ دائما عابرا للموت وأنت حيّ .. غير خائف أو مرتعب. أتخيلك وأنت تختار الفجر لتَعْبرَ إلى جوار ربنا الكريم الحنون. الفجر ، يا محمد ، الذي أرّقنا كثيرا .فليرحمنا الله جميعا. ارقُد بسلام فنحن مستمرون بروحك التي لا تفارقنا .