أقام نادي حيفا الثقافي والمجلس المِلّي الأرثوذكسي الوطني- حيفا، ومؤسسة الأفق للثقافة والفنون حيفا، أمسية ثقافيّة للشاعر نزيه خسون وإشهار ديوانه "ناي الروح"، وذلك بتاريخ 1-10-2015، في قاعة كنيسة ماريوحنا الأرثوذكسية/ شارع الفرس 3 حيفا، وسط حضور كبير من أدباء وشعراء وأصدقاء وأقارب، وقد تولى عرافة الأمسية فردوس حبيب الله، وتحدث كل من الأدباء: د. راوية بربارة، د. بطرس دلة، عفيف شليوط، تركي عامر، والزجّاليْن نجيب سجيم ووائل أيوب، وفي نهاية الأمسية شكر حسون الحضور وتم التقاط الصور التذكارية.
كلمة عريفة الحفل فردوس حبيب الله: مساؤكم خير وشعر. مساؤكم لغة معطرة برذاذ الحنين إلى الذات. من صميم المسؤولية الوطنيّة والحرص الأدبيّ للحفاظ على لغتنا وعلى سماتها، أشكر السيّد فؤاد نقارة وزوجته السيدة سوزي نقارة، على مساهمتهما في رسم اللوحة الأدبيّة بأبهى ألوانها وأرقى مضامينها، خاصّة في زمن بخل علينا حتى في لقمة العيش، فليست تقام وتنظم مثل هذه الأمسيات بمستواها المعهود، إلّا بإصرار وعزيمة وانتماء كالذي يملكان. وقد قيل: إنْ سُمّي الشاعر شاعرًا، لأنّه يشعر بما لا يشعر به غيره. فإذا لم يكن عند الشاعر توليد معنى ولا اختراعه، أو استظراف لفظ أو ابتداعه، أو زيادة فيما أجحف فيه غيره من المعاني، أو نقص مما أطاله سواه من الألفاظ، أو صرف معنى إلى وجه عن وجه آخر، كان اسم الشاعر عليه مجازا وليس حقيقة، ولم يكن له إلا فضل الوزن. ومَن منا لم يقرأ في شعر نزيه حسون ولادة وابتداعًا، زيادة عند اللزوم وتنقيص في غير اللزوم؟ مَن منا لم يقرأ فيه صورًا شعريّة لم يقرأها من قبل؟ فقد قال في إحدى قصائده: لملمي طفولتك المنثورة/ بين أناملي/ وأخبريني/ كيف صار النيل نهرًا من نبيذ / كيف أغرقنا/ بوحي/ وحنين/ وحبقْ
يقول حسان ابن ثابت "متحدثا عن نزيه حسون": والشعر لبُّ لسان المرء يعرضهُ/ على المجالس أن كيسا وإن حمقا/ وإن أشعر بيت أنت قائلهُ/ بيت يقال إذا أنشدته صدقا
أعزائي : إذا أردتم أن تتعرفوا على شاعر، فاحذروا أن تقرؤوا عنه بل فاقرؤوه. فلقائي بالشاعر نزيه حسون كان قصيدة، أثارت مكامن الفكر المتأجج داخلي، وانسابت كخيوط شمس دافئة في أمواج الروح. قرأتها مرات ومرات، وكل مرة كنت أقرأها كنت أكتشف جوانبا جديدة في شخص الشاعر. تقول القصيدة: وردتُ البحرَ علّ البحر يـَحضُنني/ وعلَّ الموج جُرْحَ القلبَ يُنسيني/ فصار البحر للأعماق يسرقني/ وهب الموج صوب الشطِّ يُلقيني/ كما الاحزان عند الصبح تؤلمني/ وعند العصر تحرقني وتكويني/ الى شهناز بات الشوق يسكُنَني/ انا المسكون بالهمِّ الفلسطيني/ ايا شهناز لم يبق/ سوى عينيك لي وطنا/ فضميني إلى عينيكِ ضميني/ ولا تدعي لهيب العشق يلفحني/ ولا تدعي دماء الوجد/ تنزف من شراييني/ وعودي الآن صوب القلب عاشقةً/ فإن لم تأتي يا قدري/ ستحملني رياح الشوق في شغفٍ/ وفي شيراز قرب ثراك تُلقيني
لقد أصبح شعر نزيه حسون مسطرة يقاس بدقتها سواء الشعر، حلاوته، صدقه وبلاغته. وإلا فكيف لقلمه أن يبحر في جميع بحور الشعر بحرفية وبجمالية وفن وإبداع؟ له عدة مؤلفات، ميلادها في رحم المأساة. فغاص وغاص وبدأ في البحث عن النصر في جسد يلد النصر. وألحقها بعزفه على أوتار سمفونية الحزن المسافر وأنشد مزاميرا من سورة العشق ليكتب قصيدة اخذت ملامح محبوبته. بحث عن وطنه في وطنه وهمَّ بالتحليق في عشق على سفر، ثم تلا على مسامعنا ما تيسر من عشق على سفر واشتعل بلحظة عشق ليلد الفكرُ لآلئا براقة تنير شعلةَ الوجود فينا ليأتي بنا هنا نترنم على ألحان عزفه على ناي الروح.
ناي الروح شعرا هو عريس هذا الاحتفال. ديوان شعر آخر للشاعر نزيه حسون من إصدار مؤسسة الأفق للثقافة والفنون لصاحبها الكاتب والمسرحي عفيف شليوط. فهنيئا لك أبا العلاء بهذا الاحتفال وهنيئا لنا بهذا الإصدار. ولك أقول: الصدق صديقي ودليلي/ قول مهجورْ/ في زمنٍ أصبح سيده / كلب مسعورْ/ في زمن خان الحبُّ ملامحَ قصته الحبلى/ نورا وزهورْ/ في زمن صار الشعرُ كلاما مصفوفا وكسورْ/ قد جئتَ لتنقذ مركبتي / من غضب الموج ومن غرقٍ/ من بحر الجهل وأرضٍ بور/ لم أقصد يوما معجمك العربي وكان قصورْ/ بل زِدتَ وزدتَ فكان النصحُ/ حروفَ عبورْ/ يا قلما حرا غرسَ الشعر بذوراً / تترجمُ في رحم التاريخ سطورْ/ لا يخلو شعرك من وجعٍ/ للأرض وللوطن المقهورْ/ هل يفنى شعرك من كتبٍ/ من أدبٍ يتجلى في النورْ/ فالشعرُ وأنتَ وسحركما/ حسونٌ يُطرِبُهُ شحرورْ
جاء في كلمة راوية بربارة: تحية خريفيّة تعبق برائحة التراب الأيلوليّ المغادر، وفوح التشارين القادمة المعبّأة بالحفيف الخفيف، كما تهاجر الطيور لتعودَ ثانيةً، ها أنا ثانيةً أعود لأتحدّث عن شعر نزيه حسّون، لكنّها ستكون مختلفة لأسباب عدّة، فإذا ما بدأت بنفسي أقول: تجربتي تغيّرت، تطوّرت، صقلَت مفاهيم جديدة وأصبحت أكثر جرأة على اجتراح النقد.
وأقول: أصبحتِ القراءة اليوم مقارنة، أقارنها مع ما كان لنزيه سابقًا، وهذه المقارنة تضع الكلمة تحتَ مِجهر النقد المقارِن في محاولةٍ لترجيح إحدى كفّتي الميزان. وأقول: تجربة نزيه حسّون اختلفت، وسآتي على ما اختلف فيها في كلمتي هذه عن "ناي الروح". الناي في موروثنا الحضاريّ عزفٌ حزين وبوح الشّجَن، والحزن موتيف متكرّر في الديوان، بل هو الموتيف المركزيّ في كلّ قصائد العشق، كأنّي بالشاعر يردّد مع سابقِه: إنّ الهوان هو الهوى نقص اسمه/ فإذا هويت فقد لقيتَ هوانا
والناي ناي الروح، روح الشّاعر نزيه تعزف لحنَ الشّجن حين قال ص. 27: "في عصرٍ أمسى فيه القتل مباح/ وصهيل الدم يطاردني/ ينزف قلبي في كلّ اللحظات/ بدون جراح"
يدمج نزيه أحزانه المختلفة؛ من الهمّ الجماعيّ إلى الشّخصيّ، من الدوائر الكبيرة اجتماعيًّا ووطنيًّا إلى دوائر الأنا التي يكتنفها العشق وتبلّلها الدموع ص. 7: "ما لي يترجمني المساء قصيدة/ والروح تغرق بالأسى/ إنْ جاء يشعل مهجتي/ شجن الغروب/ هذي شغاف القلب أم بحرٌ أنا؟/ والموج يمضي من دمي/ والموجة دون إرادتي/ نحوي يؤوب"
هذه زمكنيّة ظاهرة في البيتين السابقيْن وفي أغلب القصائد، المساء بغروبه يُغرق الشاعر بالحنين، والشاطئ يبعث النوستالجيا لتحرّك أنينَ المشاعرِ الراكدة، والشاطئ هو حيفا التي يتماهى معها، فيُصبح الشاعرُ بحرَها ويُسقِط كالرومانسيين ما في نفسيّته على معالمها وموجوداتها لتصبح حيفا حزينة خريفيّة مثله تمامًا: "هل غادر الشّعراء من وجع القصيدة/ صوبَ وجهي/ ليرون حيفا في عيوني/ ترتدي شجن الخريف".
حيفا هي الطلل الذي يبكيه نزيه، ويقف عنده ويستوقف، متّكئًا على عنترة بن شدّاد في مطلع معلّقته الطلليّ: "هل غادر الشّعراء من متردّم أم هل عرفتَ الدار بعد توهُمِ؟" وهو يتّفق مع عنترة في أمريْن؛ أوّلهما المعاني التي كتبها السابقون ولم يتركوا للشاعر ما يصوغ من بدايات الطلل، وثانيهما عشق عنتر لعبلة، وعشق نزيه لحيفا..لذلك يراها الشعراء من عينيه إذا ما صوّبوا نظرهم صوبَ وجهه..وهو يسمّي حيفا ربّةَ الإلهام: "سمّيتُ حيفا ربّة الإلهام/ إلهام الهوى/ ونبيّةَ الوحي التي أوحتْ لهذي الروح/ أن تنثال عند البحر مزمورًا/ يذوّب مهجتي حدّ النزيف"
وتتداخل الأسماء كما تتداخل الأماكن، كما تنثال الذكريات...لتصبح ربّة الإلهام إلهامَ المعشوقة، المرأة الحبيبة: "إلهام يا إلهام/ هذي الروح فتّتها الجوى/ وأحالها نهرًا من الشوق/ المعتّق والعنيف"
والنهر مصبّه البحر، ونهر الشوق المعتّق كالنبيذ، العنيف من شِدّةِ عصْفِهِ، يصبّ في بحر الهوى، وفي بحر حيفا، وفي ذات الشاعر. ومرّةً ثانيةً يتّكئ نزيه على التناصّ مع ميسون بنت بحدل زوجة معاوية بن سفيان ووالدة يزيد التي حنّت لأهلها في البادية فقالت أبياتها المعروفة: لبيتٌ تخفق الأرياح فيه/ أحبّ إليّ من قصرٍ منيفِ/ ولبسُ عباءةٍ وتقرّ عيني/ أحبّ إليّ من لبس الشّفوفِ
أمّا نزيه فيقول: ولَصخرةٌ بيضاءُ يا إلهامُ/ عند الشّطّ في حيفا التي/ كانت تهدهد روحَنا/ لأحبّ عند القلب..عند الروحِ/ من قصرٍ منيف"
ولو بقينا في الاتّكاءات التناصيّة وعرّضنا على قصيدة "مدح الرسول" نجد "كعب بن زهير" حاضرًا: "أُنبئتُ أنّ رسولَ اللهِ أوعدني/ والعفو عند رسول الله مأمول". ونزيه قال: " هذي القصائد بالخشوع توشّحتْ فلعلّي أحرز عفوَكَ المأمولا".
وكعب شبّه الرسول بالنور، نور الهداية والسيف المسلول: " إنّ الرسول لنورٌ يستضاء به/ مهنّدٌ من سيوف الله مسلول". ونزيه قال: "أنتَ الدليل لمن أرادَ هدايةً/ والسيف أنتَ لمن أراد بديلا".
وهنا ما أخشاه عليك يا نزيه، فعندما نتّكئ على التناصّ في الأدب، نحن نعترف ضمنًا بقصور حاضرنا عن إيصال مبتغاه، فنلجأ للماضي سندًا وعكّازًا وتراثًا وتواصلًا نفاخر فيه. لكن، إذا اقتربنا من فحول الشعراء ككعب بن زهير بن أبي سلمى علينا أن نحاذرَ، فهذا التناصّ نوعٌ من المعارضات الشعريّة، خاصّةً وأنّها لامية، كلامية كعب، وللقصيدتيْن نفس الموضوع (مدح الرسول)، فإذا ما تجرّأتَ واقتربتَ عليكَ أن تتفوّقَ على سابقكَ، وأنتَ في لاميتكَ تكلّفتَ الصنعة لا الطبع، لأنّك نظمتَ نظمًا..ولم تترك المعاني تنساب على سجيّتها...لأنّك خطّطتَ أن يكونَ عدد الأبيات بعدد سني الرسول التي عاشها، لأنّك التجأتَ إلى: "أيّها المبعوث فينا/ جئتَ شرّفتَ المدينة"...
كنتُ أريدها قصيدة "طبع" لا تُعملُ فيها مِشرَط الآخرين فتجرحها، ولا تُعمِلُ فيها التشطير فتأخذ شطرًا من رثاء الزهراء لوالدها ومطلعه: "قل للمغيّب تحت أطباق الثرى"
وتضيف إليه شطرًا من عندك، فالتشطير مشروطٌ بأن لا يكونَ في تركيبه كلفةٌ ولا حشوٌ، بل أن يزيدَ الأصلَ جلاءً ومعنًى لطيفًا. فكيفَ يا نزيه دمجتَ الاعتذار للرسول، برثائه وبمدحِهِ؟ لماذا اتّكأتَ على التناصّ لتعارضَ فحول الشّعراء؟ لماذا ذهبتَ بنا إلى عصر الصنعة الشعريّة، والتشطير والتخميس، ونحن نحلّق صوبَ ما بعد الحداثة في أدبنا وشعرنا، ونبحث عن المعاني المنسابة الرقراقة المغرّدة دون كلفة؟!
تبقى الكلمة ملكك ما لم تنشرها، فإذا ما نشرتَها أصبَحَتْ مِلكَ الناس والقرّاء، وأصبَحَتْ شهادةً في حقّكَ، والشّاعر المرهف نزيه، عمر بن أبي ربيعة الفلسطينيّ، كان عليه أن يتروّى، لأنّ القصائد نقيض النبيذ، ألم تكن عجيبة السيّد المسيح تحويل الماء إلى خمر في عرس قانا؟ وماذا قال له رئيس الكهنة: "كلّ امرئ يقدّم الخمرة الجيّدة أوّلًا، فإذا سكر الناسُ، قدَّمَ ما كان دونها في الجودةِ، أمّا أنتَ فحفظتَ الخمرةَ الجيّدة إلى الآن". أمّا القصائد فعلى العكس تمامًا، عليكَ أن تعتّقها وتقدّمَ الأجودَ والأفضلَ مرّةً بعد مرّة، لأنّ القارئ النشوانَ لن يسامحك إذا أغفلتَ هذه الحقيقة.
لو قارنّا نزيه الآنيّ بنزيه في دواوينه السابقة لوجدناه يعيش على الحنين والأنين والنوستالجيا والتأمّل والدراسة والصنعة، ونحن عهدناه سنونوًا محلّقًا منسابًا يبني أعشاش قصائده في حنايا القلوب. جئتُ لأستفزّكَ لأنّك قادرٌ، ولأنّني أؤمن بموهبتك الفذّة وبشاعريّتك وشعريّتك، أقول لك: فلتأسرنا الصورة الشعريّة المبتكَرة لتحلّقَ حسّونًا مغرّدًا تعزف لنا على ناي الروح جميلَ قصيدَك. نريد من الشّعر أعذبَه، ونريد من الشّعر أكذبه، ونريد من حسّوننا أن يبقى محلّقًا في سماء الشّعر الفلسطينيّ، مغرّدًا خارج السرب العاديّ، له بصمته الخاصّة وإرثه الغزليّ الذي نتغنّى به، اتركْ أحزانَكَ وأنشدنا غزليّاتكَ تعزفها على ناي الروح لتطربَ قلوبُنا. دمتَ مرهفًا، حسّاسًا، شاعرًا حسّونًا.
الأديب فتحي فوراني/ إنذار بلهجة رضوانيّة: قبل شهر تقريبًا، اتصل بي صديقي ورفيق دربي الشاعر نزيه حسون وقال: لن تتهرّبَ مني. أريدك أن تشارك في الأمسية الثقافية. حاولت أن أتهرب وأتذرع بالمعاذير الصادقة بسبب انشغالاتي الكثيرة، غير أن جميع محاولاتي باءت بالفشل الذريع. فرفعت الراية البيضاء وقلت في سري: إنه البد الذي ليس منه بد وأمري لله. وبعد أن أسلمت أمري لله، جاء دور الإنذار الكلاسيكي الذي وضعتْ أُسسَهُ الشاعرة آمال عواد رضوان، (رضوان الله عليها!)، محذرًا وبلهجة صارمة: لا أريد لكلمتك أن تتجاوز الخط الأحمر؛ ثماني دقائق فقط لا غير. فوعدته خيرًا وغرشت، وقلت له سوف أبحبحها قليلا، وسوف أتجاوز الخط الأحمر، وأكرم عليك بدقائق معدودة، فأنا كريم وأنت جدير بالكرم.
أبى نزيه أن يكون نزيهًا! إذ طلبت من نزيه أن يزودني بمعلومات أساسية عن سيرته الذاتية، لا تتجاوز الصفحة. فبعث لي بكمّ من المقالات عن إبداعاته وما كتب عنها. لقد أمطرت السماء وابلًا من العطاء الحاتمي، وانهمرت على شرفتي عشرات المقالات النقدية، وبدلا من الصفحة التي طلبتها، غمرني بطوفان بلغت قوته حوالي مائة صفحة فقط لا غير، وقال لي: هذا غيض من فيض! ومرة أخرى أبى نزيه أن يكون نزيهًا، فقد راح يهتّ عليّ بسيف العزّ، وينذرني أن لا تتجاوز كلمتي الدقائق الثماني، وهي مهمة لعمري شبه مستحيلة، لكني سأحاول، ولن أكلف نفسي إلا وسعها!
الإحاطة في أخبار غرناطة من الأمور المستحيلة. والإحاطة في إبداعات صديقنا نزيه تحتاج إلى دراسة عميقة متأنية وشاملة لا يتسع لها الفضاء الزمني المعطى. فكيف لي أن أحشر البحر الكبير في قارورة صغيرة؟ لن آكل خبز الآخرين، فأترك للأصدقاء على المنصة مهمة إدخال النص الشعريّ إلى غرفة التشريح، وإمال المبضع النقدي للتحليل والغوص في أعماق البحار الحسونية. لم يبق لي والحال هذه، إلا أن ألجأ إلى أسلوب البرقيات، فتعالوا معي نركب البحر ونطلق البرقيات السريعة سهلة الهضم، تعالوا معي نركب البحر، ونطلق البرقيات، وهي مقتطفات من شهادات لكتاب ونقاد أحترمهم وأجلهم.
*برقية أولى لجميل السلحوت: الشاعر ساخط على أنظمة الطغيان والخنوع التي فرطت بالأوطان وبالشعوب، ومارست الفساد والخيانة وقتل الشعوب، وتذيلت للأعداء. الشاعر مشتعل بعشقة لوطنه فلسطين، ولشعبه الفلسطينيّ، ولوطنه العربي الكبير ولأمّته العربية، وهو يعشق المرأة أيضًا، وكأنّي به يقول من لا يعشق المرأة لا يعشق الوطن.
*برقية ثانية لإبراهيم جوهر: مضمون قصائد نزيه يتمحور حول العشق؛ العشق للأرض التي تتوحد مع المعشوقة الأنثى الإنسانية فلا تكاد تنفصل عنها.
*برقية ثالثة لبطرس دلة: يخاطب الناقد شاعرنا: أيها الشاعر المفاجئ كتابة والقاء! أنت قنديل حب تضيء لنا ليالي الشتاء، باقٍ في أحلامنا المتجددة وفي نكهة قهوتنا الصباحية، وفي همسة عاشقين وعناق حبيبين. *برقية رابعة لمحمد صفوري: إنّ ديوان "ما تيسّر من عشق ووطن" يعدّ رائعة من روائع الشّعر العربيّ الحديث، لا على المستوى المحلّي فقط، إنّما على مستوى العالم العربيّ قاطبة.
*برقية خامسة: رسالة جاءتني من صاحبة الوجه الملثم واسمها سمر. أشهد يا سمر أنك شاعرة من الطراز الأول. ويقتلني الشوق للتعرف عليك. فهل تتكرمين علينا بإماطة اللثام عن الوجه البهي لشعرك الجميل؟ *برقية سادسة لمحمد علي سعيد: كل ما في ديوانك يدل على انتقائية ذكية، تعكس ذائقة أدبية وجمالية وخبرة في حسن اختيار المفردات والتراكيب اللغوية.
وبعد، هذه البرقيات السريعة لا تغني أبدًا عن دراسات متأنية، تعطي هذه الإبداعات ما تستحقه من مرتبة في المشهد الشعري. فالفضاء الزمني البخيل، لا يتسع للطوفان الإبداعي الذي غمرنا به صديقنا ورفيق دربنا الشاعر نزيه حسون. وكلمة أخيرة لا بد منها. هل سمعتم عن الفتى المعروفي الذي دوّخ الإمبراطورية العظمى، وضحك على ذقون القتلة ولما يبلغ الاثنين والعشرين عامًا؟ لقد أرادوه أن يحمل البندقية ويصوبها إلى صدور أبناء شعبه، فلجأ إلى الطرق الالتفافية، وارتدى القفطان واعتمر العمامة المعروفية، وأرسل لحية مستعارة وعنجر شاربين مستعارين وأطلقهما مدفعين، ومدّ لسانه إلى جلاديه ساخرًا وقائلا: ما فشرتم. كان هذا الشيخ الشاب الذي ما زال شابًا دائم الخضرة والعطاء، هو عريس هذه الأمسية الشاعر الملتزم فكرًا وعشقًا وشبابًا؛ نزيه حسون! ألست القائل يا نزيه: لله كنوز تحت العرش مفاتيحها ألسنة الشعراء؟ لقد حملت مفتاحك الإبداعي، وفجرت كنوز الرب تحت العرش، لقد غمرتنا كبًّا من عند الرب، دمت لنا أيها الشاعر المتألق دائمًا، ودامت ينابيعك الحاتمية، لقد فجرت فغمرت فأبدعت فأمتعت.
مداخلة عفيف شليوط: برز نزيه حسون ولمع اسمه من خلال المهرجانات الشعبية التي كانت تُعقد في قرانا ومدننا العربية، كشاعرٍ ثوري تعبوي بامتياز، ملتزم بقضايا وطنه وشعبه. نحن نعلم كم كان الشاعر في العصر الجاهلي هام ومركزي في حياة القبيلة التي ينتمي لها، وكم كانت القبيلة تعتز وتفخر به، وكان الشاعر آنذاك بمثابة الناطق الرسمي باسمها، وهذا هو حالنا مع الشاعر نزيه حسون، حيث أصبح يردد الناس قصائده التي تُعبّر عن مشاعره وهمومه، وأذكر البيت التالي (من ديوان ميلاد في رحم المأساة) باكورة أعمال الشاعر: قسمًا بلينا لن نلين للحظةٍ/ يا سلطةً هوجاء فلتتعلمي
بالإضافة للشعر الثوري التعبوي، يمزج نزيه الشعر السياسي مع العشق، وفي ديوانه الأخير "نايّ الروح" يكتب قصائد عشقٍ، إلا أن العشق لدى نزيه له دلالات أخرى. فالعشق لديه هو العشق لكل ما هو جميل، ولكل ما هو عزيز على قلبه. ففي قصائده نجد العشق للأرض والوطن، العشق ببعده الانساني. ففي قصيدة "يا من بُعثت الى العباد رَسولا" يبرز عشقه للرسول الكريم، وفي قصيدة "عن الجمال وسحره" يذوب عشقاً في الجمال والطبيعة والوطن، وفي قصيدة "هل غادر الشعراء" تتحول قصيدته الى بكاء من شدّة تأثره بمعشوقته حيفا، وهو الذي أدمن العشق في قصيدة "يا قلبها"، ويهيم عشقاً بفاتنة خرساء، ويسأل الله أن يهديها لسانه، لتهمس بالسلام على سلامه في قصيدة "الفاتنة الخرساء"، وفي قصيدة "وأمام حُسنك أحرفي تتكسّرُ" نجد شاعرنا يرفع الراية البيضاء، ويعلن استسلامه أمام جمال حسناء فاتنة فيقول: مالي أَمامكِ عاجزًا أتـعـثَّــرُ/ وأمام حُسنكِ أحرفي تتكسَّرُ/ مالي يترجمني الحنينُ قصيدةً/ والشّعرُ ينزفُ أدمعًا تَــتَــــفَجَّرُ/ قلبي يذوبُ منَ الهيام كَشَمْعةٍ/ والرُّوح من جمرِ الهوى تتبخرُ/ وتفِرُّ من شفتي الحُروفُ جَميعُها/ وتخونني الكلمات حين أعبِّرُ/ هذا الجمال يفوقُ سحرَ قصائدي/ ويظلُّ منْ ورد البلاغةِ أنضرُ
وهو في إحدى اللقاءات التي أجريت معه تحدّث عن استحواذ المرأة على حيّزٍ واسعٍ من قصائدهِ يقول: لاشك أن المرأة هي عالم كامل من السحر والجمال في حياة الرجل بشكل عام، فما بالك بالمرأة في حياة شاعر مرهف الإحساس والوجدان، فالمرأة تقود الشعراء إلى فضاءات من الإبداع والهيام والتحليق.
فالمرأة معين لا ينضب من الإلهام والإيحاء للشاعر، والشاعر الذي لم يعش حالة ِعشق، ولم يبحر في كون وجمال وأسرار المرأةِ في رأيي، يفقد الكثير من مقومات الإبداع وشعر الغزل، وهو يميل الى تسميته شعر العشق، وهو احد المواضيع الهامة في ديوان الشعر العالمي عبر كل العصور.
وعودة الى الديوان "نايّ الروح"، نبحر معًا مُجدّدًا، وهذه المرّة مع القصيدة التي أطلق الديوان على اسمها "نايّ الروح": ففي هذه القصيدة القصيرة جدًّا والمعبّرة جدًّا، يكتب شاعرنا عمّا آل إليه حالنا، في عصر استباحة القتل وارتكاب أفظع الجرائم اللا انسانية، يقول: في عصرٍ أمسى فيه القتل مُباح/ وصهيلُ الدم يطاردني/ ينزف قلبي في كل اللحظات/ بدون جراح
ما أجمل هذا المقطع، فهنا يتحوّل الدم، الدم الذي يُسفك يومياً في عصرنا هذا الى جواد، وصوت صراخه يطارد مشاعر الشاعر، الذي قلبه ينزف لكن بدون جراح. إلا أنه لا يجد الحل في ظل هذا الواقع المأساوي إلّا باللجوء الى الرومانسية، يبحث عن عالمه الخاص، ربما نسميه نحنُ الماديون هروبًا من الواقع، أما هو فيسميه عشقاً روحيًّا، ويتلاعب بالألفاظ بشكلٍ مثير فيقول: في كل صباح/ أبحثُ عن نايٍ تُنقذني/ تعزفني عشقاً روحيًّا/ تعزف روحي/ كي أرتاح
تعامل الشاعر مع العشق غير المحسوس الى شيءٍ محسوس، فجعل العشق يُعزف، ومن العشق الروحي الى روحه (تلاعب في الألفاظ)، فتعزف الناي روحه لكي يرتاح. مرّة أخرى: عشقاً روحيًّا، روحي، أرتاح. فهنا العشق الروحي تحوّل الى روح الشاعر لكي يرتاح. إنّ هذه الأبيات أشبه بمعادلة رياضية، أشبه بعلم المنطق، فالشاعر يتناول حالة معيّنة، ليحوّلها الى حالةٍ أخرى ليتوصل بالتالي الى النتيجة. صدّقوني هذه القصيدة القصيرة جدًّا يمكننا الحديث عنها لوحدها طيلة هذا المساء، فكم بالحري الديوان بأكمله، ولكي تعزفوني عشقاً روحياً ، لكي أرتاح وأريحكم، لن أطيل عليكم رغم شغفي بأن أبحر أكثر وأكثر في عالم هذا الديوان، ولكن اسمحوا لي أن أتطرق قليلاً لمشروع إصدار هذا الكتاب .
إن مؤسسة الأفق للثقافة والفنون التي قامت بإصدار هذا الكتاب، تعمل من خلال هذا المشروع الثقافي على دعم الأدب في بلادنا ودعم الأديب في هذه الديار، فنحن قمنا بإصدار مجموعة من الكتب الأدبية لكتاب وشعراء محليين، دون أن يتحمّل الشاعر والكاتب أعباء تكاليف الطباعة والتوزيع، ونحن قمنا بتحمّل هذا العبء بدلاً منهم. لم نكتفِ بذلك بل بادرنا الى سلسلة نشاطات وفعاليات للترويج لإصداراتنا، على سبيل المثال قمنا في مطلع الشهر الحالي بتنظيم سلسلة فعاليات ثقافية لشريحة المُسنين في مدينة شفاعمرو، قمنا من خلالها باستضافة المؤلفين وتوزيع كتبهم مجاناً على المشاركين، لتشجيع المطالعة بين أوساط المُسنين، وكان لشاعرنا نزيه حصة لا يستهان بها من تلك الفعاليات. كذلك الأمر نعقد الندوات الثقافية حول إصداراتنا في مؤسسات ثقافية في مناطق مختلفة في البلاد والمناطق التابعة للسلطة الفلسطينية، وفي مدارسنا لتشجيع المطالعة لدى الطلاب.
وأوّد في هذا المساء أن أزّف لكم بشرى البدء بمشروع لترجمة أدبنا للغة العبرية، وسيخرج هذا المشروع الى النور في مطلع العام القادم. ومع هذه البشرى أختتم كلمتي، آملاً أن أكون قد وفقت بإلقاء الضوء على نقاط هامة لدى الشاعر المحتفى به، وعلى مشروع مؤسسة الأفق الثقافي. كما أوّد أن أنتهز الفرصة لأتوجه بجزيل الشكر لنادي حيفا الثقافي بإدارة المتفاني في دعم النشاط الثقافي في مدينة حيفا الصديق العزيز فؤاد نقّارة، حيث هنالك تعاون مستمر بين الأفق ونادي حيفا الثقافي، كما أحيي اتّحاد الكرمل للأدباء الفلسطينيّين على مساهمته في إحياء هذه الأمسية الثقافية، هذا التعاون الأول بين الأفق والاتحاد والذي آمل أن يتعزز مستقبلاً، ومساؤكم ثقافة.
مداخلة تركي عامر: نَزِيهٌ أَنْتَ شَاعِرُنَا الْغَيُورُ/ عَلَى إِرْثٍ تُعَانِقُهُ الدُّهُورُ/ عَلَى أُمٍّ تَهُزُّ الْكَوْنَ يُسْرَاهَا/ وَيُمْنَاهَا لَنَا نِعْمَ السَّرِيرُ/ عَلَى شِعْرٍ يُغَنِّي الْحُبَّ وَزْنًا/ بِقَافِيَةٍ وَتَصْطَخِبُ الْبُحُورُ/ بُحُورُ الشِّعْرِ لَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ/ وَلَا رَمْلٌ شَوَاطِئُهَا صُخُورُ/ تَكَسَّرَتِ الرُّؤُوسُ وَلَا تَعُدُّوا/ فَفِي الْأَعْدَادِ لَا تُحْصَى الْكُسُورُ/ إِلَيْكَ أَبَا الْعَلَاءِ الْيَوْمَ جِئْنَا/ شَمِيمًا مِنْ شَذَاكُمْ نَسْتَعِيرُ/ لَنَا فِي شِعْرِكُمْ نَارٌ تَخَفَّتْ/ عَلَى مَاءٍ تَسِيرُ وَلَا تَسِيرُ/ تُدِيرُ الرَّأَسَ كَأْسٌ دُونَ خَمْرٍ/ وَخَصْرًا رَاحَ مِنْ سُكْرٍ يَدُورُ/ أُحِبُّ خِطَابَكَ الشِّعْرِيَّ جَهْرًا/ فَفِيهِ الصِّدْقُ عَذْبٌ يَا أَمِيرُ/ وَفِيهِ الْعُمْقُ مَضْمُونًا وَشَكْلًا / وَلَا مَعْنًى بِلَا مَبْنًى يَصِيرُ/ وَفِيهِ السَّهْلُ مُمْتَنِعٌ عَسِيرٌ/وَإِنَّ الشِّعْرَ أَصْعَبُهُ الْيَسِيرُ.
نَزِيهٌ أَنْتَ شَاعِرُنَا الْغَيُورُ / عَلَى أَرْضٍ لَنَا فِيهَا جُذُورُ/ عَلَى شَعْبٍ يُرِيدُ الْعَيْشَ حُرًّا / عَلَى شِعْرٍ يُؤَاخِيهِ الشُّعُورُ/ تُرَاقِصُكَ الْقَصَائِدُ وَالْأَغَانِي / وَأَنْتَ الصَّبُّ عَاشِقُهَا صَبُورُ/ وَيَا حَيْفَا بـِ (نَايِ الرُّوحِ) جِئْنَا / وَ(حَسُّونًا) بِهِ فَرَحًا نَطِيرُ/ يُحِبُّ النَّاسَ مِنْ قَلْبٍ وَرَبٍّ / وَلِلْأَحْرَارِ فِي الدُّنْيَا نَصِيرُ/ عَرَفْتُكَ يَا زَمِيلِي قَبْلَ دَهْرٍ / وَحَالًا بَيْنَنَا امْتَدَّتْ جُسُورُ/ بِكُلِّ تَوَاضُعٍ كَالْعُشْبِ تَحْيَا / وَلَا يُعْمِيكَ تِيهٌ أَوْ غُرُورُ/ أُحِبُّكَ يَا ابْنَ أُمِّي مِلْءَ قَلْبِي / وَعُذْرًا يَا أَخَي قَلْبِي صَغِيرُ/ وَلَكِنْ لَا عَلَيْكُمْ يَا صَدِيقِي / فَطَيَّ الْقَلْبِ مَنْزِلُكُمْ كَبِيرُ/ عَلَيَّ اللهُ فِي حُبِّي شَهِيدٌ / وَيَعْلَمُ مَا تُخَبِّئُهُ الصُّدُورُ/ وَقَعْتُ بِحُبِّكُمْ وَالْحُبُّ أَعْمَى / عَلَى أَشْكَالِهَا تَقَعُ الطُّيُورُ.