احتضنت قاعة سينما بوجلود مساء الجمعة خامس يونيو الجاري عرسا سينمائيا لم تشهد مثيلا له على امتداد سنوات إغلاقها العديدة ، فقد حج إليها جمهور غفير ملأ كراسيها عن آخرها بمناسبة العرض الإفتتاحي الذي نظمه المخرج بوشتى المشروح ومن معه لفيلمه الوثائقي الطويل " ورثة لوميير " (2015) .
كان هذا الحفل السينمائي مناسبة لإحياء صلات الرحم السينفيلية بين أطر الأندية السينمائية القادمين من مختلف المدن المغربية وبين زملائهم من فاس ، التي حج فنانوها المسرحيون والتشكيليون والموسيقيون وغيرهم بالإضافة إلى بعض ضيوفها ومثقفيها وممثلي سلطاتها المحلية ومجالسها المنتخبة وفاعلين آخرين ، إلى هذه القاعة السينمائية الشعبية لتشجيع مخرج شاب ارتأى في أول أفلامه الطويلة أن ينبش في الذاكرة السينمائية للعاصمة العلمية . وقد تمخض عن هذا النبش التاريخي الفني تسليط الضوء على السبق التاريخي لفاس على مستوى تنظيم أول عرض سينمائي بالمغرب سنة 1897 ، بعد اكتشاف السينماتوغراف من طرف الأخوين لوميير و تنظيم أول عرض سينمائي لأفلامهم سنة 1895 بباريس ، وذلك بالقصر الملكي إبان حكم السلطان العلوي مولاي عبد العزيز (حكم المغرب من 1894 إلى 1908) . كما كشف هذا النبش التاريخي على أن أول فيلم تم تصويره بالمغرب كان على يد الأمير ألبير الأول (جد ألبير الثاني أمير موناكو الحالي) سنة 1897 كذلك ، وأن أول فيلم تم تصويره لفائدة الدولة المغربية كان سنة 1901 من طرف غابرييل فيير (أحد التقنيين المساعدين للأخوين لوميير) ، الذي استقر بالمغرب منذ هذا التاريخ وتوفي ببلادنا سنة 1936 ، وهذا المهندس الفرنسي هو الذي علم السلطان مولاي عبد العزيز فن التصوير الفوتوغرافي والسينماتوغرافي ، الشيء الذي مكن هذا الأخير من تصوير مجموعة من الأفلام السينماتوغرافية والصور الفوتوغرافية (مصيرها مجهول خصوصا بعد خلعه من الحكم ومبايعة أخيه مولاي حفيظ ، لكن هناك فوطوغرام لأحد أفلامه منشور بجريدة ILLUSTRATION ويتضمن مشاهد لحريمه وسط القصر ، بعضهن يركبن الدراجات والبعض الآخر جالسات في مكتبه) . وبهذا يكون السلطان المولى عبد العزيز هو أول مغربي وقف خلف كاميرا السينما خلافا للرأي الشائع لحد الآن الذي يجعل من الراحل محمد عصفور أبا للسينما المغربية .
لم يتوقف نبش المخرج بوشتى المشروح عند هذا الحد بل حاول التنقيب في تاريخ القاعات السينمائية بفاس وتوصل إلى أن أول قاعة سينمائية فتحتها سلطات الحماية بفاس العتيقة كانت بحي النواعريين سنة 1912 (استمرت هذه القاعة في عرض الأفلام إلى حدود 1922) وتلتها تباعا قاعات " الرحا " (بحي مولاي عبد الله) و " سطار " (بحي الملاح) و " أبولو " (قرب الملاح) و "بيجو " و" أسطور " و " ريكس " و " أمبير " و " لوباري " و " لوكس " و " قوس قزح " (بالمدينة الجديدة) و " بوجلود " و" دار العسكري " (بجنان السبيل) و " الهلال " والملكية " و" الأندلس " و " الأمل " (بالمدينة العتيقة) و " الشعب " (بحي بندباب) و" موريطانيا " (بحي عين قادوس) .
إلا أن الجزء الأكبر من هذا الفيلم تم من خلاله استعراض جانب من ذكريات مستخدمي هذه القاعات (الذين سماهم صاحب الفيلم ورثة لوميير) والوضع المزري الذي أصبح يعيشه بعضهم بعد توقفها عن العمل أو هدمها أو تحويلها إلى مشاريع أخرى .
قد نتفق أو نختلف مع المخرج بوشتى المشروح حول العنوان الذي اختاره لفيلمه ، وقد نبدي بعض الملاحظات فيما يخص إيقاع الفيلم ومدته الزمنية وبعض معطياته التاريخية وغير ذلك ، إلا أننا لانملك إلا أن نحييه على صبره ومثابرته وطول نفسه وما قام به من مجهودات طيلة ثلاث سنوات من البحث الأكاديمي الدؤوب والإعداد واختيار الأشخاص والفضاءات والتصوير وعمليات ما بعد التصوير وغير ذلك .. للوصول إلى هذه النتيجة المشرفة شكلا وموضوعا .
نتمنى أن يخلق هذا الفيلم الوثائقي الجديد نقاشا مثمرا ما أحوج ساحتنا السينمائية إليه ، كما نتمنى من وزارتنا في الإتصال ومركزنا السينمائي المغربي وغيرهما من المؤسسات الحكومية وغير الحكومية أن يعملوا على لم شتات ذاكرتنا السينمائية المبعثرة هنا وهناك في الخزانات السينمائية الفرنسية والإسبانية وغيرها وعند الأفراد ومن بينهم حفيد غابرييل فيير ، الذي يتوفر على أرشيف جده في شقه المرتبط بالمغرب . كما نتمنى أن تتظافر الجهود للخروج بكتاب (أو كتب) وإنجاز أفلام أخرى تؤرخ لتجربتنا السينمائية منذ البدايات الأولى إلى لحظتنا الراهنة .