كثيرا ما نصادف، ونحن محملون على أجنحة القراءة، وتأملات الكتابة والإبداع، نماذج من الكتاب والمبدعين ذوي الألوان الخاصة، والفصائل المتفردة..تجعل منهم أصحاب قضايا وإشكالات ومعالجات يصعب مجاراتها ومحاكاتها..وكذا السير على منوالها ومسالكها...مبدعون وكتاب لهم أناشيدهم وعزفهم المميز..كل ذلك يرمي بنا نحن القراء في أراضي رهيبة وموحشة.إلا أن رهبتها ناعمة ومشتهاة، ووحشيتها أليفة ووديعة، لا تزيدنا إلا إمتاعا ويناعة. بل تملؤنا بالدفء واللطافة.
ومن بين هؤلاء الذين تتوفر فيه الخصائص السالفة الذكر، وينسحب عليهم بعض من التوصيفات السابقة:الكاتب اللبيب، والمبدع الوديع «زهير الخراز»، قاص يؤنس ليالينا ونهاراتنا بمجموعة قصصية جديدة وسمها بـ»وصمة زعفران» الصادرة عن منشورات مؤسسة منتدى أصيلا.
إن هذه المجموعة بما صففته من سرود، وخاطته من الموضوعات والشواغل الذهنية، قد تفتح أمام قارئها آفاقا من القراءة والتأويل، إلى جانب التأملات والأسئلة..نصوص الأضمومة تنتسج وفق نظيمة من ضفائر القول الأدبي، وتتواشج لكي تترك سبائك من لغة النثر والتوليد غاية في الصفاء والصدق. وإمكانات هائلة في الحكي والبناء والتصوير..وكل ذلك طعمه الكاتب ببهارات من مقولات العقل، ومعطيات الحس والواقع بلغة الفيلسوف الألماني»إمانويل كانت».
مجموعة»وصمة زعفران»ارتأى صاحبها أن تنقدح شرارة جديدة في مشهدنا القصصي المغربي،حاملة معها الجدة في الطرح والمعالجة، والجديد في الرؤية والتناول..عناصر قوية نتبينها في ضروب التيمات والتقنيات التي طرقها ونهجها المبدع القاص في نصوصه العشرة.
إن «زهير الخراز» وهو يعد لنا في مطبخه الجميل والباذخ،هذه الأطباق الشهية،بما حوته من صنوف القول ولذيذ المواد والعناصر..يجعلنا نندهش قليلا أو كثيرا. فأسلوب الكتابة عند هذا المبدع ينحو صوب الممتنع السهل أحيانا، وفي أحايين يستهويه السهل الممتنع..فعلى طول وامتداد قصص المجموعة، يجد القارئ نفسه أمام عسر من الفهم، وفهم من العسر. الأمر الذي يجعل من مبتغيات ومطالب القاص تتوارى بين البيان والإفصاح، ولا تكشف عن نفسها لحظة استقراء وسبر لا مفكرها ومحجوباتها..إن هذا الأسلوب والتقنية حاضرة بقوة في مجموعة من النصوص. وهي تقنية ما كانت لتتوفر إلا من كاتب أو مبدع يحسن الإصغاء لذاته وأناه جيدا، ويتقن صناعته إتقانا مبهرا، حتى لا يقع في مهاوي التسرع والاندفاع..إن صاحب هذه التقنية والطريقة في الكتابة قد احترف الهدوء والأناة. إذ الالتجاء لهذا الأسلوب من «زهير الخراز» بهدف أن يرمينا بأحجاره الناعمة.أحجار إذا ما بادلناه نفس الصفات، وسلكنا ذات الأساليب، تحركت فينا روح السؤال، وفتحتنا على عوالم لا متناهية وممكنة من القيم والعادات، وأنماط العيش، ودبدبات حياة الناس كباقي الكائنات الأخرى.
لقد حبلت نصوص المجموعة بالكثير من التقنيات التي يحسن الكاتب لي أعناقها، من قبيل:ما يمكننا تسميته ب»تقنية التضاد»، فالقاص يكثر من ركوب هذه التقنية، فلا تخلو جل قصصه من ذلك. ولعل الهدف هو:تحريك عقل المتلقي والقارئ، لكي يعمل عقل المقارنة، وليستحضر خياله وذاكرته، ووجدانه من أجل الظفر بالمقصود، وكل ما يبغي الكاتب أن نشاركه في التمثل والتصوير والمعنى..وبالتالي تحصيل النتائج والقيمة المضافة واقعا وتخييلا.
وتتجلى لنا خصوصية الكتابة عند «زهير الخراز» والتي تبرز أكثر في حضور البعد الميتافيزيقي والأنطولوجي، وكذا الوجودي في مجموع نصوص المجموعة. وهذا الحضور يضفي على إبداعه بصمات فاقعة تجعل من كتابته، كتابة قوية في غموضها،تؤرق كل من سعى لتهجيها، والظفر بمطالبها ومتشوفاتها..كل ذلك نتبينه من لغة الأسئلة التي يمطرنا بها المبدع»زهير الخراز»، وهي تقنية ذكية عالمة. تؤدي بالقارئ إلى أن يأخذ بما يكفيه من الاحتراز والنباهة الفكريتين.فمن غير هذه الشرائط قد تضيع من القارئ المعاني والدلالات..ويتيه في حمأة التأويلات غير المطمئنة والبعيدة عن كينونة وجوهر قصص الكاتب.
عندما تحكم الكتابة حدودها وتلتزم أقواها:
ونحن نستحم في عيون أقاصيص المجموعة. نجد أنفسنا مطوقين بما لا يمكن أن الإحاطة به خبرا من التيمات والإنشغالات، وهي تيمات وموضوعات أثثت نصوص المجموعة، نومئ لبعضها في الآتي:
موضوع الطفولة التي تأبى إلا أن تحضر فاغرة الفم، فرحة مسرورة، مبتهجة، بما كانت تقوم به من أعمال وتصرفات واندفاعات قمة في العفوية والسحر، واللحظات والشيطنة، والمكر، والصبيانية الملآنة بسقط القيم وسفالة السلوك..ونحن أطفال لا نبالي بشيء إسمه العقل والضمير، ومعادلات الضبط والتقويم والحساب..استرجاع استعان فيه الكاتب بذاكرته وخياله المشدودان لعقله ووجدانه.
تيمة الشباب:هذه الأخيرة التي تسجل وجودها بالكثير من الثقة في النفس، واطمئنان بإيقاع المرحلة التي تعج بكل ما له صلة بالإنتفاش، والإنتفاخ والزهو.عناوين تجعل من يكتوي بنيران مرحلة الشباب والمراهقة مسدسات محشوة قابلة للانفجار والبعثرة في كل وقت وحين.ما أحلى تلك المرحلة. ولا أظن أحدا يتناساها..مرحلة في كف عفريت نفريت، قائمة على الرمل لا تستقر على حال ووضع.
تيمة الشيخوخة والكبر: لحظاتها تتراوح بين العجز والكبر والتحسر على الماضي، والخوف من اقتراب الأجل، وفراق كل عزيز من المعارف والأحباب، ومغادرة الديار والأوطان، وترك النفيس من حصاد السنين، واختزال الأوقات، والبكاء المبطن والمقبور في الدواخل والخبايا..حرقة مفارقة ومتعالية. بهاراتها من القلق والإحتراب الناتج عن قلة الزاد من البدن المصحاح والمعافى، والذاكرة القوية والمتقدة، ولهذه التيمة وصال بتيمة «الموت» التي تلقي بظلها وبأوزانها الثقيلة والمرنقة، وتجثم على العقل والنفس..إذا أردت الاستزادة ما عليك إلا أن تصاحب قصة «النقار»، قصة تلفحنا بحوار حامي الوطيس بين الإنسان وغيره من المخلوقات، وخصوصا الطيور منها.
تيمة الليل: الليل برمزيته وأعماقه الرهيبة، وهو يلفظ بأصواته البعيدة والقريبة في آن، التي سرعان ما تذروها الرياح الهوجاء، ويقتلها صوت «الشركي» وتصير قاعا صفصافا..في الليل تتساوى كل المظاهر والألوان، وتتشابه جميع التجليات وتتبرقع باللون الأسود..وبالليل ومعه يصعب أن نميز بين القريب والنائي..وتذوب الأجساد في بعضها البعض، مشكلة أيقونة واحدة متحدة. لكن الليل رحيم وهادئ، ومتسامح، وراقي، جميل أخاذ. حينما يأتينا بقمره وإطلالته البهية المنيرة المضيئة..فيحلو المقام، وتسعد النفس، ويتغنى القلب بأعذب الألحان وأرق المعازف..انتماء رومانسي شفيف من الكاتب، طاهر عرفاني كشفي ذوقي كما في قصة «طفلتي والقمر».
تيمة البحر: كم كانت مصاحبة القاص لهذا العملاق الذي يلبس قشيبة زرقاء..كم تعارك مع أصواته المدوية. البحر وهو يلقي بآخر جثته التي ألفها وأصبحت عنفا رمزيا بلغة «بيير بورديو». أعتاد طقوس البحر،أحبه حبا جما..رافقه في كل الأوقات والفصول..أسعده وأغضبه في آن..أهداه ذات مرة «أجمل غريقة»ابتهج واهتزت فرائسه.غاص في بحور من السرح العقلي، والإنتشاء الوجودي الجواني والبراني..ربما تذكر «إرنست همنغواي»صاحب التحفة الخالدة»العجوز والبحر». تاقت نفسه لمعاودة قراءة هذه الرائعة لتكتمل المشاهد، وتتزاحم الصور..إذا نطقت أيها اليم فما عساك تقوله، وتحكيه، وتوصينا به؟
تيمة اللون: إن «زهير الخراز» يبدو شغوفا بالألوان، مشدودا لفلسفة اللون ورمزيته من الأبيض والأسود، والأحمر، والأصفر، والأخضر، وباقي الترانيم والهندسات التي تسترفد من روح الألوان..ليرشها باقات بهيجة ساحرة، تضفي على سروده رونقا ووجودا آخر بعيد الأغوار مستعصي الدلالات، لكن مقبول المذاق والبهارات..مصداقيته مستعذبة مستساغة.
تيمة المرأة:يعرج على مراحل عمرية مختلفة. إن المرأة ثاوية في تضاعيف
المجموعة من الجدة صاحبة الحكي والحكايات الجميلة، والزاد الذي لا يفنى أويتلاشى. مرورا بالأم الحنون، الحامية لكل التفاصيل والأشجان، المداوية لكل منغص ومؤلم،الداعية الصادقة والحضن الرؤوم. وقوفا عند الصديقة المشتهاة، والمضمخة بعطايا غالبيتها ملفوفة بالسخاء والمن..تيمة تدعونا لاستحضار حوار مسؤول، متزن، صادق بين أزمان وأجيال متباعدة، وتبدو متنافرة ومشروخة. حوار حنين وذكرى غالية، لا يريدنا المبدع والقاص «زهير الخراز» أن نتركه وندس على روابطه بجرة قلم ولا مبالاة،أو بقول لا يقدم في المعادلة قيمة مضافة...كثيرة هي التيمات والقضايا المطروحة على قارعة هذه المجموعة.
كما تزخر نصوص «زهير الخراز» بالبعد المعرفي الفذ. نتلمس ذلك في معرفة الكاتب التي شملت عالم الطيور والحشرات وأشكال أخرى من الحيوانات التي تحضر بأصواتها وطقوسها ،وأوصافها،وعاداتها وعلاقاتها، ومواطن تواجدها.. كما يعرج بنا صاحب المجموعة على معرفته بحقول طبية وعلمية وتاريخية..ولا ننسى أن نشير لحضور مدينة أصيلا برموزها وأمكنتها، ومرجعيتها المتنوعة، فمنها كان يأخذ المبدع الخراز ما يراه ملائما ومناسبا في صناعة وتهيئة أطباقه الجميلة والماتعة. في أصيلا يذكرنا بشخصية «الشريف الريسوني» صاحب القصر الجميل، وما طبع هذا الرمز من الشيم الحميدة، وباقي الصفات الجمالية والفضائلية.