مقدمة تمهيدية
لقد كان المبرر والحافز الأساسي، الذي دفع بنا إلى القيام بهذا البحث المتواضع، هو رد الاعتبار للتراث العربي الإسلامي وتبيان مدى الأمانة العلمية، التي كان يتحلى بها العلماء المسلمين، في تحقيق مصادرهم الأجنبية، التي كانوا يتعاملون معها.
بالفعل لقد كان قد وصل إلى ديار أوربا، بل إلى رحاب المعمورة المتمدنة آنذاك، خلال العصور الأوربية الظّلامية الوسطى، التي كانت تعادل ما يمكن بتسميته لدى المسلمين ب" العصر الذهبي الإسلامي"، جزء لا يستهان من هذا التراث إن لم نبالغ قائلين، بل مجمله. ولقد عمل هذا الكم الهائل من الأعمال الأدبية منها والعلمية، على دفع عجلة التاريخ البشري نحو الأمام. ولقد حصلت من جراء هذا التأثير، أن ازدهرت مدنيات متعددة حول البحر الأبيض المتوسط، خصوصا في البلدان الأوربية التي كانت تقع في جوار رقعة جغرافية ما كان يسمى ب"دار الإسلام". ولقد كانت أوربا المسيحية، هي المستفيد الرئيسي من قيمة هذه البحوث والنتائج العلمية والأدبية، في دفعها نحو مستقبل مزدهر ومتنور. لكن للأسف الشديد، ونحن نتحدث عن أوربا القرون الوسطى وما بعدها، وما حظيت به من عطاء عربي إسلامي، في تتمة بناء الحضارة البشرية، نصطدم بجدار ذاكرة فولاذية، مصابة بداء مرض النسيان المتعمد. و إننا لنتساءل عن مدى قيمة الأمانة العلمية لدى هؤلاء. نعم هؤلاء الذين تنكروا عمدا، لهذا المكسب الحضاري، ولأمانة أساتذتهم المسلمين، وراحوا ينسبون باطلا لأنفسهم تارة، وللإغريق والرومان تارة أخرى، مدى ما حققوه من ازدهار وتقدم، في ميدان البحوث والاكتشافات العلمية. بل لغاية يومنا هذا، وقد وضعنا أقدامنا في مستهل القرن الواحد والعشرين، ما نزال نصطدم بهذه الأنانية الغربية، التي ما تزال بغرورها المعهود، مصرة على تفسير وقيادة المسار البشري، عبر محورته حول مركزيتها الذاتية والعرقية. وهذا ما تنبه له مؤخرا عدد لا يستهان به من الباحثين الأوربيين من أمثال "طيوفيل ݣوتييه"، "آلان دي ريڤيرا"، "بارطوليمي بن نصار"، "بوركات"، "جورج سارطون"، وغيرهم، وهم كثر. وبخصوص هذه الكراهية الوراثية، التي يكنها الغرب للعرب والمسلمين، يرى الباحث محمد أسد، بأنه قد نتج عن هذه العرقية الأوربية الأنانية، كرها للحضارة الإسلامية والمسلمين، ما يزال متفشيا وملموسا بشكل رهيب، لغاية يومنا هذا. وهذا الكره في تصوره، قد كان وليدا للخوف والانبهار في آن، من الآخر، الذي كان يتميز بتفوقه الحضاري عليه. ونسوق بالمناسبة، هذه المقولة المقتبسة من كتابه "في مفترق الطرق":" إن دمار إسبانيا المسلمة قد تطلب قرونا عديدة قبل الوصول إلى غايته. وبسبب امتداد هذه المقاومة الزمنية الطويلة، تبلور لدى أوربا الإحساس بمواجهة كل ما هو إسلامي، وبقي منذ ذاك بشكل مستمر. ولقد ترتب عنه القضاء النهائي على مسلمي إسبانيا، الشيء الذي لم تعرفه أية أمة مدى التاريخ. ولقد قابل هذه البربرية إحساس بالفرح والافتخار، علما بأن النتيجة كانت القضاء على حضارة العلوم والتعايش، واستبدالها بالجهل وكبرياء القرون الوسطى". ويضيف الباحث محمد أسد معلقا على ما أسماه ب "شبه اعتراف أوربي"، ولكنه اعتراف قد جاء جد متأخر، بخصوص هذا النبراس الحضاري الإسلامي قائلا:" بل حتى المستشرقين الأوربيين الأكثر نزاهة، قد وسخوا أنفسهم وأصبحوا بالمناسبة في قفص الاتهام بسبب الأكاذيب اللاّ علمية التي روجوها عن الإسلام". ونكتفي بهذا القدر ونعرض للهدف الرئيسي، الذي مهدنا له بهذه المقدمة التوضيحية. فبسبب هذا المسخ، وهذا التشويه المقصود للتراث العربي الإسلامي، ارتأينا أن نقدم للقارئ الكريم مجموعة من الدراسات والأبحاث، تتعلق بتبيين مدى تأثير هذا التراث الإنساني الإسلامي الخالد، على مدنية الغرب ومفكريها. وستكون دراستنا الأولى هذه التي نضعها بين أيدي القارئ الكريم "الكوميديا الإلهية" للشاعر الإيطالي "دانتي الليجييري" ومصادرها ومراجعها الإسلامية. بالفعل لقد تعرض بالبحث، لهذه "الكوميديا الإلهية" عدد لا يستهان به من الدارسين العرب، من بنت الشاطئ، لغاية زكي مبارك. ومنهم من رجح تأثر الأديب الإيطالي بالتراث الإسلامي، ومنهم من نفى ذلك. وملاحظتنا في هذه الأثناء، أن كثيرا منهم، قد حام وطوف حول الموضوع، دونما اختراقه بالبحث والشواهد المدققة. وهذا ما سنسعى إلى طرحه من خلال هذه الدراسة.
الكوميديا الإلهية بين السلم المحمدي وغفران المعري
لقد كان مسقط رأس الشاعر الإيطالي الشهير "دانتي الليجييري" ب"فلورنسا" سنة 1265م والوفاة ب"راڤين" سنة 1321م. ولقد اشتهر عالميا بإنتاجه الأدبي"الكوميديا الإلهية"، التي اخترقت سمعتها الآفاق، والتي ترجمت إلى معظم اللغات العالمية. ومما نعرفه عن هذا الإبداع الشعري الخيالي، الذي اصطلحنا على تسميته ب"الرسالة الإلهية"، وهو أنها قد ألفت ما بين 1307 و 1321م. وأنها كانت في بدايتها تحمل إسم "الكوميديا" فقط، استجابة للجنس الأدبي الذي بنيت عليه، والذي كان يتأسس على مبدأين:
-1- : ينبني من جهة، على أسلوب لغة دارجة وسيطة، مفهومة من قبل العموم، ومن جهة أخرى، على النهاية السعيدة، التي تتوخاها وتسعى إليها. ويعود الفضل للشاعر والأديب الإيطالي "بوكاس"، الذي جاء من بعد "دانتي" بنحو ربع قرن. يعود إليه الفضل، في إضافة صفة "الإلهية، لغويا"، لرسالة "الكوميديا". فأصبحت حينئذ، تعرف منذ ذاك الوقت، ب"الكوميديا الإلهية". والنص المرجعي الأساسي، لهذه الرسالة السماوية، المتواجدة بين أيدينا اليوم، يقوم بالأساس على طبعة "ليدوفيكو دولشِ" المنشورة سنة 1555م بعامية "فلورانسا". ونذكر بهذا الخصوص، بأن اللغة الدارجة التي حررت بها "الكوميديا الإلهية"، قد أسست على توطيد دعائم عامية "طوسكان"، كلغة إيطالية رسمية ناشئة. أما الجذور الحقيقية لهذه المحاولة اللغوية "الدّانتية" التوحيدية، فتتواجد بجزيرة "صقلية".
وجزيرة "صقلية" هذه، التي كانت موطنا للعرب المسلمين، لما يقارب ثلاثة مائة سنة (منذ دخول الأغالبة السُّنّيين إليها سنة 827م لغاية سقوطها على يد النّورمانديين سنة 1091م). قد شهدت تجربة أدبية ونهضة علمية منقطعة النظير، في ربوع أوربا القرون الوسطى. بالفعل لقد عاد هذا التراث الإسلامي بفضل كبير على بلد إيطاليا، التي لم تكن قد اكتملت وحدتها الترابية آنذاك. فأول محاولة للغة أدبية دارجة صريحة، كانت قد حصلت هنا في جزيرة "صقلية". وكان المؤثر والمولد الأساسي لهذه الظاهرة الأدبية، حسب المصادر الأوربية نفسها، ظاهرة شعراء الشعر الغنائي، الذين أطلق عليهم، في الأدبيات الأوربية الوسيطية، تسمية "طروبادور". وهؤلاء الشعراء يعرفون اليوم من قبل خبراء أدبيات القرون الوسطى، بكونهم عربا في الأصل وأن المصطلح اللاتيني "طروبادور"، هو في الأصل نقلا صوتيا للصيغة العربية "طَرَبُ الدّور". وكان يمثل هذه الظاهرة الغنائية، الشعراء المتجولين من أصول عربية أندلسية، إن لم نقل متوسطية، نسبة إلى مدن البحر الأبيض المتوسط المحيطة بأوربا ك: الأندلس و"صقلية"، و"مالطا"، و"قشتالة"، و"سردينيا"، و"كريت"، و"باليرمو"، و"تاورمينا"، و"كالياري"، و"قبرص"، والجزر الأخرى المحاذية لها.
ولقد ازداد هذا التأثير، في "صقلية" وتوطد، خصوصا إبان حكم الملك الإمبراطور "فريدريك الثاني"، الذي عرف بتأثره الكبير بالثقافة العربية الإسلامية. ومن هنا، أي من "صقلية" بالذات، انتقلت هذه الشعلة الأدبية نحو وسط إيطاليا فشمالها، لتأثر على كل اللهجات المستعملة. وإذا صح التعبير، على كل المنوعات اللغوية العامية ذات الصبغة الرومانية والأصول اللاتينية، ك:"لومباردي"، "فلورانسا"، "طوسكان" و"البندقية". ولقد حققت بهذه المناسبة، ولادة ما أصبح يسمى آنذاك ب"الأسلوب الجديد". وهنا يظهر "دانتي" على الساحة، كمنظر لغوي لما سيصبح ب"العامية الفصحى". هذه التي ستصبح مع مرور الوقت، القاسم المشترك للشعب الإيطالي بأكمله. إذن فالفضل يعود ل"دانتي"، في وضع الحجر الأساس، للغة إيطالية وطنية موحدة، في زمن كانت اللهجات الرومانية تتقاسم جغرافية إيطاليا تحت سلطة لاتينية الكنيسة الرسمية، التي كانت تدعى ب"لغة النحو والعلوم والآداب". ونلفت الانتباه بأن إيطاليا القرون الوسطى، كانت تتكون من عدة أقاليم ومدن جمهورية، مستقلة كل منهما عن الأخرى. ويقول المؤرخ والباحث الفرنسي "هنري فوڤيت" بهذا الخصوص، بأن "دانتي" قد نظم "الكوميديا الإلهية"، بلغة عامية فصيحة، في قالب شعري ثلاثي القافية، بحيث أن قافية البيت الأول كانت تأتي مواتية للبيت الثالث، وقافية البيت الثاني، ملائمة للبيت الأول من المجموعة الثلاثية، التي كانت تأتي بعدها. ولقد قسم "دانتي" رسالته الشعرية السماوية، إلى ثلاثة مجموعات غنائية: فصل في الجحيم، وثاني في المطهر وثالث في الفردوس. وجاءت كل مجموعة مشتملة على ثلاثة وثلاثين نشيدا، باستثناء مجموعة الجحيم التي استهلت بنشيد استفتاحي إضافي، ولقد جاء تصور هذه الكوميديا على الشكل الهندسي التالي:
- مركز الأرض الثابت في وسط الكون، ومن حولها تدور السماوات التسع:
- سماوات الكواكب السبعة
- سماء النجوم الثابتة.
- السماء الشفافة (البلورية) أوالمتحرك الأول، ومن دونها يوجد مقام الآلهة.
ويتواجد الشيطان الأكبر في وسط تجويفة أرضية مخروطية الشكل بسبب سقوطه، تحت مدينة القدس، حيث يتمركز الجحيم. وتتفرع عن هذا الجحيم، خمس دوائر تتواجد عند مدخل المدينة الإلهية، وأربعة دوائر أخرى تقع خارجها. كما ثمة طريق خفي يقود من مقام الشيطان، إلى جزيرة تقع بصفة معاكسة قطريا لمدينة القدس، حيث يرتفع المطهر، الذي يشتمل على:
- شط الجزيرة.
- ما قبل المطهر.
- والسطوح السبعة.
وعلى قمة المطهر تتواجد جنة عدن.
وهذا المطهر، يمثل مسرحا رهيبا، لكل من المتكبرين، والحاسدين وأصحاب الشره والنهم. لكن من أجل البلوغ إلى رؤية الإشعاع الإلهي، عليه أولا أن يتجاوز نهر النسيان رفقة المرشدة "بياتريس". وهكذا يصعد معها متجاوزا تسعة أفلاك. وهذه الأفلاك تأتي بعد: القمر، عطارد، الزهرة، الشمس، المريخ، المشترى، زحل، النجوم الثابتة، فالمقام الإلهي، أو سدرة المنتهى، حيث الإشعاع الإلهي. ومراتب هذه السماوات هي في الواقع الدانتي تمثيل للمراتب البشرية: أرواح بارة، أرواح خيرة، أرواح زاهدة، أرواح ذكية، أرواح شهيدة، أرواح عادلة، أرواح متصوفة، فمقام المسيح، ثم أخيرا، الإشعاع الإلهي.
وتستهل هذه الرسالة الإلهية بالأبيات التي ينشدها "دانتي" قائلا:" حين وصلت إلى منعطف طريق الحياة، وجدت نفسي في وسط غابة قاتمة. لقد أضعت الطريق السوي، ولست أدري كيف وصلت إلى هنا. لقد كنت مثقلا بالسهاد، حين فجأة تهت وضللت طريقي...". وهكذا فسرت هذه الكوميديا من موقعها الخارجي، باعتبارها قصة رمزية تمثيلية لاعتناق "دانتي" للمسيحية من جديد، خروجا من حالة الخطيئة الأولى، عبر التضرع وطلب المغفرة، لغاية الوصول إلى حالة الصفاء والتحرر، من الأدران البشرية لرؤية الثالوث المقدس.
وبالإمكان تلخيص هذه الرسالة السماوية بمجملها- متجاوزين لكل التفاصيل- فيما يلي: إن الوظيفة الأساسية للنص الشعري، الذي يؤسس مجمل بناء الكوميديا، بإمكاننا اختزالها في بضعة فقرات، فيما يتعلق بالمعنى الحرفي لها. فالشاعر "دانتي"، قد تواجد تائها في غابة قاتمة، وحاول عبثا أن يستدل على الطريق الصحيح. وفي حين حاول أن يتوجه صاعدا نحو تلة مشمسة، وجد نفسه أمام وحوش ضارية في وادي الظلال. حينئذ ظهر منقذ له في شخص الأديب الملحمي الإيطالي الشهير "ڤرجيل" صاحب ملحمة "الإنيادة". ولقد قاده كمرشد عبر طرق ملتوية نحو غايته. وقاده من جديد في زيارة للمحكوم عليهم بالعذاب الأبدي في الجحيم، وصعد به فيما بعد، إلى جبل المطهر لغاية الفردوس. وهنا انتهت مهمته كمرشد، ليظهر مرشد آخر في شخص "بياتريس"، هذه التي ستقوده من جديد، من سماء لأخرى لغاية جنة الخلد، ورؤية النور الإلهي.
حين نتناول الأفق المجازي، والمعنى التمثيلي لهذا النص، فإننا نذهب مع عدد من الدارسين المحققين، الذي رأوا في الوحوش الثلاثة التي ظهرت في بداية الكوميديا، الرموز التالية: الفهد الذي يمثل الثراء، الأسد الذي يمثل الغرور والذئب الذي يمثل البخل. وهذه المواصفات مجتمعة، ترمز إلى الرذائل الثلاث، التي تعتبر الأساس والجوهر لكل العاهات. وبالعودة لشخصية "ڤرجيل" فإننا نرى فيه رمزا يمثل في آن، العقل الإنساني والإمبراطورية الرومانية الوثنية الحكيمة. وفي شخصية "بياتريس" رمزا للّاهوت وللكنيسة المسيحية المبعوثة من جديد. وتعرض هذه الرسالة السماوية فيما تعرض له، لعدة شخصيات تاريخية، وزعتها حسب رؤية "دانتي" الدينية، إلى مجموعات وثنية، وثانية إلى مسيحية منبوذة، وثالثة دينية مسيحية مقبولة. وهذه الأخيرة، تعتبر تاج الخلاص، والحقيقة اللّاهوتية الكنائسية المطلقة. ولقد عرض "دانتي" في هذا السياق، لعدة شخصيات عربية إسلامية، حكم عليها جميعها، بالإقامة الدائمة في مراتب دوائر جحيمه. ولسوف نتناول هذا الجانب من "الكوميديا الإلهية"، في العرض اللاحق، حيث تتجه نيتنا إلى مقابلة هذا النص الدّانتي، بالنصوص التي غذته وساهمت في تكوينه، وربطه بالمراجع العربية الإسلامية، التي كانت من وراء إخراجه إلى الوجود الأدبي.