عمال يعدّون حقائبهم البسيطة
يعانقون الأحباب عند عتبة أكواخ التراب
ويركبون صامتين آخر قطار
عائدون للكدح في مصانع الأغنياء
عائدون للعمل من أجل الخبز
هذي المدينة فتحت أحضانها لتعساء الوطن
هذي المدينة باعت جلدها لتجار الليل
هذي المدينة أغرتني بكؤوس صيفية وامرأة
كنت بين العمال التعساء أتملى عزلة الأرض
وأتملى العيون الذابلة في وجوه شاحبة
وفي الأعماق أغنية جبلية حزينة
بينما في عراء القصيدة
راعي غنم يدوزن أوتار قيثارة الروح
كانت كل الخرائط تحترق في سواد ذهنه
قال : أنا فقير إلى أبد الوجود
أنا ولدت في بلاد لا كرامة فيها للفقراء
أنا ضائع في سراب حلم قديم
أغمض عينيه طويلا على رابية الغروب
كان ظلام البياض يتشكل أقفاصا وعصافيرا صامتة
وعندما فتح قلبه آخر النهار بكى
هذا الجرح الغائر الذي يتدفق الآن
أقوى من إرادة نشوة الحواس الهاربة
كان وحيدا أول الخريف في دهشته الأخيرة
وغنى لأنفاسه أغنية شعبية يعشقها
حفظها بين نهدي خطيبة العمر الجميلة
لكن الحبيبة عشقت ليالي الروايات الحمراء
عشقت سكرة الليل على مشارب الأمراء
وتاهت في الساعات الأخيرة لبياض العين
إنها لوعة العنفوان الأول للجسد الطري
كان يناديها طوال النهار
تعالي إلى محراب بيادر القمح وخرير سواقي المساء
تعالي إلى حنين ناي سكون المراعي الخضراء
تعالي إلى أحضاني الجائعة إلى لذة الأنوثة
لكنها كانت تحرن لحظة العناق
وتهرب إلى مملكة الشبق الليلية
هناك على رابية الغروب الأخير
تأمل راحة يده اليمنى المعروقة
وخاطبها بصوت جنائزي
أنا ضائع في أفكار النهار الخاسرة
أنا الآن أحصد أحزان أسرار لغة الجمال
آه ما أروع عزلة الروح في عطر النعناع
كانت الرياح تحرضني
أن أحفر ملجأ عميقا في الجبل
حتى أغني على هواي للعصافير المهاجرة
وفي أعماق القلب لعنة شعب الله المقهور
ولحظات شاعرية تتوحد في خرير دمي
كانت شهوة الحياة في ذروة إشراقاتها الصاخبة
والساعات تطفئ شمعة الأرق في قصائد لا غرام فيها
كل مساء كنت أنتظر سحابة ومطر ونباح
وفي الصباح أركع بخشوع لمحراث الحقول العذراء
آه من عذاب الذاكرة في غربة الجسد
آه من عشق يحترق أول خطوة في المدينة
أين أنت يا رفيقة الرعاة في الروابي المهجورة
أنت مواويل الظهيرة والحصادون في قيلولة صيفية
أنا عطشان إلى عطر عرق نهدك الأيسر
تعالي الآن إلى عزلتي التي تجرني إلى خلود غريب
تعالي قبل فوات الأوان يا راعية قلبي الحزين
وهل تناجيني في محراب غفوتك المعطر بالزعتر
أم تأخذك غمزات النهار إلى خيالات أغنية
لماذا تهربين من مناجاتي المهووسة بجنون الحب
آه يا راعية غنم في قفار قلبي والوطن
الدولة تطارد أفكاري الثورية
وأنت تغلقين أبواب أحاسيسك الملتهبة للذة
والزمان ينهش أيام روحي المسحورة بالجمال
لا.. لا تتركيني وحيدا في سراب ظلمة أفكاري
خذيني إلى ثناياك المطرزة بحرير خرير آخر المساء
ذاك العطر الفواح ما يزال يرسم لوعة هواي
والليل أغنية حب تتدفق من شفاه راعية غنم
قال لي رفيقي لماذا لا تغني عن البروليتاريا
تأملت أكواخ الطين المنتصبة في قريتي
تأملت أيادي المزارعين الخشنة
تأملت وجه أمي
سالت دمعة باردة على خدي الأيسر
رأيت الوطن يبكي
رأيت الوطن يناديني بصوت مبحوح
إليّ بروحك المجروحة بغبار أيلول
إليّ ما خبأته في سراب دفاتر الصمت
إليّ بدمك الجبلي
خرجت إلى الجسر الذي ألهمني هوية القصيدة
وأنشدت نشيد العمال في الرياح الشرقية
وقتئذ تاه شراع الشعر في النهر المترب الهائج
فأدركت أن الحياة رواية شفاه مالحة
هيا يا راعية دمي
غنّي لي هوسك المكتوب آيات روحانية
غنّي لي أسرار إشراقات لحظة صمتك
غنّي لي سحر عزلتك في بياض الليالي الممطرة
لمن أتركك
والوطن تجره أظافر الأمراء إلى انتحاره الكئيب
بعد قليل أتركك في مستنقع مدينة لا ضوء فيها
أنا مرهق من انتظار أول المطر
هل ستذكرني عاشقا لحليب قريتي الفقيرة
أم سأذوب أول عناق مجهول
وداعا يا راعية حواسي المشتقة من خراب الولادة
أنت الحب الذي يقودني الآن إلى الخلود
ومشى عاشق المراعي الخضراء الفواحة بالزعتر
إلى قلب جحيم خيوط الحديد الممدودة في جسد الخريطة
مشى لعناق بياضه الأخير المطرز بالدم
ما أقسى أن تسمع عظام إنسان تتكسر في قيلولة الدولة
إنها دراما إنسانية في عيون أطفال لم يولدوا بعد
هكذا يعدّ التاريخ ظلامه لأطفال الوطن
في المقاعد الأمامية للظهيرة امرأة تبتسم
وعند العتبة غرفة اللقاءات العابرة
طفل نائم أحضان عامل مرهق
أما أنا الحالم بالثورة الشعبية
أتألم وأتذكر تفاصيل ساعات سقسقة عصفور الوادي
أتذكر جلسة المساء في محراب هسهسة أغصان الدالية
بينما رجال قريتي يلعبون النرد على طاولة الدخان
وراعية الغنم تقلّم أظافرها بأسنانها على دكّة الغروب
كانت تنعي شهيد المراعي للقبائل المقهورة في أكواخ الجوع
كانت تؤثث مشاعرها بصورة عاشق مجنون رحل حزينا
كانت تبكي
كنت أبكي