يلاحظ المتابع للشأن العربي الإسرائيلي هيمنة الرؤية السياسوية، في تفسير ما يتصل بمبحث الفكر الديني اليهودي، مما خلّف مقاربة قاصرة ألحقت ضررا بالرؤية العربية. ومن هذا الباب نرى غيابا لدراسة الفكر الديني اليهودي بشكل موضوعي، القديم منه والحديث، إلا في ما ندر، واختزالا لإسرائيل في محددات سياسية لا غير. وبرغم إنشاء العديد مما يسمى بمراكز الأبحاث، في بلدان عربية عدة، تزعم أنها تولي الشأن الإسرائيلي واليهودي اهتماما، فإن هناك غيابا لافتا لإيلاء الجانب الديني العميق، الذي تستند إليه إسرائيل دراسة علمية. آن الأوان للعقل العربي أن يؤسّس "علم يهوديات"، أو كما سبق أن أطلقنا عليه اسم "الاستهواد العربي"، حتى يمسك بخيوط ظواهر متنوعة في غاية التشابك.
(المترجم)
أثارت التحوّلات الاجتماعية السياسية التي شهدها العالم اليهودي منذ القرن الثامن عشر تساؤلا جذريا عميقا: ضمن أية حدود يحضر، وبالمثل يغيب، التواصل العميق بين عهدي ما قبل الانعتاق وما بعد الانعتاق؟ سؤال مصيري، يحشر ضمن سياقه، المدلول العميق للمصير اليهودي المعاصر، وانخراطه ضمن مسار التاريخ. لأن التفسيرات المتعاضدة توفّر انسجاما متينا في ما بينها، فليس من النشاز معاينة مقاربتين متضاربتين، تتردد كلتاهما، وبصفة دائمة، على سوق الأفكار. إذ وفّر الجدل الذي حرّك عديد المجالس الفكرية اليهودية خلال الاحتفال بالذكرى المئوية الثانية للثورة الفرنسية، صورة حيوية عن الأمر.
فمن ناحية، أولئك الذين يقدّمون أنفسهم بكونهم "جمهوريين" وينوّهون بترقي اليهود إلى مرتبة المواطنة الفردية –وهو تقدير في غاية الإيجابية-، والتي ضمنت لهم الخروج من الغيتو، حيز الانغلاق، واكتساب الحريات الشخصية، التي منحت اليهود بشكل مّا، أشكال كرامتهم الإنسانية. فالثورة وفق هذا التمشي دشّنت حقبة جديدة، دفعت خلالها اليهود باتجاه الحداثة.
وعلى نقيض ذلك الطرح، نجد أولئك الذين صاغوا مقاربة نقدية لـ"إيديولوجية المئوية الثانية" من خلال تأكيدهم على الأبعاد الإشكالية للانعتاق؛ إذ يبرزون أن سياق العلمنة الذي رافق تطوّر الجمهورية، شهد امحاءً جزئياً للاّيهودية المسيحية لفائدة لاسامية عرقية أكثر خطورة، لتأسُّسِها على ادعاء بشأن الطبيعة البيولوجية لليهود، الثابتة والمتديّنة. ويعود هؤلاء بظهور الحداثة اليهودية، إلى التطورات التي هزّت المجتمع اليهودي في بداية العصر الوسيط. وضمن هذا المنظور الثوري، ليس الأمر مرده إلى ظهور فجئي، وإنما هو واقعة ينبغي فهمها انطلاقا من الماضي والتراث.
القطيعة أم التواصل؟ هذان العاملان هما في الحقيقة حاضران في يهودية ما بعد الثورة، ولكن الإشكالية بالأساس هي في التفكير بأمرهما معا، بصفتهما لحظتين لسياق جدلي موحّد.
الانعتاق والكتابة الثانية للمسيحانية
لقد حضر الانعتاق مرجعا أساسيا لليهودية تحت ضربين مختلفين خلال القرن التاسع عشر:
- انعتاق فردي في مجتمعات أوروبا الغربية، أين استطاع اليهود تحقيق الاندماج التدريجي بعد تجاوز عوائق الضوابط الشرعية.
- انعتاق جماعي، كما هو الأمر في الإمبراطورية القيصرية، عُدَّ بمثابة العلاج الوحيد لأوتوقراطية مستحكمة. فمنطق الانعتاق يحضّ اليهود على تبني أنماط تفكير مستحدثة. فما عاد اليهودي فردا من شعب مشتّت، مكوَّن من جماعات متناثرة (كِمِلّوت) ومصبوغة بتشريع ديني؛ ولكنه بات مواطنا من الدولة الفرنسية، أو الإيطالية، أو الألمانية، مؤمنا بالعقيدة الموسوية، أو كما هو الأمر في روسيا، مناضلا ثوريا في حزب اشتراكي بصدد التشكل، أو عضوا في أمة يهودية ساعية نحو تقرير مصيرها داخل الإمبراطورية، مثل البندية، أو الحكم الذاتي لسيمون دوبنوف، أو السجمية للحزب العمالي الاشتراكي اليهودي، أو كما هو الأمر في فلسطين مع الصهيونية.
وعلى مستوى تاريخي، مثل الانعتاق، دون شك، تغيراً جوهرياً في تشكل الهوية اليهودية. ولكن التراجع المتطور لشرائح واسعة من المجتمع اليهودي التقليدي، لا يعني البتة التفكك الكلّي لنسق القيم اليهودية. بل بالعكس، فمن البيّن ملاحظة، أنه في الآن الذي تمت فيه عملية الاندماج الاجتماعي والمثاقفة بشكل متطور، فإن القانون الأخلاقي اليهودي ما عرف أبدا الهجران، ولكن أُعيد استثماره وتكييفه وتشكيله. وقد تجلى ذلك بجلاء في مسألة أساسية مع موضوع المسيحانية. فالترجّي المسيحاني بطابعه المزدوج: البنائي، بالعودة إلى العصر الذهبي للأصول؛ واليوطوبي، بالإرساء لعالم مختلف وفاضل، قد وقع تبلوره في فترة الهيكل الأول، بين القرن العاشر والسادس قبل الميلاد، والذي أصبح شيئا فشيئا عقيدة ثابتة في اليهودية. وبقدر ما كانت الحياة المعيشية لليهود صعبة ومغتربة في المنفى، بقدر ما بات المستقبل محمَّلا بكافة الوعود الخارقة. فسياق الانعتاق لم يلغ ذلك الانتظار لمتوهّج للخلاص، بل قاد إلى تأويل مستجد، بالاستثناء طبعا، في الأوساط الأرثوذكسية السائرة نحو الاندحار، التي تسعى للحفاظ على نمط الحياة اليهودية، أي الطابع المعجز والرؤيوي للمسيحانية. بالإضافة، سيتضافر انخراط اليهود في مجتمعات أوروبا الغربية، مع انتشار ثان لديناميكية مسيحانية باتجاه البلدان التي حازوا فيها المواطنة.
إذا اعتبر الانعتاق بمثابة التحقّق للمثال المسيحاني مع مبدأ الأخوة الكوني، وبات نابوليون ولويس فيليب بمثابة قورش الذي حرّر اليهود من العبودية ومنحهم الحرية. وأصبحت فرنسا الأرض المقدّسة الجديدة، وصار إعلان حقوق الإنسان الوصايا العشر الحديثة. فهذا الخطاب المدعوم من قِبَل العديد من الحاخامات، الذين ماثلوا بحماس بين تاريخ فرنسا والتاريخ التوراتي، سمح بالحفاظ على ديمومة الدلالة المسيحانية، مع إعطائها توجّها محدثا وذا طابع إجرائي مباشر. ويُعتَبر موقف الحاخامات الإصلاحيين الألمان المجتمعين بفرانكفورت، سنة 1845م، نموذجيا في هذه الحركة، حتى أنهم عملوا على إلغاء أي توجه للانبعاث الوطني لليهود في فلسطين، وألحّوا على ضرورة إتاحة مكانة متقدّمة للفكرة المسيحانية في الصلوات، حيث اليهود مُلْقى على عاتقهم نشر رسالة التآخي بين البشر. وكذلك الأمر مع الولايات المتحدة خلال الحقبة المعاصرة، وكأنها تمثل، باستعادة مصطلحات إعلان بيتسبورغ 1885م، "التحقيق للرجاء المسيحاني الأكبر لإسرائيل، في إرساء الحقيقة، والعدالة، والسلم بين البشر". وفي الوقت نفسه الذي هجر فيه اليهود الإصلاحيون، الموالون لتكييف اليهودية مع نسق التطور الاجتماعي، فكرةَ التأسيس السياسي ليهوذا، تحت إمرة مسيا متحدر من بيت داود، فإنهم عملوا على صَهْينة أمريكا: حيث أصبح العالم الجديد التجسّد لأورشليم التوراتية، وبات الموقّعون على إعلان الاستقلال، بمثابة شخصيات نبوية مكرَّمة. إضافة إلى ذلك فقد وُظِّفت الصورة المسيحانية لدعم الاندماج الاجتماعي السياسي لليهود بالولايات المتحدة. ومما ساعد على تيسير هذا التحوّل للمسيحانية، التاريخ الروحي الخاص بالولايات المتحدة، فقد عاش الطُّهريون هجرَتَهم في القرن السابع عشر، بمثابة النزول بالأرض الموعودة، من أجل تشييد أورشليم الجديدة.
إذ شاع نمط آخر من التشكل المسيحاني، داخل أحضان الحركات الثورية، حيثما كان اليهود متواجدين بكثافة. وتتفسر تلك الواقعة بيُسر، من وجهة نظر سوسيولوجية، بصفة هؤلاء "المثقفين العائمين" المعايَنين من طرف كارل مانهايم، قد انحصروا بين عالم يهودي تقليدي، كانوا قد هجروه، ومجتمع مضيف لم يقدروا على اختراقه، على غرار حالة روسيا وكذلك حالة ألمانيا. فبطبيعتهم تلك، كانوا محمولين على انتقاد النظام الاجتماعي الذي ألقاهم على أطرافه. وقد تمت تلك الحركة النقدية عموما بالاعتماد على حجّية عقلية مستمدة من الماركسية. ولكن الانتقاد للمجتمع البرجوازي والتطلع لتغييره ببديل عادل، قد اندست فيه نفحة مسيحانية خفية وغير جلية. فقد أكّد العديد من الكتّاب على أن رغبة الماركسية في تأسيس عالم عادل ومتساو، مستبطَنَة بِبُعد مسيحاني مضمَر. ولاحظ كارل لويث، تلميذ هايدغر، أن البيان الشيوعي "هو وثيقة نبوية، وقرار ودعوى للعمل، وليس معاينة علمية صرفة مبنية على حجّة اختبارية للوقائع المحسوسة".
وذهب الفيلسوف الروسي نيكولا برداييف ذلك المذهب، مرتئيا في مذهب كارل ماركس "أن البروليتاريا هي إسرائيل الجديدة، شعب الله المختار، وهي المحررة والمشيدة للمملكة الأرضية المقبلة. فشيوعيته البروليتارية هي شكل معلْمَن للعهد الألفي اليهودي القديم". وإذا ما كان أغلب القادة الثوريين اليهود (تروتسكي وبرنستاين وأدلر...)، قد تخلصوا بعمق من التراث الديني، فإن ذلك لا يلغي أبدا ما أكده حدس برداييف وبالعكس، فقد كان لزاما أن يهجر هؤلاء الرجال اليهودية التقليدية، حتى يحوّلوا ترجّيهم الخلاصي المسبَغ على الاشتراكية، لأجل صياغة صورة مستجدة للمسيحانية. فاستبطان العامل المسيحاني جلي وعميق في مختلف الاشتراكيات الفوضوية للقرن العشرين، حتى أن ميكائيل لوفي يتحدث عن تجانس خفي ومتميز بين المسيحانية اليهودية واليوطوبيا الفوضوية، في أعمال الإنتلجنسيا اليهودية في وسط أوروبا. فهؤلاء المثقفون أكانوا موالين للدين، على شاكلة مارتن بوبر، أو ملاحدة، مثل أرنست بلوخ، فإنهم سويا تجمعهم رابطة رومانسية موحّدة في معاداة الرأسمالية، ويتقاسمون رغبة عارمة في تشييد مجتمع جديد، تتحقق بفضله مملكة الرب على الأرض.
وتجلت المسيحانية كشكل لا غنى عنه، لإضفاء الشرعية، سواء بالنسبة إلى دعم النظام الديمقراطي الليبرالي، في أوروبا الغربية وأمريكا، أو إلى التنديد بالطغيان السياسي، خصوصا في الإمبراطورية الروسية، أو أيضا كذلك إلى انتقاد النظام الرأسمالي. وليس من المتيسر لهذه المسيحانية أن تبقى دون أثر على الإيديولوجيا القومية، إيديولوجية الصهيونية، التي تشكلت خلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر.
من المسيحانية الواقعية إلى المسيحانية الناشطة
ينبغي لمتابعة المسألة المسيحانية لزاما، الصعود باتجاه البدايات الأولى للصهيونية في أواسط القرن التاسع عشر. ومما يلاحظ بدءا أن تشكل الصهيونية حصل في وثاق مع ظهور وعي تاريخي بالظاهرة اليهودية، وضع محلّ تساؤل الرؤية الثابتة ليهودية أزلية وقويمة. ففي ألمانيا في بداية القرن التاسع عشر، شهَد ميلاد علم اليهودية _Vissenschaft Judentums_، وبصورة جلية، على الوعي بتاريخية اليهود. فتلك الاستعادة الواعية للماضي اليهودي، والتي باتت موضوع معرفة وتأمّل، أتت ضمن إعادة الاكتشاف للبعد الذي يتّسم به الفكر الأوروبي خلال القرن الأخير. ذلك أن عهد التاريخ النقدي يتأسّس على أنقاض التراث الخرافي، الذي يُمَوقع توالي الأحداث في زمن ثابت، ويؤوّل إياها بصفتها تنوّعات مختلفة لوعي أسطوري بالحياة. ذلك الوعي بتوْرَخة المسائل سوف يخترق العالم اليهودي، بانسياب معطيات شرعية مستجدة لمعنى الفعل. وهو ما سيُعيد النشاط للمسيحانية، بعد أن عرفت ترصّنها عبر القرون، بالرغم مما لازمها من انجراح حتى فترة أخيرة، بفعل الضياع التام للاستقلال اليهودي، بعد خيبة سيمون باركوكبا 135م، والتي سنحت لبعض الأوساط الدينية عصرئذ أن تضفي عليها صبغة مسيحيانية. واحترز بعض الحاخامات أيضا، مما دفعهم إلى محاصرة مظاهر الهيجان المسيحاني غير المنضبط، والذي يوشك، في حالة الخيبة، أن يزعزع أوضاع اليهود في الشتات. وبمراجعة ذلك الركن الإيماني، عودة المسيا، يبدي فقهاء الشريعة حذرا كبيرا تجاه الحركات ذات الادعاء المسيحاني، التي ظهرت في التاريخ اليهودي عبر القرون. فملحمة سبتاي زيفي التي أثارت موجة حماس هائلة في العالم اليهودي (1665-1667م)، والتي انتهى صاحبها بالاهتداء إلى الإسلام، مخلفا عددا من حواريه في متاهة حقيقية، دعمت الإدانات الصادرة عن السلطات الحاخامية. وتحييد الطابع الحيوي والسياسي طبعا، للمسيحانية طبَعها بميزات ثلاث: منفعلة (حيث الخلاص يتم بصفة إعجازية)، وطوباوية (حيث ترسي عهدا جذريا مستجدا)، ورؤيوية (حيث تأتي على إثر اجتياح الكوارث الفاجعة). ولا يعني التحييد أبدا الإلغاء للمسيحانية، ولكن إعادة التوجيه لها ضمن توجّه شخصي وباطني. وأصبح الإنسان اليهودي –وتلك الدعوة الأساسية للحاسيدية التي ظهرت في جنوب أكرانيا خلال القرن 18- مدعوّا لتحقيق خلاصه الصوفي من خلال تطوير توحّده الصادق مع الله (ترقّي الدفكوت). فاليهودي ينبغي ألا يتدخّل مباشرة في التاريخ، على شاكلة الساباتية، بل ينبغي أن يتمركز على خلاص روحه.
وسوف يتِمّ انكشاف تاريخية اليهود ذلك "النظام المسيحاني السكوني"، المتواجد في بعض الأوساط الأرثوذكسية المهمّشة، ولكنها ذات قيمة رمزية. فالأشخاص –الحاخامات منهم بالخصوص-، الذين بدأوا في سنوات 1850-1860م ينادون بالعودة إلى صهيون، بدوا للوهلة الأولى بمثابة متنوِّرين طيبين، في حين كانت مساهمتهم الإيديولوجية مهمة، حتى وإن لم تتخذ تجديداتهم معنى سوى في العقود الثلاثة اللاحقة، عندما بدت الحركة الصهيونية في الظهور وبداخلها جناح ديني. ومن اللازم ملاحظة أمرين مع الرواد الأوائل للصهيونية، حيث الوجوه البارزة كان من بينها الحاخام السفاردي يهوذا القلعي (1798-1878م)، وابن ملته الأشكنازي زيفي هريش كاليشار (1795-1874م).
فمن ناحية، يبدون الحجة على حساسية جلية تجاه التحوّلات التاريخية، مثل الصعود الاجتماعي لأعيان يهود، بدءا بعائلة روتشيلد، في البلدان الغربية، وبدايات الحضور الأوروبي بفلسطين وانتعاشة الفلاحة اليهودية، والغليان القومي للشعوب البلقانية في بولونيا والمجر وما خلفته أحداثها من تحولات راديكالية. وتلك المعاينة التي رُصِدت كذلك مع معاصرين لهم، سوف يعطيها الرواد الصهاينة وبشكل آخر ترجمة دينية. فبالنسبة إلى هؤلاء القوم الناشئين في أحضان التراث الأرثوذكسي، تُشكِّل تلك التحولات بالضرورة جزءا من مخطط العناية الإلهية للتغيير، وفي العمق، لحالة التشتت اليهودي: هي آيات إلهية كاشفة لقرب ساعة الخلاص. فأي تأويل هو بالأساس مستجد، بصفة حلول الزمن المسيحاني ليس مدركا كهجمة كارثية وفجئية، ولكن كمسار تطوّري سوف تعقبه مرحلتان: الأولى طبيعية، أي يكون للإنسان اليهودي دور فاعل، يلعبه على مسرح التاريخ. الثانية إعجازية، أين يتدخل الله بكل مجده لتجميع شتات إسرائيل، قصد إعادة بناء هيكل أورشليم ومملكة داود وإقامة السنهدرين. وبالتمييز بين لحظتين في مسار الخلاص، يضفي كوكبة الحاخامات شرعية على العودة المخطَّطة إلى فلسطين، من طرف شلة من الشعب اليهودي من خلال مباركة النشاط المسيحاني.
يبدو هذا العمل لإعادة تشكيل المسيحانية ضروريا لشرعنة مساهمة الحاخامات داخل المنظمة الصهيونية المؤسسة مع هرتزل في 1897م؛ ضروريا بشكلين، بدءا لتأكيد شرعية المسار الصهيوني الديني في مواجهة إنتلجنسيا يهودية روسية، ممثلة في شخصيات مثل حاييم وايزمان، شديدة الانتقاد للنظام الإكليروسي، ولاحقا للتملص من التقليدية المتزمتة المدافَع عنها سويا، سواء من جانب الناطقين باسم الحاسيدية ذوي المقاربة الصوفية لليهودية، أو مع الممسكين بزمام الأكاديميات الدينية -يشيفوت-، الداعين لعقلانية تقوية، وحيث التميزات جلية بينهما في تطبيق اليهودية، ذات الصبغة العاطفية مع السلف والرصانة العقلانية مع الخلف. ويتّحد هذان التياران وبشكل آخر، في ولائهما المشترك لمسيحانية منفعلة، على رفض مطلق للصهيونية، معتبرة لديهم بمثابة الهرطقة. إذ ما يقوم به دعاتها من تنظيم لهجرة اليهود إلى أرض إسرائيل غاية تكوين مجتمع مستقل، يمثل لديهم خلاصا، يكون عملا معجزا لله وحده، باعتبار التجميع الصادق للمشتتين من شأنه وفعله. ولتجاوز تلك الإدانة الصريحة المهيمنة في الحركة الأرثوذكسية، سوف يستعمل الحاخامات الموالون للصهيونية مثل صامويل موهلافر ويعقوب رانز، اللذين أسسا سنة 1902 حزب مرزحاي (المركز الروحي)، حجية مزدوجة.
في مرحلة أولى، ولأجل إزاحة تخوفات السلطات الحاخامية العليا، بحث رانز وأتباعه لتدعيم تعاونهم مع اليهود العلمانيين، عبر رفض كل صبغة دينية عن الصهيونية، باعتبارها مجرد عملية إنقاذ، ساعية نحو تخليص اليهود من واقع القمع السياسي ومواساة حالة عوزهم المادية. وبصفة مغايرة، ولأن الصهيونية تفتقر كليا للجانب الروحي بصفتها بصورة إجمالية مادية وسياسية، فإن تعاون اليهود المتدينين معها كان باهتا، جراء تجردها من أي دلالة دينية، علاوة على أنها لم تضع محل تساؤل الرؤية التقليدية للخلاص.
يشكو هذا الخطاب الذرائعي من خطأ سياسي: كيف أن حاخامات على قناعة بالمقدرة الهائلة لله، بإمكانهم قبول حركة مثل الصهيونية، مدعوة لإعطاء توجه جديد لمصير "أمة إسرائيل المقدّسة"، وتكون مفتقرة للحس الديني؟ فإذا ما كان اليهود وبصفة جماعية قد أرسوا عهدا دائما مع الله، فإن أيا من أفعالهم، حتى الأوفر حقارة، ليس بالإمكان أن يكون في حلّ من القداسة.
فبالحري أن أحداثا أكبر أهمية من العودة الجسدية لليهود لأرض إسرائيل (إرتز إسرائيل)، كانتعاشة العمل الفلاحي، وانبعاث حياة اجتماعية وثقافية، واليقظة السياسية للأمة، بصفتها وقائع تكشف عن عمق ولاء اليهود لصهيون، لا يمكن أن تتم دون تدخل العناية الإلهية. ومن المنطقي جدا أن يتمّ السعي لدمج الصهيونية ضمن سياق المسيحانية اليهودية، وذلك ما فعله رانز بنفسه، في مرحلة ثانية من حجيته، من خلال استعادة التفسير الثنائي لكاليشار والقلعي، حول التناوب بين ضربين: طبيعي وإعجازي للخلاص.
لقد كان المخرَج لاهوتيا، إذ لم تلاق المؤسسة الصهيونية مأزقا أخطر من طرح التساؤلات. لماذا تتدعم الجماعة اليهودية بفلسطين يوما بعد يوم تحت قيادة صهاينة اشتراكيين ذوي توجهات لا أدرية، في حين يعرف اليهود الأرثوذكس انكفاءً على أنفسهم؟ كيف بالإمكان الإضفاء على الصهيونية طابعا دينيا وهي مسوقة من طرف "كَفَرَة"؟ لقد صاغ الحاخام الأكبر الأشكنازي بفلسطين، أبراهام إسحاق هاكوهين كوك (1865-1935م)، مخرَجاً لذلك المأزق، من خلال تقديم إجابة ثورية، ودون الولوج في تفاصيل فكر ثوري ومشكل، نقول باختصار، إن موقفه ارتكز بالأساس على مستندات مستمدَّة من التراث القبّالي، والتي بحسبها أن كل مظاهر الخلق شاهدة بالحضور الإلهي، حتى تلك التي تبدو متخلّصة من أي تعال في ظاهرها. فالصهيونية كذلك تتضمن هي أيضا "ملامح تلك القداسة"، والرواد الاشتراكيون الذين قدموا إلى فلسطين لخدمة الأرض قد شاركوا دون وعي منهم في مشروع يرعاه الله"، وفي مخطط، عبر ربط الصلة بين الشعب اليهودي وإرتز إسرائيل، سيفضي إلى احتكام كل اليهود إلى تعاليم الشريعة. لأن أرض إسرائيل مقدّسة، ولأن المكان موطئ نزول وحي الرب (هتجالوت هاشخينا)، فالعودة الجسدية لليهود ستمهّد إلى العودة الروحية (تِشوفا)، والتي تعني قناعة اليهود بأن طبيعتهم الحقة لا يمكن أن تكون إلا دينية. فالصهيونية المنتهكة للحرمات في الظاهر، قد وفّرت في الواقع صورة حية لخلاص مسيحاني سائر نحو التحقّق.
وعلى وقْع تحقيق هذا الخلاص، اقتنع خلفاء راف كوك على رأس الحاخامية العليا، أثناء إنشاء دولة إسرائيل 1948م، أن عبر تلك الدولة، بعد كارثة الإبادة الجماعية، وتحت تهديدات المحْق من طرف البلدان العربية، أن حضورا لله في التاريخ، بات جليا أمام أعينهم، وأن تكشّفا لـ"فجر الخلاص" (أنسلتادي جيولا) ترافقه "بداية تبرعم للخلاص" (رشيت سميحات جيولاتنو)، وهو ما يمثل الشرارة الحقيقية للسياق المسيحاني.
لقد اقتاد ذلك المعتقد قسراً، الذي يجد ترجمته في عديد الأدعية والصلوات المرفوعة رجاء في حماية دولة إسرائيل وقادتها، الصهيونيةَ الدينيةَ، إلى البحث عن الدلالات المؤكّدة لنشوء تطورات متعلقة بالمسيحانية. أتت تلك العلامات خلال حزيران 1967، بعد أن عاش الشعب الإسرائيلي شهر أيار في حالة رعب هائلة، على وقع النداءات العربية بالثأر: "اليهود إلى البحر!"، وترافقها بتصاعد أعمال التحرّش العدائية (إغلاق مضيق تيران على البحر الأحمر). فقد تجلى النصر الساحق لإسرائيل في أعين الكثير، ليس فقط خلاصا، ولكن بمثابة معجزة. فهذا الصراع الذي سمح لإسرائيل بحيازة مدينة القدس القديمة ويهوذا والسامرة (الضفة الغربية)، أين تتواجد أماكن ذات قدسية عالية في الذاكرة اليهودية، مثل الحائط الغربي للهيكل ومدافن البطاركة بحبرون. صور تلك الواقعة خارقة، إذ تجلى الرب مجددا، مانحا شعبه ميراثه الأرضي (نهالا)، وقائدا إياه باتجاه درب الخلاص. لقد أوّلت حيازة مجمل إرتز إسرائيل، من طرف أتباع غوش إيمونيم (كتلة الإيمان التي تأسست عام 1974م)، الذين سيكتسحون شيئا فشيئا جزءا مهما من الجهاز الإيديولوجي السياسي للصهيونية الدينية (حزب، صحافة...)، بأنها تقدّم نحو "منتهى الزمن"، أي الانزياح باتجاه الطوباوية المسيحانية.
تفسر هذه المسيحانية الأرضية بجلاء الهيجان الاستيطاني لغوش، حيث يعتبر تكثف المستوطنات، علامة بارزة، تقرّب اليهود ومعهم كافة البشرية من خلاصهم النهائي.
وبصفة غير جليّة وبتوالي العقود، أصبحت المسيحانية الواقعية لرواد الصهيونية، الذين رتبوا الميدان لتدخل الإنسان اليهودي اليقظ في تاريخه، مسيحانيةً ناشطة شيئا فشيئا، أي النقيض للمسيحانية المنفعلة والمتحفّظة، التي هيمنت على اليهودية التقليدية. هذه العودة مرتبطة ضمنيا بتحقيق الصهيونية من خلال إجراء البعث الأرضي الثاني (الجزئي) لليهود، على قاعدة دولتية، والتي ستعزّز الانتماء الفعلي لأرض إسرائيل. وجراء ذلك تدعم الوجه السياسي للمسيحانية اليهودية الحاضرة أثناء القرنين الأول والثاني ق.م، وحسنت صورتها من طرف الحاخامات المنشغلين بـ"صناعة" يهودية أثرى روحيا، وأكثر تكيّفا مع الوضع المستجد للشتات. تدعّم "أكثر يسرا مما شهدته الصهيونية، حيث كل التوجهات ما كانت لتخلو من حساسيات مسيحانية".
الصهيونية: هل كانت مسيحانية سياسية؟
يتعلّق الجدل المثار في مستهلّ هذا المقال, بشأن التواصل أو القطيعة المحدثة مع يهود ما بعد الثورة, بالصهيونية أساساً. حيث يُعرض صنفان من التفاسير المتناقضة: الأول ذلك العائد لأولئك الذين جعلوا من الصهيونية حركة متماهية مع اليهودية, ومجرّد تحوّل للترقّب الحنيني لصهيون. والثاني ما يعود لأولئك الذين يذهبون، بصفة مغايرة، لإبراز أن الصهيونية كانت تحولاً في العالم اليهودي, وثورةً حقيقية في المصير. فالملاحظ أن أيّا من هذه المقاربات ما كان على خطأ, لتعبير كل منها على وجه من وجوه الحقيقة, فالتوجّه الأول, يبقى حائلا دونه ربط التواصل العقلي أو حتى الرمزي منه, بين الصهيونية وأمل الأجداد في تجميع المشتّتين.
أما على مستوى تاريخي, فقد كانت الصهيونية -مُدْرَكَة في شكل تبلورها تحت قيادة تيودور هرتزل- تجدٌّدا سياسياً ذا فرادة لا غبار عليها. فباقتراج هرتزل تمكين اليهود من دولة، والتأسيس لهذا الهدف جهازا سياسيا (المنظمة الصهيونية ومختلف هياكلها), فإنه قد أدخل بعمله ذلك اليهودَ الحداثة السياسية، حداثة ذات أوجه ثلاثة: أولا، عبر إحداث تحليل عقلي ورصين لـ"مسألة اليهودية"، يتم في ضوئه إعادة التوطين للشعب اليهودي داخل فضاء قومي، ولاحقا من خلال إرساء السياسي (اليهودي) ضمن دائرة مستقلة ومنفصلة عن المؤسسة الدينية، والذي جعل "أصحاب الفعل السياسي" في تميز عن النخبتين الدينية (الحاخامات) والاجتماعية (الأعيان). وفي مرحلة أخيرة التنظيم السياسي للأمة في شكل دولة، أي مؤسسة هيمنة، ذات طابع عقلي، تنتظم حولها الولاءات السياسية.
فهل تلك الحداثة السياسية، وثيقة الصلة بمعطى العقلانية وباستقلالية السياسي وبتوطيد أركان الدولة، تستوجب انقطاعا تاما عن التراث؟ تبدو الإجابة بالنفي. ذلك أنه في سنوات 1905م رفضت الأغلبية الساحقة للحركة الصهيونية المقترح البريطاني بخلق مستوطنة يهودية في إفريقيا الشرقية (أوغندا). هذا الرفض برغم الظرفية الحرجة، حيث الفترة تخللتها عديد المذابح في روسيا، يثبت دون تحفظ أن بناء الدولة اليهودية لا يمكن أن يتم على حساب التضحية بالوفاء لصهيون. بشكل آخر، لا يمكن أن تكون القطيعة مع المرجعيات التراثية السابقة شاملةً، لأنها توشك أن تلغي معنى المؤسسة الصهيونية برمّتها.
وبخلق هوية قومية جماعية، تيسّر للصهيونية أن تتجذر كغيرها من قوميات القرن 19 في رأسمال رمزي موروث عن الماضي. فتلك العناصر المشكّلة للهوية يعاد تأويلها وصياغتها واستثمارها، ولكن ذلك الفعل لا يشهد أبدا عن رغبة في إحداث تواصل. فالعودة الثلاثية التي تعِدُ بها الصهيونية ينبغي إدراكها ضمن هذا السياق، فالمثاب إلى أرض فلسطين يشهد بوجود رابطة جوهرية، ذات طابع وجداني وعاطفي بين الشعب اليهودي والأرض المقدسة، رابطة حتى صهيوني ماركسي، مثل بربروكوف، لم يتيسر له نكرانها، حتى وإن أخفاها وراء تعلل مادي منتَحَل. بالإضافة فإن حضور المرجعية التوراتية الثابت في أدبيات الصهيونية اليسارية، قد حافظ على حيوية المرجع الديني الأساسي، حتى وإن اعتُبر النص نتاجا ثقافيا للعبقرية اليهودية، وليس علامة لتعهّد اليهود تجاه إلههم. وفي مرحلة أخيرة، فإن إحياء العبرية مجدّدا إلى لغة محكية، متكيفة مع الاستعمال اليومي، يعتبر مثيرا لنوع من التدنيس لا ريب فيه، فإن غيرها محفوظة وذات طابع قدسي، بالرغم من كل العوادي بفعل التحامها بالعبرية الطقسية. كما عاين ذلك بدقة أندري نيهير، في تواجد "نوع من التجانس الاصطلاحي بين الكلمات ذات الاستعمال القداسي والمفاهيم المقدسة".
وحتى وإن تمت دوْلَنة الفضاء وتوْرخة التوراة وعلْمنة الغة، فإن الصهيونية ما ألغت ثوابت الهوية اليهودية، بل ما حصل هو استثمار تلك المقوّمات بطريقة مغايرة، بإعطائها مضامين قومية، والتوجه بالموضوع المسيحاني بطريقة لبقة باتجاه الصهيونية. لنُولِ اهتماما مثلا لهرتزل، لقد كان ليبراليا متحمسا، وحريصا في دولته المستقبلية على استنساخ النموذج الليبرالي البطريركي للإمبراطورية النمساوية المجرية، الذي يقدر الحريات الفردية ويجعل من سلطة الدولة إطارا لانصهار التعددية الشعبية.
وحتى وإن بلغ إلى حل المسألة الصهيونية عبر تصور عقلاني، فإن نجاحه لدى التكتلات اليهودية عائد وبصفة أعم إلى أمر مغاير: إلى شخصيته الكاريزمية التي اقتادت العديد من يهود أوروبا الشرقية إلى أن يروا في شخصه المسيا. ففي صوفيا خلال 1896م، وقع تكريمه بحفاوة كبيرة، بصفته "القائد وقلب إسرائيل النابض". سبع سنوات بعد ذلك، في فيينا، يتراص الأنصار لاستقبال "الملك هرتزل". بالإضافة فإن لقاءاته مع قادة العالم عصرئذ: القيصر، ملك إيطاليا، السلطان العثماني، البابا... ضاعفت من دعْم هيبته، ورسّخت قناعة لدى التكتلات اليهودية بحيازته خاصيات مسيحانية. فقد بدا النجاح الشعبي للحركة الصهيونية مستقلاّ عن فاعليته الإيديولوجية، النابعة من إعادة تشكيل الهوية اليهودية ضمن شروط قومية. ذلك أن النجاح التاريخي للصهيونية متأت بالأساس من تلاق بين الترقب المسيحاني الشائع، والتوفّر لحلّ سياسي واقعي، حيث تجلّى المزج بين اليوطوبيا والفعل مع تلك الحالة أمرا إجرائيا.
لقد كانت خميرة أساسية، وراء ظهور تلك الظاهرة الاجتماعية الفريدة التي هي الكيبوتز. فقد بدأ ظهور تلك الجماعة التعاضدية منذ سنوات 1910م تحت اسم كفوشا، وبعد أن عاينت الحركة العمالية في فلسطين، مدى تنافر الصيغة الماركسية مع وضعية بلد ينعدم فيه التناقض المعتاد بين البرجوازية والبروليتاريا. ستفسح الحتمية الاقتصادية المجال لمبادرة الجماعات المثالية، التي ستؤسّس في الحقل "المختبرات اليوطوبية" التي ستصوغ المجتمع الاشتراكي المستقبلي. فهذا التغير في الاستراتيجيا والذي سيصبح ضروريا في ظل شروط الحياة الاجتماعية في فلسطين، تيسر إتمامه بفعل الحساسية المسيحانية المختزَنَة في جيل موجة الهجرة اليهودية الثانية (عاليا 1904-1914م)، إذ يرفض هؤلاء الرواد تراثا، يُدرَك تحجّره، كما ينتهكون بوعي تعاليم توراة مغتربة. ولكن بخلاف ذلك، فإن التزامهم عميق وصادق تجاه أبناء ملّتهم، وعبرهم تجاه كافة الأمة العبرية السائرة في طريق التشكّل، وهو ما يذكر بوضوح بالحماس الديني (دفيكوت) للحاسيديم. ليست المعاينة مفاجئة بالمرة عندما ندرك أن عددا كبيرا من هؤلاء المهاجرين تأتوا من عائلات حاسيدية وأن الثلث منهم قد ارتاد الأكاديميات الدينية.
تتيح الواقعة السوسيولوجية التالية فهماً أفضل لكيفية الاستيطان بإرتز إسرائيل وخدمة الأرض، وكيف أن تلك لوقائع مثلت ظواهر خلاص عينية. إذ يرمز أ. د. جوردن (1856-1922م)، الزعيم الروحي لحركة هابوعيل هاتساير (الشاب العامل)، بصورة جلية، لذلك البعد ذي الدلالة الدينية الكثيفة للعودة للأرض بقوله: ليس حرث الأرض والزرع والجني، أعمالا فلاحية مبتذلة، ولكنها أفعال مقدسة تسمح لليهودي المجتث من أي تعايش أصيل مع الطبيعة بإرساء رابطة حميمة ولازمة مع كونٍ مفعمٍ بالحضور الإلهي. يصير العمل شكلا من الصلاة، نوعاً من الطقس الذي يحاور اليهودي بفضله إلهه، هذا الإله الحي والملتحم بالعالم. والتعامل مع المعنى المزدوج للفظة العبرية "أفودا" التي تعني "العمل"، وكذلك الخدمة الدينية، يرسم له جوردن تماثلا مباشرا بين خدمة الحقول وخدمة الرب. ففي الحالتين يشارك الإنسان في تجربة دينية جلية، يبحث بواسطتها عن تغيير، غايته الفوز بالكمال. ولكن اليوم بالعمل الفلاحي، يبلغ اليهودي القداسة ويحقق النموذج المسيحاني لإسرائيل. والملاحظ أن ذلك التقديس للعمل له وقعٌ في الأوساط الدينية، ففي سنة 1922م تأسّست في فلسطين حركة هابوعيل هامزراحي (العامل الشرقي)، والتي أضفت الشرعية، تحت شعار "توراة هافودا" (التوراة والعمل)، على القيم الريادية للصهيوية الاشتراكية، باعتبارها قيماً دينية أساسية مستمدّة من التعاليم الاجتماعية للتوراة. وفي 1937م، عند بعث أول كيبوتز ديني، لاحت بجلاء تلك الروح الريادية الأصيلة.
وجراء الأثر المهم للعمل، لم تتأسس الصهيونية الاشتراكية على الإلغاء المباشر والجلي للبعد المسيحاني، ولكن على إعادة التوجيه له. ولم يعد خلاص اليهود مدفوعاً باتجاه مستقبل أُخروي غير محدد، ولكنه يتم بصورة مباشرة، بصفة اليهودي، وبحسب تعبير رامبو، "قد حلّ بالأرض ومعه واجب لإتمامه، ولكن الواقع الآسن أمامه يخنقه".
وإذا ما كان البعث لسياسة يهودية يؤكّد تكيّف اليهودية مع شكل الدولة الأمة الحداثي، فإن ذلك ما عنى إلا نادرا، لدى رواد الصهيونية الأوائل، معياريةَ القدر اليهودي، وبالمثل تنميطا راديكاليا للخصوصية اليهودية. بمعنى أن المرور عبر السياسي ينبغي أن ييسِّر تحقيق النبوة المسيحانية مع غاياتها القصوى، وهي تحقيق الأخوّة الكونية. فعبر السياسي سيتِم لليهود إثبات وجودهم كشعب فاضل يتقدّم الشعوب الأخرى على الأرض. لقد كان ذلك يقينا ثابتا في جوهر المسار السياسي لرجل طبعت آثاره جليا زهاء نصف قرن تاريخ الصهيونية، ألا وهو ديفيد بن غوريون. فهذا الرجل ومن أول وهلة، يبدو ليس من اليسير تبريره من الحلم المسيحاني، أولم يسع وهو يصوغ إيديولوجية الـ"ممليكوت" (الدولنة)، لتأكيد الهيمنة المطلقة للدولة، المركز الناشط للنظام السياسي، والذي ينبغي أن يكون معا التعبير الأكثر تمثيلا للروح القومية اليهودية، أي التجسّد الواقعي لحركة التحرير القومية، الضامنة لوحدة الأمة؟ أو لم يكن طبعا حداثيا في رغبته لتمكين اليهود من منظّمة سياسية عقلانية (الدولة)، التي ستكون عامل انصهار قومي؟
بدون شك لقد كان بن غوريون واقعيا متجذّرا في عصره ومتمرّسا بخبرات العملية السياسية، بالإضافة فإن كلَفه بالتوراة كان في منتهى الكلف، وحتى وإن كان يرى فيها لمحة تاريخية أكثر من كونه نصّا موحى، فإنه قد تبنى وبصفة جادة المنطق العميق الذي يشغله.
بالإضافة، أولم يكن كذلك على قناعة كبيرة بأن التاريخ الفريد للشعب اليهودي المودَع في التوراة، سوف يتواصل مع خلق دولة إسرائيل؟ وأن اختيار إسرائيل، الذي لا يعني تفوقا على الأمم الأخرى، ولكنه وعي بمسؤولية رسالة ينبغي إتمامها، لم تلغ فاعليته الصهيونية التي وفرت له ترجمة جديدة مستحدثة، حيث تحول الاختيار من مدلوله الديني إلى مدلوله السياسي.
لقد كان بن غوريون مصرّا ليجعل من إسرائيل دولة فريدة يتحقق فيها النموذج النبوي للأخوة، حيث تكون "نور الأمم" (إشعياء42: 6)، دولة نموذجية تجلِي الطابع المميز للشعب اليهودي، ودولة فريدة تُتِمّ رسالة الخلاص اليهودية لكافة البشرية. فخلال سنة 1950م، عندما كانت أفواج المهاجرين تتدفّق على الدولة الناشئة، كشف بن غوريون في العديد من المناسبات عن قناعته بأن الشعب اليهودي بصدد الدخول في الزمن المسيحاني، فتجميع المنفيين، هذا الحدث ذو الصدى الواسع، أُوِّل بشكل أنه يمثل دخولا في حقبة مختلفة نوعيا. ذلك أن الأمر متعلق بمسيحانية متمحورة حول الإنسان، حيث الخلاص ليس من فعل المسيا ولكنه نتاج بشر أخذوا قدرهم بأيديهم، يبقى فيه النسق والضغط والنبض المسيحاني حيّا. فاليوطوبيا السياسية لبن غوريون، بالإضافة إلى تطلّعه إلى دولة نموذجية، وتحفزه إلى تحقيقها ضمن شروط ذاتية، بفعل العاليا والعمل الريادي، ارتكزت جميعها بالأساس على رؤية مسيحانية للخلاص وإيمان بخلود إسرائيل، وهي مفاهيم دينية بالأساس، حتى وإن كان الفعل السياسي لا يوليها أهمية إلا من زاوية جانبها العملي. ذلك التفريق أساسي لأنه يسمح بتمييز ما يجمع وما يفرّق الصهيونية الحديثة عن الحركات المسيحانية السابقة. وتكمن نقطة الالتقاء المهمة في عدم القناعة الجماعية بالحاضر، والتطلّع إلى رؤية مغايرة بشكل جذري ترنو إلى خلق حياة يهودية جماعية يهودية في فلسطين. ولكن هنالك يكمن الخلاف، ففي الوقت الذي تبقى فيه الحركات المسيحانية حتى المتحمّسة منها، كتلك العائدة لدافيد روبيني وشلومو مولكو وسبتاي زيفي (القرن 17)، رهينة رؤية دينية للعالم، فيها التاريخ هو نتاج فعل الله، فإن الصهيونية قد اختارت الانخراط في الواقع المعيش للعالم كما هو قبل شغله من الداخل. فالأمر يبدو ملحّا لموازنة مسيحانية الصهيونية. واعتبار الحتمية المسيحانية مع المؤرّخ جاكوب كاتز جراء الفعل يبدو مغاليا، حيث يقود ذلك إلى رؤية الصهيونية بصفتها تسلسلا لأحداث خاصة ومنتظمة ومتسقة وثابتة بفعل منطق جامد لا غير. بمعنى أن التاريخ ملغى جرّاء أن الحاضر غير قابل للتفسير، إلا عبر شبكة مسيحانية موروثة عن الماضي.
وبشكل صائب، ينبغي متابعة الصهيونية على شاكلة ما ذهبت إليه المؤرّخة آنيتا شابيرا باعتبارها مسيحانية سياسية، مفهوما يبين بجلاء طبيعتها المزدوجة، فالقصد هو مسيحاني، غرضه السعي لبلوغ نهضة قومية مرفوقة عموما، بتجديد اجتماعي يستبق عصر سلام لكافة البشرية، ولكن الطريقة سياسية، سبيلها وضْعَنة ذلك المثال وإخضاعه لفعل مخطّط من طرف أناس هنا في الواقع. فالصهيونية، كالانعتاق قبلها، هي ظاهرة، كَشَفَ جرشوم شولام طبيعتها الجدلية العميقة بجلاء، فمن ناحية تلتحم شرعية الصهيونية بالصيرورة التاريخية المتشكلة في فضاء العالم العلماني وليست مجرد تمظهر بسيط للمسيحانية السائرة نحو الفشل بفعل عدم اقتدارها على الإمساك بزمام الواقع. ومن ناحية أخرى هنالك طابعٌ خفي وبعدٌ صوفي ورمزي في الصهيونية، وهو ما يضفي عليها شحنة ذات دلالة ميتافيزيقية ودينية، بفضلها تمت المحافظة على الخصوصية اليهودية وتم تحاشي جعل اليهود أمة على غرار الأمم.
إذ هناك جدلية ذكية في استيعاب وحيازة الحافز المسيحاني، تعني بوضوح أن المستويات السياسية والرمزية ينبغي ألا تتمازج، بموجب تموقعها ضمن أنساق مختلفة: حيث يتجذر الأول في الواقع التاريخي، أما الثاني، فهو ينتمي إلى مجال التمثلات. فالطريق التي انتهجتها غوش إيمونيم مع نشدان تأسيس فعلها السياسي على تأويل ديني للواقع، ترتكز، دون شك، على مزج السياسي بالرمزي. إنه نوع من المزج -عُرفَت به حركة سبتاي زيفي خلال القرن الـ17، قبل أن تنتهي إلى فشل ذريع- يوشك أن يغذي سياسة صوفية، تهدد إلى حد مّا المشروع السياسي الصهيوني ويبطل مجددا وبقوة السياق اليوطوبي المسيحاني.
ولعل ظهور جماعة غوش إيمونيم يوحي بحدوث تقلّبات هزّت الصهيونية خلال العشرين سنة الأخيرة، جاءت جراء ثلاثة أحداث سياسية: الوعي المتنامي بالكارثة المطلقة المتمثلة في مذبحة يهود أوروبا، ومجافاة المجتمع الدولي لإسرائيل خلال سنوات 1970، وهو ما زاد من الإحساس بالعزلة الوجودية لشعب إسرائيل وخصوصية قدره الصعب. حيث وجد التطبيع السياسي الذي تعلقت به المنظمة الصهيونية في مستواه العملي هناك نهاياته. فالصهيونية وبعيدا عن تيسير الوجود اليهودي لم تقم كما لاحظ برويّة ر. آرون، سوى بتكثيف التناقض اليهودي: دورةٌ على غرار مثيلاتها في الظاهر، لقد أصبحت دولة إسرائيل لدى عديد اليهود الصيغة الأكثر فرادة لليهودية.