من المؤكد أن الحضارة تخلف تراثا، الذي يربط الماضي بالحاضر، وهذا الحاضر، إما أن يهدم ما وثقه السّلف، وإما يخالف أواصر المودة، وإما أن يشع فيه إشعاع الريادة بشكل جذري، له مبرراته وظروفه. والمقصود بالحضارة هنا، ليس النبش فيها، وإنما هي وسيلة لأضع أصبعي على جانب من مكوناتها، تساهم في صناعة الغد الأبيض والأسود.
وقد اخترت أن يكون الإبداع الأدبي أحد تحاليلنا الرمزية لهذا النص الذي سيشمل القصة القصيرة جدا، كمادة انسجمت أو لا تنسجم، ستدخل في تاريخ توثيق تراث حضارة أمة، وسيحسب عليها كابن شرعي، كما الحال بالشعر الحداثي، أو الحر.
حل ضيفا خجولا، ثم استوى على العرش، وضرب في العمق بقلب الدوائر العروضية، ووجد أنصاره ملبين بتوسيع آفاقه، تجنبا لأحكام العروض المانعة بتلاعب الشروط الخليلية، التي تتطلب النبوغ والفطرة والموهبة والثقافة والمعرفة.
كل هذه الشروط المُعَطّلة لعهد السرعة، وقفت حاجزا قبالة من يحملون الثقافة، والمعرفة، ويفتقدون للفطرة والموهبة، فأعلنوا عصيانهم للموروث، وأسسوا مؤسسة ضده .. لا للشروط الخليلية التقليدية العمودية. وهذه نقطة خلاف و جدال، حسم الدهر فيها بين الموروث والحداثة والحداثوية، وأخذت منحدرا على " مزاكها " ونقلة عبثية ناجحة. ليست بموضوعنا الآن، إعترضت سبيلنا كمثال تقترب جذوره بجذور القصة القصيرة جدا ليس إلا ... ولن أدخل في تشابك حول الجدل، في ما إذا كان أو لم يكن ما جلبناه من خارج دائرتنا، كشأن الشعر الحداثي " التجديد " ومنحناه سكنا و مقاما، وبطاقة العروبة، في حين صيدلية " ابن سينا " والرازي وغيرهما، رغم مرور قرون عديدة على اكتشافها للأمراض والعلاج، لم ترض عنها اليهود ولا النصارى بعروبتها، إلا ما تيسر من كنانيش و مذكرات، ومن هنا وهناك من المتعاطفين، استطاعوا تدمير ما يحاك عنها.
ومن هنا أضع إستفهاما ؟
ما المراد بمادة القصة القصيرة جدا ؟ هل هي ثورة فرضية تسعى لأن تقتحم زمرة الخالدين؟ بما فيها وعليها من خصوصيات؟ أم هو زمن الأكلات السريعة " كاسكروط " الذي فرض عليها لكي تكون أو لا تكون، وإن كانت نسخة مشوهة من أحد مبدعيها، لأن إستهلاك تقليد الآخرين تعودنا عليه، كما الموضة لتسريحة الشعر، والقنازيع، والمصيبة، أننا نتنكر بشدة، وننسبها لحضارتنا. وعلى إثر التنقير أو التنقيب، لا أرى ما في القصة القصيرة جدا من عيب، سوى أنها اعتمدت أن تتحمل أكثر من طاقتها من اللفظ المتكلف، للولوج الى المعنى، بأقل تكلفة، مما يوضح لنا، أن المسافة بين القصة القصيرة " والقصيرة جدا"، مسافة متباعدة في الوقت الذي توفره القصة القصيرة، من بناء إرهاف حسي لغوي، تعاني الأخرى من عدمية الحبك والرصف.
وفي الوقت الذي توفره القصة القصيرة من مكونات سردية، ونسج المبنى والمعنى الحافلان بالدلالات، تتوقف الأخرى على جملة أو ثلاثة عند التشفير اللغوي، ونقص في توليد النص، في طبيعته، أنتجته طاقة مركبة من هاجس حكائي معاق، نابع عن خواطر.
وبناء على إستيعاب قدرات القصة القصيرة جدا وغدها، يظهر لي أن قراءتها تعبوية .. لا أعني المضمون النصي، أو الجملة، لأن الخلاصة أو الإستيعاب قد تتلاءم مع عقلية المتلقي حسب ظروفه القراءتية و التأهيلية، التي تتعارض ومفهوم صاحب النص أو الجملة، وهي الأصح. بل أعني تعبوية في نسجها الغير المحكم بين الخيال والواقع، بين الوجدانيات والمتعة، لأن القصة القصيرة جدا، زمنها ضيق لا يحدث تأجيج انفعالات كما تستهويه الذات، وليست قادرة في ظرفيتها في سطور أو سطرين ان تؤنس العزلة او الوحدة، أو أن تشحن بين طياتها ما ينتظره المتلقي من ميكانزمات، تفرز له تشويقا، أو فكاهة، أو سخرية، أو شحنات عاطفية.
كل ما هناك، أن مادة القصة القصيرة جدا، كجنس يراد به جنس أدبي كغيره من الأجناس الأدبية، ورغم تخطيها الحدود الجغرافية، لا زالت فرص مستحدثة أمامها تسير بها نحو التحديات.
وبكل ما تقدم، أتصور أنه لا يمكن للقصة القصيرة جدا، رغم التحدي، أن ترقى بمحاذاة القصة القصيرة أو الرواية، لأن العدد واحد لا يمكنه أن يسقط ما هو أكبر منه عددا، وبتعبير أدق، لتفادي سوء الفهم، ما تقدمه القصة القصيرة من دراما وتشويق وأمكنة و أزمنة وتخييل وسخرية ، في نص واحد، لا يمكن أن يقدمه كتاب من ألف ورقة، في طياته ألف قصة قصيرة جدا بجميع مدركاتها.
صحيح كما يقولون : "يوجد في النهر ما لا يوجد في البحر". وكلمة أو ثلاثة تصنع قصة جد قصيرة وإن كانت لا تحمل مواصفات للجنس الأدبي، لكن يظل الخبر المروي فيها حسب تركيبها الفني، لا يستهوي المتلقي، ما دامت لا تكشف عن مكوناتها كاحتوائها الواقع والخيال، أو الإعتماد على أحدهما. ولا ضير للبحث عن تصنيفها، وقد حال بها الحال في مسارها بين خانات الحكايات لتجد محلها من الإعراب كما المثل والنوادر. وليس اعتباطا أن تملأ احشاءها بمقدمة و عقدة و حل، وإلا سنسافر بضعة أمتار ثم نعود لنبحث عن شيئ اسمه ... الْخَوا... !ء .