شهدت الساحة الأدبية في بالجزائر مؤخرا موجة إبداعية ـ في السرد على وجه الخصوص ـ تنزع إلى التفاعل بشكل أكثر حميمية مع "التاريخ"، والتاريخ الحديث والمعاصر على وجه التخصيص، وذلك بالتوازي مع الرواج الواضح الذي تلقاه الرواية التاريخية، مما ينبئ بتحوّل وشيك، يكاد يكون سريعا، في أنساق الإبداع بشكل عام، وهو ميل يتسع باستمرار مع الزمن، ومن المرَجح أن يتحول إلى ظاهرة أدبية يلزمها غير قليل من الاستعداد النقدي والجرأة في المعالجة.
فبعد الطاهر وطار وواسيني الأعرج وأمين الزاوي ظهرت موجة شبابية اقتفت خطاهم، من غير أدلجة للنصوص الإبداعية عرفناها عند من سبقهم، وتمثل الكاتبة والروائية الشابة ليلى بيران صورة واضحة على ذلك.
فبعد محاولتها الأولى في " ميسج إلى صديقي" ثم مجموعتها القصصية "معادلة الحياة" الصادرين عن دار الفارابي ببيروت، ها هي تفاجئنا بنص روائي جديد أكثر نضجا في شكله ومحتواه عن دار الفيروز بالقاهرة، حمل عنوان "رنيم" يحوي ستة فصول يربطها تسلسل زمكاني منطقي مع استعمال متقن لتقنية للفلاش بك.
وتخضع تركيبة البنية الروائية عند ليلى بيران كما هو واضح في "رنيم" لمقاربة تاريخية ومقارنات متماثلة في وضعيتين بين موقف وموقف ولقطة وشبيهتها مما خلق حالة متماسكة من الحبكة القصصية.
وحمل النص السردي "رنيم" سيرة ذاتية لأسرة مجاهدة أثناء الثورة التحريرية وفي السنوات الأولى للاستقلال، مستأنسا بمقاطع الشعرية أضفت رونقا خاصا، يعكس رغبة محَيَّنة في تجاوُز نُظُم تعبيرية نحو نُظم أخرى أكثر انسجاما مع طبيعة المبدع والمتلقي في آن.
ومما يمارسه المتلقي في باب المشاركة النشطة التي تتيحها رواية "رنيم" تخيُّلُ طبيعة الأهوال التي صادفت عائلة سي بلقاسم المجاهد ضد الاستعمار الفرنسي، وكيف واجهتها واكتوت بأوارها؟ وموقف سي بلقاسم منها؟ و والقصص المحيطة بالفواجع المتتالية للسكان..؟ وهي مُشاركة تؤكّد حضور البعد الدرامي المغموس بالتراجيديا الواقعية في الرواية.
إن المبدعة تبدو مدرِكة لما تحقق في السرد الروائي العالمي، ولذلك فإن إلى جانب المعطيات المتصلة بالمرحلة التي تتبعها الرواية وحداثة لغة السرد، تتحقق المتعة في "رنيم" فنيا من خلال تضاريس الزمن، فلقد اختارت ليلى بيران النبش في الماضي المعاصر، من خلال سيرة حقيقة لأسرة ـ والتي هي أسرتها الحقيقية فيما يبدو ـ عاشت الثورة التحريرية وسنوات الاستقلال الأولى بأفراحها وأتراحها، ويدل هذا النبش على الوعي بالامتداد النفسي الجمعي لهذا الماضي عند الكاتبة ليلى بيران.
وانسجاما مع طبيعة الخطاب السردي، فإن تتبع تجليات التاريخ في الرواية لم يركن إلى الجاهز والناجز، وإنما جعلها بنيةً موصولة ببنية الرواية كخطاب سردي، إذا كانت علاقة المبدع بأجواء الرواية بهذا العمق وبهذه الدقة، ألا نستطيع القول بأن أحداثها جرت وتجري في لاوعي المبدعة ليلى بيران؟ وأن هذا الانشداد إلى المنسيّ منا وفينا هو بعض من تجلِّه الخاص؟
كما هي رواية تؤرخ فنيا لحقبة من تاريخ الجزائر، فتنهل من مخزون الذاكرة، وتعبر بعمق عن دلالات التحولات السياسية والاجتماعية والأخلاقية والفكرية في الجزائر، بطريقة تختلف عن الرواية التاريخية التقليدية، وكان بالإمكان أن تكون الرواية أكثر تشويقا لو أضافت الكاتبة بعض توابل الخيال، لأن الالتزام الصرف بالحقيقة التاريخية وصيرورتها ليس مجاله الرواية والأدب، بل هو خاصية المؤرخين والباحثين، وكان يمكنها الاقتداء في ذلك بالروائي المبدع واسيني الأعرج في روايته عن الأمير عبد القادر.
واستنادا إلى ما سبق نجد أن العودة التي حققتها رواية "رنيم" إلى الماضي القريب هي إحدى تجليات الفطنة الإبداعية عند الكاتبة، حيث فسرت حوادث الحاضر كمنعكس شرطي لحوادث الماضي، وهو ما يسوغه عالم النفس يونغ في قوله:
"إن إصلاح الحاضر لا يكون إلا بالرجعة إلى الماضي".
ويبدو من الصعب تتبع تجليات انفلات الزمن داخل الرواية، وذلك بسبب تراكم الأحداث من جهة، وبسبب هذا الماضي الذي تتصل به من جهة ثانية. غير أن حدة الانفلات تبلغ ذروتها عندما تتبع السارد يوميات "بلقاسم وعائشة" على مدى الثورة التحريرية وما بعدها.
وإذا كانت هذه الفضاءات تشير إلى حركية النص وانتقال أحداثه من هذه النقطة إلى تلك، فإن القراءة المُمعنة للرواية تبين أن أغلب الأحداث وقعت في مناطق بريف منطقة موزاية وغابات تمزغيدة والضاية وشنوة، حيث نشط سي بلقاسم في كتائب الولاية التاريخية الرابعة، أو أماكن أقحمتها الراوية لتضفي حميمية بين القارئ والمكان عبر النص السردي وتربط الحاضر بالماضي.
إن "رنيم"، تتخذ مسارا رِحليا، وقد أكسبها هذا المسار ملمح تشويقي، تعزز باحتضان الرواية لخطابات أخرى منها ما هو مشوق في ذاته، ومنها ما يستمد تشويقه من خلال اندماجه مع العناصر الأخرى. فقد أَسلمت الكاتبة مشعل السرد غير ما مرّة للزوجة والأم لكي تحكيا للراوية قصة أبيها ومعانات الأسرة في المحتشد، وكي تؤنسها بالأحاجي، وبذلك تصير الرواية (الحدث الأساسي) حاضنة لأحداث قصة الأب ولأحاجي الجدة والأم ومآسي الأم....
وإذا كانت قصة الأب والأحاجي من طبيعة الرواية، باعتبارهما خطابين سرديين، فإن الرواية انفتحت على خطابات أخرى تستمد عجائبيتها من خلال اندماجها في الرواية ككل. ومن هذه الخطابات نجد النصوص الشعرية المبثوثة عبر مفاصل الرواية، كما نجد الأمثال الشعبية والحكم وخرافات العين والسحر...
اختيار ألسنة المسلك التاريخي راجع إلى طبيعة المرحلة التي تغطيها الأحداث أولا وإلى الاشتغال اللغوي على هذه الأحداث. كما أن التمايز الفني واللغوي لفصول الرواية ينبئ أنها تستمد خصوبتها وخصوصيتها من طول مدة الكتابة وإعادة الكتابة التي يعانيها كل مبدع جاد.
وتغنج "رنيم" وتتدلل بمعجم لغوي ثري يتآلف في أعطافه القديم والحديث، تستهدي به الراوية في تشكيل السرد الفني، وفي وصف البشر والمعالم والأحاسيس والمعاناة والروائح بدقة وإتقان، وتبرع في تصوير تفاصيل الحياة اليومية وأنشطة أفراد العائلة، ورفاق الجهاد، والأصدقاء...، ودقائق العادات والتقاليد بأسلوب خال من التعقيد يضع اللغة في خدمة النص والأفكار العامة التي ينطوي عليها. لغة صافية راقية دقيقة تنساب في نسق واثق، تنحدر أحيانا فتغرف من مفردات العوام ما تطعم به خطابها وتنتأ في أحيان أخرى لتقطف من التراث وروده وريحانه.