عن منشورات أمنية للإبداع الفني والتواصل الأدبي، وبدعم من نقابة الأدباء والباحثين المغاربة، صدر مؤخرا للكاتبة المغربية هند لبداك مجموعتها الإبداعية الثالثة " مدامع الورد"، من تقديم الناقد محمد أديب السلاوي، وقد جاء التقديم بعنوان : " الجوهر الإبداعي في مدامع الورد"
تطرح الأدبية الشابة، هند لبداك في"مدامع الورد" إشكاليات متعددة ومترابطة، من إشكالية النص دو النفس الصوفي/ الشاعري/ وطروحاته الروحية، إلى إشكالية الرؤى والخطاب في هذا النص المنفتح على كل الفضاءات الإبداعية، ومن إشكالية اللغة الحالمة، التي تغرق نفسها في النغم الرومانسي، دون الإنصياع إلى مفاتنه، إلى إشكالية البوح والحلم في الفضاءات الرومانسية، إلا أن أهم ما يطرحه هذا النص هو إشكالية قديمة حديثة، تتصل بالجوهر الإبداعي للكتابات الأدبية. ذلك الجوهر الذي ينطوي على قوانين: جماليات اللغة/ جماليات الاستفاضة/ وجماليات التركيب الحكائي. وهو ما حوله في كل إشكالياته الإبداعية، إلى مساحة جمالية، تمتد من تراث اللغة، إلى تراث المعرفة، ومن القوى الثابتة والنشطة لروح اللغة، إلى القوى الثابتة لروح أفعالها.ومن الحس الجمالي المتعدد الصفات، للإعلام و الأماكن والإشارات والرموز، إلى البعد الدلالي الذي أعطى/ يعطي"مدامع الورد" موقعها على الخريطة الإبداعية.
في نظرنا، هي إشكالية يمكن التعبير عنها باصطلاحات جمالية لا تسكن بالضرورة في قاموس الاصطلاحات المتعارف عليها، بل هي إشكالية قادتنا/ تقودنا إلى ابتكار مصطلحات أدق تعبيرا عن خصوصية هذا النص الذي يسكن داخل تراث الماضي، من خلال أدواته الحداثية.
تشعرنا مبدعة" مدامع الورد" من خلال تداخل الأزمنة/ تداخل الأمكنة/ تداخل الحالات الحسية في هذا النص، أنها تصر على بث انفعالاتها اللغوية من برزخ هو الأقرب إلى الحلم منه إلى اليقظة، لتجعل من نصها الإبداعي عملا استثنائيا، عملا متعددا ومتكاملا. لا يمكن تجزئته أو فصل بعضه عن بعض، يتمثل ترابطه وتماسكه في بوحه الذي يملك وعي ذاته في اللغة، في القص والحكي، وفي سرد معاني الأشياء والصفات و العلامات.
إن الحسين بن يوسف، والعاشقة الوهنة، والعرابة الزاهرة كرفاق النشوة، وفاتنة الغدير، وبثينة جميل والطاهرة والأنثى الراعية، كالسابحة فوق السحاب، وسلطانة الزجل،هي قصائد نثرية/انسيابية/مترابطة، ذات نفس صوفي، تحمل في عمقها اللغوي ذاتها الإبداعية، تمتد من فاتحة النص إلى خاتمته، على" مرقد آدام في الفردوس" أحيانا، وعلى غدير العشق، ومهجة الروح، وخمرة الروح، وشدى الألحان، ومواجع الحب المتوارى أحيانا أخرى.
بذلك تتحول" مدامع الورد" إلى سلسلة من الإبتهالات، من الأناشيد الصاخبة التي تحكي بلغة الروح لا بلغة الجسد، تاريخ البوح من أجل الانعتاق. إن "عرائس الفجر/ و خلخال المحبة/ وأميرة الزهور/ وأكاليل الورد/ وبكاء كأنه الزهر/ وتراتيل وتجاويد/. وغيرها من المقاطع الساكنة في مكامن المحبة/ الساكنة في أنفاس جبران ونعيمة ونعمة الله الحاج وإيليا أبو ماضي، ونسيب عريفة، ورشيد أيوب وغيرهم من اللذين تجمعهم بالكاتبة الشابة هند لبداك أواصر قرابة ومحبة، إنها لا تكتفي بتمجيد العشق الذي يربطها بكتاباتهم، بل تنخرط في ثناياه. إلى العمق.
إن "الراوية" في هذا النص، عندما تشرع في بوحها الشاعري، تتساقط من حولها الحواجز المنطقية التي تفصل بين الأسماء والأشياء، بين الأماكن والأزمنة، كما تنتهي عندها الروابط المعتادة بينها. وكذلك يفصل الخيال الجامح الذي لا يتخطى الحدود، إلا من أجل أن يبقى داخل الحدود. بيد أن ما يوقظ الوعي في هذا البوح، ما يبعده عن الحلم أو الخيال، هو وعي الراوية بذاتها، بخيالاتها التي سكنت في الواقع المحسوس.
من خلال تجليات، وتجاذبات، ومقاطع هذا النص تم تحويل البوح إلى حكي متعدد الصفات: الحكي النثري والشعري/ المقطوعة الموسيقية/ التشكيلات اللونية، وذلك من أجل ملامسة أحاسيس البصر والبصيرة. وهو ما جعل هذه الكتابة تبدو للوهلة الأولى،كما لو أنها تستند إلى أحلام يقظة، إلى منطقة خصبة من مخزون صاحبتها. فانطلاقا منها، يصبح الحلم بديلا عن الواقع الضيق. يصبح حقيقة جوهرية، وأداة وموضوعا لتفكيك العالم/ التاريخ/ وإعادة ترتيبهما وتجميعهما بخبرة فاعلة، بشكل مختلف أكثر موضوعية... وأكثر جمالا.
لذلك تجدنا في"مدامع الورد" أمام حالة تمرد قصوى على المعتاد والاعتيادي في القص والحكي والبوح. أمام كتابة مغايرة، تأخذ بعدها الشعري من خلال استمرارية وجودها، تأخذ موقعها الحلمي من خلال أبنية، محلقة، لا تختفي وراء المعطى التركيبي، بقدر ما تعلن عن ذاتها في العراء، كتابة تمنح البوح لون وأنوثة وعطر صاحبتها.
هذه الكتابة هي، شاهد يجمع بين البعد المعرفي والتجريبي، يلغي كل يقين سالب، ويلغي كل طاقة غير بريئة. هي إدانة للضبط والإقصاء والعزل. إنها تجاوز للوجود العيني والمشابهة،وهو ما يجعلها تسمح للذات المبدعة بإعادة تلاوينها المفقودة.
في واقع الأمر، إن ما تؤكده جماليات هذا النص الإبداعي، ليس فقط انفتاحه على الخبرات اللغوية، وقدرته على النفاذ، وتجاوزه حدود المفاهيم والإدراكات الاعتيادية للكتابات الأدبية، ولكن أكثر من ذلك، وأبعد منه، قدرته على التلاعب بالعناصر والصور والأفكار والألوان والأشكال والعلاقات المترابطة حوله.وهو ما يجعل "مدامع الورد" نصا خارج المعتاد الحكائي/ اللغوي/ نصا يسبح في رحلة صعبة بعيدة عن عالم المتاهة، مشعة بالمفاهيم و القيم، ليس من السهل التحكم في مسارها الإبداعي، أو حصرها في لون إبداعي معين.