تعود بنا الذاكرة أحيانا إلى ماضينا ، وتجول بنا بين أروقة الأحداث التي مرت بنا ، ولا تبالي بحزننا ونحن نسترجع اللحظات الأليمة ، كما لا تبالي بفرحنا ونحن نستعيد لحظات أخرى طريفة وسارة . الذاكرة خزان لما مضى ، يومها كانت لا تزال بعد غضة بيضاء وناصعة كالثلج ، يومها كنا بعد أطفالا ، ثم اصطبغت بألوان الحياة الوهاجة أو الداكنة أو المعتمة حين صارت حياتنا ملونة بعد أن كانت بالأسود والأبيض فقط . تحت تأثير هذا الفيض من الذكريات ..دفعني الحنين والشوق لزيارة بيتنا القديم في الجبل.. الملجأ الذي وفر لأجدادي الحماية والأمن..وضمن لنسلهم وذريتهم التكاثر والاستمرار .البيت الذي رأيت فيه النور لأول مرة..قبل أن أغادره وألتحق بالمدينة كباقي أقراني لأواصل مشوار تعليمي هناك .. حيث اضطر أهلي للالتحاق بي..وأقمنا سنين طويلة... وما نسيته .. بمجرد ان وطئت قدمي عتبته..أحسست بالرهبة والقشعريرة تسريان بين جوانحي ..قاومتهما ودفعت الباب الخشبي الخارجي ..واندفعت وراءه الى الداخل .. أخذت عيناي تمساحان أطرافه شبرا شبرا.. كل زواياه وممراته تذكرني بخربشاتي الأولى ..وشقاوة طفولتي الجميلة..وحكايات جدتي..والركن الذي كان جدي يبسط فيه سجاده ليصلي والمسمار الذي كان يعلق عليه مسبحته لا يزال مثبتا في الحائط..كل شبر فيه ينطق بما هو جبلي أصيل ما أعظمه قلت في نفسي.. من سواه يحتفظ بأسرار من أذابوا عمرهم أمام مرآه ومسمعه؟ من غيره يظل كاتما أسرارهم في طيات صدره حتى يسقط ؟من أجبره على كبتها؟ من أجهض قدرته على البوح؟.. ألأن الصمت والكتمان من طبيعته ؟ ساكت وصامت ..لماذا لا أشبهه؟.. تسلل الصمت دون استئذان غرقت في ضباب أفكاري.. عندما انقشع أحسست بالوشيجة التي تربط بيني وبين أمين أسرار أسلافي، و والداي اللذان عاشا بين زواياه وممراته، قد تقوت وصرنا روحا واحدة. إنه بيتنا العتيق، الروح النابضة بالحياة، خزانة الحكايات، وأرشيف الذكريات. إنه الدفء والسكينة على مر الأزمان . لن أتخلى عنه ولن أتركه فهاهنا مرتع صباي ...هاهنا ذاكرتي وذكرياتي ...هاهنا أنا ...أنا الأصيل والحقيقي.