كانت ليلة باردة الجو و العواطف، اختلط فيها الطبيعي بما هو غير طبيعي و كادت أن تتحول إلى تراجيديا لولا انسحاب جميلة من الغرفة و النقاش و هروبها إلى الخارج مستنجدة بآلاف الوجوه العابرة للطريق، تحت رحمة جو غير لطيف يلسع الأبدان و الأرواح.
ارتبطت جميلة بالرجل الذي أحبته رغم أنف القبيلة و فتحت له مغاليق قلبها و ارتمت في حضنه بدون صمام أمان معتقدة بأنه الأمان نفسه. يوم تزوجته ظنت أنها امتلكت السماء و الأرض، و أنها ستعيش حياة أخرى لأنه كان دائما يحدثها عن تلك الحياة الآتية، الغير الشبيهة بالحالية. قال لها يوما بكل افتخار وعزة نفس:
- ستنعمين معي بالعز و الرفاهية..ضحكت و قالت:
- رفاهية الجيب أم رفاهية الفكر..
- أنا أحبك ..أحبك.. .قالت له:
- حبك يعيش بين ضلوعي و يملك علي إحساسي.
ارتمت جميلة بين أحضان الشوارع و الأزقة، لا تلوي على شيء. روحها جريحة و مقلتا عينيها لا حياة بهما كمن دفن خطأ و أخرج من القبر وأعيد إلى الحياة بملامح أموات. مشت طويلا دون هدف حتى تعبت قدماها و آلمها حذائها و هاجمها صراع فضيع في رأسها نتيجة فراغ بطنها. كانت قد هيأت تلك الليلة عشاء رومانسيا. بعيدا كل البعد عن الحكايات اليومية و المملة التي تعرقل سير قافلة الحياة وتستحيل مسمارا يدق بقوة في نعش علاقة هربت يوما ما من الطاغوت و وجدت نفسها ترتمي بين أحضانه دون أن تدري. تكلمت كثيرا و نطق بعض الحروف ثم تابع أكله. لم تفهم سلوكه الذي تحول في عينيها إلى عدوانية. طلبت منه في لحظة، الهروب من الواقع و العيش بين أحضان أحاسيس انتظرت طويلا ونامت ثم ترسبت و تحولت إلى صخور. قال لها:
- أنت حالمة بشكل غير طبيعي. قالت له:
- كنت تحلم معي. ماذا حصل؟
- كانت أحلام يقظة و راحت مع الريح.
- كنت تؤمن بها ..
- كنت تظنين ذلك.
- يعني كنت تسطو على أحلامي و تتبناها فقط و أنت لا أحلام لك؟.
- كنت أحلم بطريقتي..
- يوم التقيت بك وخلفت ورائي ذكرياتي من أجلك لم تكن تحدثني بهذه الطريقة.
- لا أحب أن أغير أسلوبي في التفكير.
- أنا أطلب منك فقط أن تهيم معي في البراري بعيدا عن القيد و الحساب ولو للحظات.
- لا استطيع التنكر لأحلامي.
- لا أريد ذلك.
و علا الصوت و اختنقت الحناجر و ضربت الأبواب...ففرت تحمل انكساراتها ودموعها بين يديها و بين ضلوعها. جلست إلى إحدى الكراسي المرمية بين أشجار منسية. بدا لها المكان للوهلة الأولى كأنه مهجور و به وحشة تزعزع الفؤاد و توسوس الأفكار، لكن تدمر رجليها من المشي الطويل وتمزق حذائها، أرغماها على الجلوس طلبا للراحة و الهدوء. طال جلوسها. لم تهتم لا للوقت و لا لحلول الظلام الكثيف الذي استوطن المكان و جعله يعيش لحظة مرعبة لا يقوى عليها إلا أصحاب القلوب الشجاعة. لم تستيقظ من همومها الكثيرة إلا على صوت شرطي يسألها بعنف:
- ماذا تفعلين هنا في هذا الوقت المتأخر من الليل؟ ارتبكت و ضاع منها صوتها. كأنها تعيش كابوسا و تتمنى في أي لحظة أن تستيقظ منه. نهرها من جديد و قال:
- بطاقتك؟
- بطاقتي؟ قالتها و لسانها لا يسعفها كأن يد خفية تخنقها و تمنعها من الكلام. تذكرت ساعتها أنها لا تحمل معها حقيبتها. مسحت دموعها كطفلة خائفة و حاولت أن تشرح له بأنها سيدة محترمة وهي هنا من أجل...لا تدري لماذا هي هنا..و كيف حطت الرحال بهذا المكان الغريب والموحش. احتمت بالصمت و اكتوت بنار السلوك العنيف للشرطي الذي رماها كما ترمى الكلاب داخل سيارة الشرطة التي كانت تقوم بدوريتها الليلية.
ليس لديها وثائق تثبت هويتها..تحمل الهاتف النقال...فكرت أن تطلب زوجها..ماذا ستقول له؟ هل سيصدقها؟ تراجعت عن الفكرة صابرة على مصابها الجلل ربما يحن إلى الليالي الخوالي ويتصل يسأل عنها إن لم تعد إلى البيت. ولجت إلى قسم الشرطة وكل مفاصلها ترتعش. أول مرة تلج مكانا باردا كقسم البوليس و هي التي كانت تحلم أن تقضي ليلة بين أحضان من أحبته في غفلة من السيد والعشيرة. حاولت من جديد أن تشرح ما لا يمكن أن يشرح. لديها بصيص أمل يهمس لها بالخروج من هذا المأزق. اقتربت من الضابط المسؤول و حاولت أن تتودد إليه و..لكنه نهرها وأمرها بأن تلتزم مكانها و قال بصوت خشن "مشكلة كبيرة مع هذه الأشكال. سرهم غير الحبس". انطوت وعلمت أنه لا أمل لها. أخذت تجوس بعينيها في المكان الغاص بأنواع كثيرة ومختلفة من المحتجزين كل له حكاية. لحظة رهيبة عاشتها كادت أن تخلل توازنها الفكري والروحي. كلام قبيح يتطاير حولها. تحاصرها مرة وجوه ضاحكة ألفت المجيء إلى هنا ووجوه أخرى عابسة و صامتة لا تفهم منها شيئا. وأخرى حائرة مثلها و تتمنى أن يفتح لها الباب و تنط منه بغير رجعة. جلست إلى ركن تطلب الراحة التي من أجلها تركت بيتها مرغمة. الخوف ينهش كل جزء من جسمها. لا تدري كيف تتصرف و لا مع من تتكلم.
طال ليلها و طال عذابها. برودة المكان هزت عظامها و زعزعت الدفء الساكن بداخلها. قفزت دمعة فارة من مقلتيها. لمحتها امرأة كانت هناك قبلها، منذ أن دفعت دفعا داخل الحجز. اقتربت منها وألقت السلام بكل لطف. حدجتها بنظرات خائفة و متوجسة. لم تجب و لم تستحمل نظراتها المارقة. قالت لها دون مقدمات:
- يبدو أنك سيدة محترمة. لماذا أنت هنا؟
انفرجت أسارير جميلة كأنها وجدت أخيرا من يصدق بأنها سيدة محترمة. مسحت الدموع المختبئة بين ثنايا رموشها و قالت لها:
- أنا فعلا... محترمة لكن لست أدري ماذا أفعل هنا؟
ضحكت و اقتربت منها أكثر و همست:
- ما إن تطأ قدماك هذا المكان حتى تتشبثين بالحرية أكثر و تقولين بأنك سيدة محترمة ووو
و تابعت دون أن تنظر إليها:
- أنا أيضا سيدة محترمة. هم يعلمون ذلك لكن ينتظرون التعليمات. وسأظل سيدة محترمة عندما أخرج من هذا القفز.
كلام غريب غزا دماغها. ظلت صامتة، شاردة، في انتظار مفاجأة من الزمن الذي كان لها كالوسادة الخالية، تفتح له خزينة أسرارها و تترك عنده كل مفاتيحها، حتى ينقدها مما هي فيه. حاولت المرأة التقرب منها أكثر، أعطتها بعض المكسرات التي كانت في جيبها. قالت لها مبتسمة"نتشارك الطعام" أخذت بعض الحبيبات بحذر كأنها تمشي فوق حقل ألغام. وعادت إلى انزوائها تنتظر. قالت لها المرأة دون مقدمات كأنها تحكي لصديقة عزيزة عليها:
- الرجل لا أمان له...تعرفت عليه في إحدى الأمسيات، كان أنيقا و مهذبا. تعارفنا و تطورت علاقتنا إلى معاشرة في إحدى الشقق التي كان يكتريها. كنت أعتقد بأنني الوحيدة في حياته. اكتشفت فيما بعد بأنني رقم من الأرقام التي تعجبه و يزين بها شقته.
ظهر على ملامح جميلة بعض الاهتمام، خرجت من عزلتها و أبدت اهتماما واضحا. تابعت:
- طلبت منه الزواج...صفعني بكلام كأنه سيف حاد يخترق ضلوعي.
دخل ساعتها شرطي مكلف بالحراسة الليلية و نادى على امرأة كانت جالسة القرفصاء. مظهرها يوحي بالتعب و الحاجة. عصبية الملامح و النظرات. همست لها المرأة، بأن التي خرجت الآن كانت تلعن و تسب كل من يقترب منها لأنه اعتدى عليها أحد أعوان السلطة عندما منعها من البيع في الشارع. لم تهتم جميلة للموضوع بقدر اهتمامها بالزمن الذي خدعها و كادت الفرحة أن تنط من عينيها، ظنت بأنه اهتدى إليها. عادت منكسرة الجناح و طلبت منها إتمام الحكاية. حكايتها هي.كأنها وجدت من يطوي معها مسافات الليل الطويلة:
- أصبحت أعيش تحت رحمته و في ذل رهيب. سألتها بكل عفوية:
- اتركيه بما أنه لا يريدك. ابتسمت و عدلت من ماكياجها وقالت:
- يا لك من ساذجة. أنا صرت الآن أصدقك. أنت فعلا سيدة محترمة. يده طويلة يا حبيبتي، تخرجني من جحر الفأر.
- بما أن يده طويلة، ماذا تفعلين هنا؟
- لقد اعتدت على هذا. أظهر في الصورة حتى يظل هو السيد المحترم. و بعدها يأتي العفو..
- لماذا تقبلين بالعيش هكذا. مهما طالت يده ستقطع. من يكون؟
- كان لقائنا الأول جميلا. أوهمني بأنني ملكته و أنني سيدته..اقتربت منها جميلة وارتاحت إلى روحها التي تشبهها إلى حد ما و قالت:
- أنا أيضا كنت أعتقد ذلك. و عادت إليها مسحة الحزن و أخذت تنظر إلى الفراغ الذي أمامها وتابعت:
- يبدو أننا نحلم كثيرا .
أثارت فضول المرأة و طلبت منها أن تروي لها سبب مجيئها إلى هنا. ضحكت جميلة حتى سقطت أرضا و انتبهت إليها الأخريات اللواتي ما زلن ينتظرن و قالت لها:
- أخاف أن لا تصدقيني. أنا نفسي لا أعلم ماذا أفعل هنا و كيف وصلت إلى هنا. أخذت أدرع الحجز ذهابا و إيابا، نظرت إلى النساء الأخريات المنشغلات بالانتظار و الخوف و الملل. ثم أخذت تحكي و تحكي..هاجمتها الدموع. شعرت بالحنين إليه رغم كل شيء. صمتت .. نظرت إليها وقالت:
- ألم أقل لك بأن حكايتي لا تصدق.
ابتسمت المرأة و اتكأت على الحائط المظلم و قالت لها و هي تتأمل كل كلمة:
حكايتك هي حكايتي. أنت هربت من الصراخ وسقطت بين يدي البوليس. وأنا هربت من البوليس لأسقط بين يدي البوليس. قالت لها جميلة، لاداعي للمقارنة. أكملي قصتك و سألتها:
- هل هو متزوج؟
أخذت المرأة سيجارة وابتعدت عنها وهامت مع دخانها السابح في فضاء الحجز و تكونت سحابة بيضاء زادت المكان بؤسا و اكتئابا.. فهمت جميلة بأنها لا تريد أن تكمل حكايتها. احترمت قراراها و عادت تعد عقارب الساعة...ما هي إلا لحظات، حتى كانت المرأة تتكلم في الهاتف بصوت خافت. اتجهت صوب جميلة و قالت لها:
- ألم أقل لك بأنها مسألة وقت فقط. سيفرج عني الآن.
- لم أفهم شيئا. من يكون هذا الرجل الذي يعذبك و يحنو عليك؟ أمر غريب.
ضحكت المرأة ورق قلبها و قررت أن تفعل شيئا. أخذت تفتش بسرعة في هاتفها. نادت عليها وقالت لها:
- أنظري، إنها صورته.
فتح باب الحجز، خرجت المرأة منشرحة تاركة جميلة لا تتكلم ولا تبكي. و تركت لها رقم هاتفها. تقدمت جميلة إلى الأمام قرب النافذة الوحيدة بالحجز، كان يتسلل منها ضوء الفجر، صرخت حتى هوت جدران الحجز. جاء الشرطي يسأل ، كانت تصرخ:
- لا أريد أن أخرج من هنا.
عادت إلى هدوءها الذي ينذر بعاصفة هوجاء، أدارت رقما على الهاتف و قالت بنبرة كئيبة:
- لقد كنت على حق لما قلت بأنني سيدة محترمة لكن أضيفي و ساذجة. صورة الرجل الذي يعذبك هي لزوجي الذي كنت أنتظر منه أن يحميني من ألسنة الناس و يخرجني من الحجز.