أحس بالضيق والاختناق داخل غرفته المظلمة فارتدى معطفه وعلق محفظته الجلدية على كتفه الأيمن وانطلق دون أن ينظر إلى المرآة كالعادة أو يلقي التحية على أحد.. انساب في الدرج، فتح باب المنزل وعانق ضوء الصباح بارتياح كبير، تنفس الصعداء لما أحس بالشمس تغازله وتصفح خديه وجبهته، رنى إلى الأفق البعيد بعينيه الواسعتين وتابع طريقه دون أن ينبس ببنت شفة، غالبا ما كان يكتفي بحركة أو حركتين من يده أو رأسه للرد على تحايا الأصدقاء والمارة، لم تكن لديه رغبة في الكلام، ما الجدوى من الكلام إذا كان من تحدثه لا يفقه كثيرا مما تقول، أما إذا فقهه فتلك مشكلة كبرى، سيحتاج إلى سنوات لتبرير ما قاله..لذلك كله يوثر الصمت، يكتفي بنظرات معبرة تحتاج إلى قواميس المعبرين، يدرك في أعماقه أن النظرات أكثر تعبيرا من الكلام، فهل من معبر ؟
ظل يجوب الأزقة والشوارع، ينظر بين الفينة والأخرى إلى مقهى من المقاهي المنتشرة على جنبات الشوارع، يدس يده في جيبه يشد على ثوب سراويله فيكمل طريقه مطأطأ الرأس متحسرا، يحملق في السيارات والحافلات والشاحنات تنطلق في كل الاتجاهات بضجيجها وأدخنتها المنبعثة بدت له حشرات مضرة تحتاج إلى مبيد، فكر في اعتراض طريقها، ليستمتع هو وأمثاله بلحظة سكون، لحظة يخلد فيها إلى ذاته، لكن ماذا لو لم تتوقف وأبادته كحشرة، احتمال وارد جدا... رمق بصعوبة كبيرة عشبا أخضر يلوح في الأفق، أسرع نحوه رمى بهيكله المثخن بالجراح فوقه، خلع نعليه ووضع السماعات في أذنيه بعدما أوصلها بهاتفه، توسد محفظته وحاول أن ينام تحت ظل شجيرة تبدو عليها آثار الآدمي جلية، إذ لم تسلم حتى قشرتها من شعارات تنم عن كبت بني آدم وحرمانهم، إلا أن شعوره بالخوف من المجهول حال دون استغراقه في النوم، كان يتحسس بين الفينة والأخرى محفظته تحت رقبته، يشد عليها ويمسح المكان مسحا بنظرات أضناها التعب والإرهاق... لا أحد في المكان سواه والجميع حاضر في مخيلته.. وامصيبتاه لماذا عجز أن ينام مثل ذلك المتشرد المنتشي في سبات عميق وسط الرصيف وتحت أشعة الشمس غير آبه بضجيج السيارات ولا المارة، تضايق كثيرا فارتعش شاربه الكث وتقوس حاجباه، ثم قام في عصبية ومد ذراعيه إلى السماء وصرخ:
إن كنت لا تريدني فأنا أريدك أيها النوم بالروح لا بالجسد فقط، إن لم تفتح لي بابك، فأنا مقيم على عتبتك، هي ذي حالي تعب في تعب، رغبة في لحظة، ولحظة في سفر، سفر بلا زاد..فهل ستلبي طلبي أم سيطول سفري ويقتلني انتظاري ؟