يمكن القول ، دونما غلو في هذا القول، إن المشهد الشعري العربي شهد في الفترة الأخيرة مايشبه "الربيع" الشعري المُرهص والموازي معا للربيع العربي الساخن الذي ما فتأت جمرته في اتقاد. فقد تواترت الإصدارات والنصوص الشعرية سيما من لدن الأجيال الشابة، وظهرت أسماء وتجارب جديدة في عالم القريض.
وواكبت هذه الطفرة الكمية طفرة كيفية وجمالية مست لغة الشعر وبلاغته وطرائق صوغه وإبداعه.
وكان لقصيدة النثر حصة الأسد في هذا الربيع الشعري، ذلك أن الأجيال الجديدة الشابة أَجنَحُ ماتكون إلى التحرر والانطلاق ، وأَنأَى ما تكون عن التقليد و الانغلاق.
في سياق هذا الربيع الشعري – العربي، تأتي المجموعة الشعرية الوليدة للشاعر الأردني زياد هديب. مجموعة يافعة تضم نصوصا غنائية شفافة تنزع عن ذات شعرية مرهفة على قدر كبير من الإحساس الشعري بالأشياء والكلمات. وتوشحها غلالة رومانسية رمادية.
وماذا سوى الرماد والرمادي، في هذا الزمن العربي الرمادي – الرصاصي ؟ !
"تَغيبُ الشمس
شاحبةً
كحلم..أنهكه السدَم
يَطل..
من ثقب الأصيل
يَفتَرشُ الناسُ
قليلا من الهم
كثيرا من الوجع
يحملون من صورهم
مايكفيهم..فيبكون
ترضع الأمهات..
عروق الدروب
سؤالا
لايعرفُ جَوابَهُ إلا الميتون
وانا أبحث عن نقطة
تحتفي بحضورها الأول
لاشيء يقتلُ الأفيونَ
بين وجنتين هدهما..احتراق الغيم
إلا انبعاث الرماد
وصفيرٌ
في أروقة الخراب."
لابد من الإنصات للنصوص، فهي الناطقة بلسان الحال.
وتلك كوة نصية نفتحها على عالم هذه المجموعة الناضح بالرومانسية الرمادية. والناضح أيضا ، بالشعر.
والرومانسية بادية مع إطلالة العنوان (حوار مع البحر).
والمرء حين يُحاور البحر ويفيء إليه، يدير ظهره للأرصفة والجدران، الإسمنتية، ويعقد صَلاةً مع الطبيعة.
وهذه عتبةُ الدخول إلى الرومانسية. والرومانسية كما نعلمُ، قطباها الأساسيان وركناها الركينان ، الطبيعة والمرأة.
لكن الشاعر وهو يلوذ بالطبيعة والمرأة ويحاور البحر، يظل مسكونا بهموم الأرض وأتربة الأرض. وفي المجموعة كثير من تفاصيل وتجليات هذه الهموم والأتربة، تحضر الطبيعة فضاء شعريا أثيريا. كما تحضر معجما شعريا وبلاغيا.
وتحضر المرأة الحبيبة وهاجسا شعريا وملاذا مَعَاذا أيضا :
"ها أنا أصعد إليك
يستعير البحر في اطراف أناملي
يتلاشى المُنحنى
فأرسم ثغرا...على قدميك
وأنشد بقايا الجسد
وأنفض عنك غبار العطر
محررا كل الفصول
عابثا بالحفيف واحتراق العشب
وهزيمة النهر
أعيد صياغة الشمع
واهتراء الموج على وجه الرمل
(...............)
ها أنا ملء عباب المدى
الطبيعة والمرأة والقصيدة.
ألا ما أحلى القران."
وجميل بالمرء، في هذا الزمن الإلكتروني – الأنترنيتي الذي يُدار بالأزرار ويطفح بالأسرار، العودة إلى "النبع الرومانسي الحالم" ، وإلى حضن الطبيعة وحضن المرأة . لتصريف الاحتقانات وفتح نوافذ الإغاثة.. ترف منها النسائم العليلة.
إن الشاعر، زياد هديب يغمس ريشته الشعرية بعشق في مداد الطبيعة الأخضر، وفي مداد المرأة الدافئ، بنفس القدر الذي يغمس فيه هذه الريشة في الحمأ المسنون.
لنقرأ إشارة، تتمة المقطع الآنف، من نص (صعود) :
"في الطريق إليك
صفقت الباب..
تجاوزت إشارة المرور
ضربني الشرطي
صفعني الإسفلت
شتمت الرصيف
..وها أنا أصعد إليك"
أسوق هذه الشواهد، لفتح كوة على عالم زياد الشعري، وللاقتراب الحميمي من لغته. وهي لغة سلسة مقتصدة وملغومة، تنوس بين النبرة الغنائية والنبرة السردية، وتقع على تفاصيل الأشياء ودفائنها. لغة تتوخى الجملة القصيرة واللمحة الشعرية الدالة. لكنها أيضا لغة تنزع عن ذاكرة ثقافية وتسكنها النصوص الغائبة :
"حينها..
قرأت (أبانا الذي في السموات..)
..وقرأت (وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون)
...
ياحاجب الشمس المطل على خجل
هذي القصور تبددت
فكأن خاتمة الدجى
مرت بلمحكَ والنجومُ على عجل
..كنت آخر المنبوذين
في لائحة المحاكم
كانت بلاد الريف على مرمى شراع
كان القنديل متشبثا بيدي
وطليطلة.. أبعد من بقايا الكتب
يالدمنا المهدور."
ليس ثمة تواريخ محددة لنصوص هذه المجموعة، لكن مناخها العام يبدو مشحونا ومسكونا بنُدُر الربيع العربي الساخن. وهناك نص طريف بعنوان (ويكيليكس) يرصد فيه الشاعر هذا الساحر الأنترنيتي الماكر، الذي تسلل إلى خدور الحكام العرب ونشر حبل غسيلهم على الملأ، وأشعلها فتنة لا تبقي ولا تذر:
"لم يدرك
أن ويكيليكس
يرصد لون الماء
والقنابل المدفونة في أكياس التوابل"
لكن المفارقة الشعرية اللافتة في هذه المجموعة، هي حضور السوريالية surrealisme جنبا إلى جنب مع الرومانسية Romantic .
وشعر الشباب، كما هو معلوم ، مفتوح على المفاجآت والمفارقات.
هكذا تواجهنا بعض النصوص بانزياحات وشطحات سوريالية تَشُد عن المألوف.
لنقرأ على سبيل الختم، هذه الفقرة :
"حدثني العصفور
عن سفن عالقة
في زغب الحمام
فقلت : وطن تاه في بريد الغجر..
هم..لا يعرفون السماء
وتكاد الأرض تميد
من خلاخيل النساء
أعرف النجوم
كلما ضيعتني الدروب
حقيبتي..سنام غبار
صليل الخطب
تؤبنُ الرجوع الأخير
انتفض الطائر
كان الشباك كذبة..ضرورية
قلت : ... قل
قال: قلت..."
ولا بدع في هذا الشطح الشعري – السوريالي. فقد أصبح عالمنا العربي، عالما سورياليا بامتياز.
لا أريد استباق القارئ أو النيابة عنه في قراءة ديوان زياد هديب (حوار مع البحر) ، فالنص الإبداعي أفق مفتوح للقراءة والقراء. كل يقرأه على سجيته الخاصة، ويعثر فيه على ضالة خاصة.
وحسبي القول، إن هذه المجموعة باقة شعر نضرة، في موسم الربيع الساخن.