الكتابة الرقمية ظاهرة فرضها التطور الهائل الذي شهدته وسائط الاتصال في العصر الحديث بفضل الثورة التكنولوجية التي جعلت من العالم "قرية كوكبية صغيرة". وقد أسهمت المنابر الإلكترونية عامة ومواقع التواصل الاجتماعي بشكل خاص في خلق حراك اجتماعي شمل مختلف مناحي الحياة. وهو ما نجم عنه تحول عميق في الحياة المعاصرة على جميع الأصعدة والمستويات. لكونها شكلت فضاء حرا لتدفق المعلومات والتعليق على الأحداث.
وقد اتخذ هذا التحول تجليات مختلفة أبرزها الواقع الافتراضي الذي أدى إلى تغيير كبير في أساليب التعبير وأدوات التواصل كما يكشف عن ذلك فضاء الانتاج الالكتروني الذي يتشكل من علامات ضوئية ونصوص أثيرية ورسائل لغوية وغير لغوية سابحة في الفضاء الالكتروني وجوالة في عوالم افتراضية غير مادية. وهو ما جعل الجميع يوقن بأن هناك عالما جديدا آخذا في التشكل اساسه الحاسبات الذكية والبرامج المعلوماتية وشبكات الاتصال الضخمة. إنه عالم يضج بالكائنات الافتراضية التي لا تعترف بالحدود والمسافات، حيث يجري البث في الواقع الافتراضي من مكان إلى آخر بسرعة الضوء وبصورة فورية تجعل حدود المكان بالمفهوم التقليدي تتآكل وتتضاءل.
لقد أصبح من الواضح تماما أن الكتابة على الجدران الافتراضية أسهمت بدور فعال في التحولات التي شهدتها المجتمعات العربية المعاصرة. وقد تأكد ذلك بالملموس عندما رأى الناس الثورات التي غيرت معالم الوطن العربي تنطلق من المواقع الالكترونية والشبكات التفاعلية. إذ برز "شباب الفيسبوك"، كما أطلق عليهم، فاعلين حقيقيين يدعون إلى التغيير وينخرطون فيه من خلال النزول الى الشارع والالتحام بالجماهير التواقة إلى الحرية والمشاركة في صنع مصيرها.
وقد كان بدهيا أن يمتد التحول الذي أحدثته الثورة الرقمية إلى "الكتابة" بمختلف أشكالها وأصنافها. حيث شكلت الكتابة على جدران المواقع الالكترونية كوة تتيح لمن يحترفون مهنة الكتابة أن يتخلصوا من قيود النشر الورقي التي تتطلب مهارات لا تتوفر للقابضين على جذوة الحرف الأصيل من تزلف وتملق ونفاق. حيث نصادف كثيرا من النصوص التي ترقى إلى مستوى رفيع من التعبير الأدبي وتكشف عن ذائقة عالية. ولولا النشر الالكتروني لما أتيح لها الظهور. غير أننا نلحظ من جهة أخرى أنه تم استسهال الأدب بعد هجرته إلى المواقع الإلكترونية. حيث أصبح النشر سهلا لا يكلف البعض سوى كتابة أسطر مختلفة الطول والقصر ليسميها شعرا وهلوسات يطلق عليها تسمية قصة قصيرة جدا. لقد كان الرعيل الأول من المبدعين الذين يستحقون هذه التسمية فعلا يتهيبون النشر؛ فلم ينشر الشاعر المغربي القدير محمد الخمار الكنوني سوى ديوان واحد هو "رماد هسبيريس" ولم يعرف الشاعر أحمد المجاطي سوى بديوانه "الفروسية" ولكنها أعمال خلدت أصحابها وبوأتهم المكانة التي يستحقون.
ولا ينبغي أن يفهم مما سبق أنني أستهين بالكتابة الرقمية. لقد أردت فقط رصد ظاهرة هي استسهال النشر من طرف كثيرين وقارنت ذلك بسلوك بعض المقتدرين من أسلافنا الشعراء والكتاب العظام وقدمت نماذج ساعيا من ذلك إلى الإسهام في إثارة السؤال وطرح الإشكال. ولم أتغيا بأي حال من الأحوال إصدار حكم قاطع. وإلا فأنا أؤمن بدور النشر الالكتروني في توسيع مساحة التواصل بين المبدع وقرائه، كما أقدر مدى فاعلية وسائط الاتصال الالكتروني في نشر قيم التنوير والاستنارة التي تتوخاها الأعمال الفكرية والابداعية التي ينشرها الكتاب على صفحاتهم. لأنه ما من شك أن وسائل التواصل الالكتروني تمثل نافذة يطل منه الإنتاج الفكري والإبداعي على جمهور المتلقين الذين يتفاعلون مع هذه المادة الفكرية والأدبية. غير أن ذلك لا يصدق سوى على الكتابة الالكترونية الجادة والرصينة، وهي كتابات استوت في الغالب ونضجت قبل انتشار الكتابة الرقمية. أما الذين بدأوا النشر مع ذيوع "الفيسبوك" فإن كتابتهم في كثير من الأحيان تكون "غير نضيجة" بتعبير أسلافنا من المتقدمين الذين كانوا ينظرون إلى الأدب بوصفه "صناعة" تحتاج إلى تهذيب وتثقيف. وغني عن البيان أن مصطلح "صناعة" لا يحمل أي توصيف قدحي. ولكنه يدل على التمكن والبراعة والرغبة في التجويد. فلا يعرض المبدع نصوصه للتداول والتلقي حتى يتأكد من أنها قد توفرت لها شروط القول الأدبي ومتطلباته. من ذلك أن بعض القصائد كانت تمكث عند شاعر مثل زهير حولا كاملا فيما يذكر الجاحظ ولذلك أطلق عليها "الحوليات". في حين نجد كثيرا من الكتاب الذين تعج بهم صفحات المواقع الالكترونية انبروا للكتابة ولم تستقم لهم آلتها. ولكن النشر الإلكتروني استطاع أن يؤمّن لهم الإنتشار السريع، ولذلك أقبلوا عليه بكثير من التسرع وعدم التروي مما جعل من استسهال الكتابة يتحول إلى "إسهال" مزمن عند البعض. حيث صار المعروض من النصوص أكثر من المقروء وهو ما جعل بعض المتابعين لظاهرة الأدب الرقمي يطلقون على هذه الظاهرة "استنزاف الخطاب".
وقد حملت هذه التحولات كثيرا من الدارسين على الاعتقاد بأن الأدب الرقمي في طريقه إلى إحداث قطيعة مع أشكال الإنتاج الأدبي غير الرقمي التي بات ينظر إليها باعتبارها أشكالا كتابية تقليدية. بل إن البعض تنبأ بموت الكتابة الورقية ما دام تاريخ الأنواع الأدبية ظل مرتبطا على الدوام بالوسائط التي تحمله فهي التي تحدد طريقة تلقيه والتفاعل معه. فما من شك أن تلقي الأدب الشفاهي يختلف عن تلقي الأدب المكتوب ومن الطبيعي أن يختلف تلقي الأدب الرقمي عن الطرائق المعتمدة في التفاعل مع غيره من الإنتاج الأدبي الأخرى نظرا لاختلاف القناة الحاملة للمنتج النصي.
إن هجرة الأدب إلى المواقع الالكترونية (المدوّنات والمنتديات والمواقع الشخصية، بالإضافة إلى مواقع التواصل الاجتماعي) يجعلنا في حاجة ماسة إلى إعادة النظر في مفهوم الأدب واللغة الواصفة التي اعتدنا تشغيلها في تحديد طبيعته ورصد خصائصه؛ فهناك فرق شاسع بين الكتابة على أسناد مادية ملموسة وبين الكتابة الرقمية على أسناد أثيرية افتراضية. يتميز الصنف الأول من الكتابة بأنه ذو طابع خطي تسلسلي في حين تتميز الكتابة الرقمية بأنها نصوص متشعبة وعنكبوتية لا تنمو في اتجاه واحد ولكنها مرنة وتعددية تتيح استخدام مختلف وسائل الاتصال ( الكلمة – اللون - الصورة – الصوت - الضوء - الروابط) كما أن النص الالكتروني يتميز بأنه تفاعلي لكونه يمنح القارئ إمكانية التصرف فيه واستخدامه لأغراض غير تلك التي حددها له منتجه من خلال تقطيع النص وإعادة تركيبه. وهذه الإمكانية غير متاحة بالنسبة لمن يتعامل مع نص ورقي ثابت ومتصلب لا يمكن التصرف فيه واستعماله إلا بإعادة رقنه؛ أي تحويله إلى نص رقمي.
لقد أحدثت الثورة الرقمية تغييرا جذريا في مفهوم إنتاج النصوص وتلقيها؛ فلم يعد المؤلف مجبرا على المرور من مصافي دور النشر كما كان الأمر سابقا، لأن المواقع الالكترونية المختلفة تتيح إمكانية هائلة لكل فرد لكي ينشر ما يشاء. وقد نجم عن ذلك أن أصبحت أسماء الكتاب الذين حققوا نجاحا باهر في مجال النشر الورقي تتجاور مع أسماء كتاب مبتدئين ومغمورين بل حتى من يتسم إنتاجهم بالرداءة. كما طرأ تحول جذري على مفهموم النص الذي لم يعد المكون اللغوي يشكل سوى جزءا من نظامه البنائي والتعبيري إلى جانب عناصر أخرى مثل الصوت والصورة. وهو ما أفضى إلى تأسيس قواعد جديدة في إنتاج النصوص وتلقيها. مما أربك الطرائق التحليلية المعتمدة في نقد النصوص المنشورة ورقيا لأن مفاهيم النقد القديمة وأدواته المنهجية لم تعد كافية لمقاربة هذا الصنف من الخطابات التي حولت الأدب من نسق لغوي إلى نسق سيميائي تتساند فيه علامات عديدة لغوية وغير لغوية لانتاج المعنى وبناء الدلالة.
إن هذه التحولات غير المسبوقة تؤكد أن ثمة ثورة فكرية وجمالية من ملامحها أن مفاهيم كثيرة بدأت تتصدع مثل مفهوم المؤلف والنص والقارئ والجنس الأدبي. وهي المفاهيم التي كان يعتقد أنها صلبة وثابتة. وعليها كانت تتأسس عملية تحليل النصوص وتفسير الخطابات.
لقد أصبح النص الرقمي معمارا تسهم في تكوين نظامه الاستطيقي أدوات ووسائط متنوعة يدخل فيها اللغة والصوت والصورة واللون والضوء والحركة؛ فكثير من النصوص تلجأ في بنائها الجمالي إلى عناصر سيميائية مختلفة مثل الموسيقى واللوحة والإلقاء الصوتي إلى جانب العلامات اللغوية التي لم تعد حركتها تنمو في شكل خطي تسلسلي ولكنها أصبحت متحركة تنمو بصورة تشعبية في اتجاهات مختلفة.
ومما يثير الانتباه أن هذه العناصر التي أصبحت تدخل في صميم تكوين النص الرقمي أنها لم تعد مجرد مصاحبات إشارية وعلاماتية ينحصر دورها في إضاءة النص، ولكنها أصبحت أدوات مهمة في توجيه القراءة وبناء المعنى من خلال الإيحاء بالمحتمل الدلالي للخطاب. مما يعني أن طبيعة الوسيط الحامل للعلامة وشكل عرضها يحددان الصيغة الملائمة لتلقي النصوص والخطابات؛ فالنص الرقمي لا يعبر طريقه نحو التشكل والدلالية إلا بمصاحبة مجموعة من الوسائط التي ترافق أو تحيط به في صورة شبكة معقدة تشتغل خارج القوانين التي تميز نظام المعنى كما تفرزه الانتاجية النصية المتشكلة في فضاء مادي قد يكون الورق أو غيره.
إن هذه الخصائص الجديدة التي تسم الكتابة الرقمية فرضت تغيير أفق التلقي، لأن فعل القراءة بات يشتغل على كيان نصي مختلف عن الخطابات المحمولة على أسناد ورقية مادية. لذلك أصبح النقد مدعوا إلى تجديد منهجيته التحليلية وأدواته الواصفة التي يشغلها من أجل مقاربة هذا الصنف من النصوص المعلقة على الجدران الافتراضية والمواقع التشابكية التي توظف أحدث التقنيات من أجل صياغة معمار نصي يمتح جمالياته من الإمكانات التي تتيحها له الثورة التكنولوجية. وهو أمر لا يمكن أن يتحقق ما لم تشتبك الممارسة النقدية مع كشوفات المعرفة الاإنسانية المعاصرة من خلال الانفتاح على النتائج الباهرة التي راكمتها العلوم الإنسانية والمراجعات النقدية والفلسفية التي ما فتئت تعرفها إبستمولوجيا المعرفة بشكل عام ونظريات الشعرية بوجه خاص بما هي بحث في القوانين العامة للنصوص والخطابات. ومن شأن الوعي بهذه التحولات التي طرأت على طبيعة الإنتاج الأدبي وظروف تلقيه أن يفضي إلى اقتراح نماذج ومقولات تستطيع القبض على الأنساق الجمالية والقيم المعرفية. وذلك في سياق تأويلية رقمية تأخذ على عاتقها مسؤولية التفكير في ضرورة اقتراح مجموعة من النماذج والمقولات القادرة على وصف النص الالكتروني وتحليله في أبعاده الجمالية والمعرفية وحتى الايديولوجية باعتبار أن الجماليات التي يزخر بها ويقترحها على متلقيه لا تنفصل عن الخلفية الثقافية التي يصدر عنها منجزه .
إن ما سبق يتيح لنا أن نستخلص أن الكتابة الرقمية تدشن تحولا جذريا في مفهوم الكتابة وأشكال التلقي. وهي لا تتعارض مع الكتابة الجادة والرصينة. بل إن فضاء النشر الالكتروني يتيح للكاتب، بما هو مثقف مهموم بقضايا وطنه، وأمته آليات التواصل مع جمهور واسع يستطيع أن يؤثر فيه ليجعله متشبعا بقيم التنوير والاستنارة.