يجنُّ الليل، تجتمع كلُّ الأشياء التي لا أحب اجتماعها، يساعد على ذلك الجوُّ المحيط...الحجرة لا يُنيرها إلا بصيصٌ من نور المصباح المنبعث من الخارج، انعدام الصوت فلا يُوجد صوتٌ يكسر حدة السكون، أين هرتى التي طالما تصدر أصواتا تشبه النغم عند فرحى وتثير أعصابى عند الغضب ؟ ! .. لا أتحملها، لكن أريدها الآن، لعلها تعبث مع هرّ قابلته عند الجزار، أو أنَّها تجد العطف عند غيرى ... أعلمتها كثيرا أننى قلَّما أستغنى عن الصوت بجانبى... أمَّا الظلامُ، يروقنى أن أظلَّ فيه ... لكن ليس إلى الدرجة هذه ... تبدو الحجرة لي قبرا يعصر بين حناياه جثةً تالفةً ... أضع رأسي على الوسادة، أستدني النوم، يتأبى علي، أستغيث به:
- " يا نوم! رأسي يكاد ينفجر! "...
يظل النوم على تمرده، عقوقه، عصيانه، حينها تفقد عيني الأمل ...فتظل تذرف دموعا لا حصر لها ... أحدِّث نفسى متسائلة:
- " أهذه دموعٌ تسبب فيها الضمير؛ الذى يناديني بصوت لا يخلو من زجر وعنف:
" أفيقي، إنه متزوج " .
أتشاجر معه:
" كلا، إنه يحبني أنا ... أنا فقط، لن أتركك تعكر صفو حبي له، إنك حاقدٌ علي، إنه يعشقني، يبادلني الحبَّ بالحبِّ، الحنان بأكثر منه ...إنه يتمنى أن يقضي البقية من عمره فى كنفي وتحت رعايتي " .
أشعر أنني انتصرت عليه ... أضع رأسي على الوسادة، أغمض عيني، تأخذني غفلة، تساورني فيها أخلاطُ أحلامٍ، يقتحم مخيلتى شبحٌ، تحمل قسماتُ وجهه ملامح امرأة، إنها تمسك بحبل قوي، تعتريني هِزَّةٌ، يخفق قلبي خفقانا سريعا، تقف قُبالتي تفحَّصني ... نبضات قلبي تتواثب، على خدي أثارٌ من الدمع الهتون . تصرخ فى وجهي فى غير مرحمة:
" أتبكين ... أتبكين بعد كل ما تفعلين، بعُدتى عن الحق، أتنكرين ؟ !..
يبلغ ابنه عامين ونصف، يصرخ، أريد أبي بجانبي وهو معك، أسيرٌ فى حبائلك، يمدحك، يمجدك، ألم تستحي من نفسك يوما ؟ !.
والتي أحبته وأخلصت، تجعلي ذنبها أنها زوجةٌ لرجل تحبينه، تعشقينه، تسرقينه، وأنت تقضين معه لحظات، تضحكين، تبكين، كأنَّه زوجٌ لك، زيدي على ذلك ...المشاعر التي تشعرين بها، فكأنك له ملكُ يمين ... لمسة يديه ليديك؛ التي طالما تشعرك بأنك فى أحضان الهواء، تحلقين، تغردين، تشتاقين ! ...
كلامُك له الذى تتفننين فيه؛ فيكون جوابه لك:
" ازداد حبي لك، اعطيني المزيد يا حبيبتي ... آلكلام رقيقٌ حقا، أم أنك على الجرح تضغطين ؟ ! ...
تقبل علي بالحبل فى يديها ... تقول إننى زوجته، وحقي الآن أن أقتل تلك النفس التي تفسد عليّ حياتي بغير الحق ... وجعلتني أفقد ابني منذ ساعات بسبب إهمال والده إياه، وقربه منها... مات ابني ... فموتي بموته ... آن لك أن تلحقي به ... تقترب بالحبل ... أنتفض فى مضجعي، صارخة، منهمرة الدمع ... أستشعر بغضا شديدا لكل ما فى الدنيا بل للدنيا بأسرها، ولنفسي ... لكني أعرف الآن سبب البكاء الذى زاد بعد ما استيقظت ... أنهض من مهجعي، ودموعي تتسايل على خدي، أسير فى هوادة، مستريحة البال ... أنظر من نافذة الغرفة التي اقتحمتها اقتحاما، فأرى الحياة بلون آخر، كأن البكاء يصيّر حالي إلى طمأنينة وراحة، وأزاح عن فؤادي هما عظيما، فأشعر بأنني ألقيت عن صدري جُلَّ ما يثقله ... أرفع عيني إلى أعلى، فكأن النشاط والحيوية قد صُبَّا فى قلبي صبًا، بعدما كنت أمضي يومي في ملل أروح وأغدو كأنني أسرق شيئا، تتوهج اللمعة فى عيني، التي كانت قد خَبت فى الفترة الماضية ... لكن ما لبثت أن أنزلتهما إلى الأسفل ... فأجد الأزهار الجميلة فى الحديقة، فشرعت أجيل النظر فى كل ورقة من ورقاتها ... أتمنى لو أننى وردة من أزهارها، إنني هكذا حقا، لكن يبدو أننى وردة ذابلة لا عطر فيها، بعد أن اشتمها بلا حق ولا هوادة ...