في الثلاثينات من القرن الماضي، سيهاجر الجـد بنهـدي إلى الجزائر، - القطر الشقيق لبلده المغرب – كما فعل ذلك قبلـه وبعده الآلاف من المغاربـة الذين حملوا سواعدهم وخبراتهم، وتجاربهم وتجارتهم، وأموالهم، وكلما لهم من أحلام، ودموع وآلام وطموح وأفراح وجاءوا بها إلى الجزائر ليساهموا إلى جانب إخوانهم في بناء الأساس المتين ورفع الأركان من البيت الغربي للوطن الكبير، لا فرق بين البلدين، أرض مشتركـة وتاريخ مشترك. اختلط العرق بالعرق والدم بالدم، وانصهر الجميع، نساء ورجالا وشيبا وأطفالا في نسيج اجتماعي فريد29، تزوج المغربي بالجزائريـة وصاهر الجزائري المغربي وصار الأطفال يدخلون البيوت كما لو كانت بيتا واحدا لأسرة واحدة... يلبون طلبات الأمهات ثم ينخرطون في اللعب44 ، فهم ليسوا أنصاف مخلوقات، ليسوا أنصاف جزائريين ولا أنصاف مغاربـة، إنهم جزائريون بالكامل ومغاربـة بالكامل في الوقت نفسـه، فبين المغاربـة والجزائريين لم تكن توجد نصف جنسيـة وإنما جنسيـة كاملـة هي جنسيـة الوطنين معا، لعب الأطفال في الأزقـة نفسها، أكلوا الخبز نفسـه دون أن يسألوا أي الأمهات طهتـه، وكتبوا أسماءهم على جذوع الأشجار، ثم صاروا كبارا، الشبان، يطيلـون الشارب والشابات ينظـرن من خلف النوافـذ لعرسان الغد .. عرسان أو فرسان بلا بطاقـة هويـة غير هويـة المكـان.
في الثلاثينات من القرن الماضي، اصطحب الجد "بنهدي" أولاده الأربعـة (ثلاثـة بنين وبنت واحدة) إلى الجزائر63، حط الرحال بوهران وشمر على ساعديـه وحنجرتـه ليطرد الفضول ويدق أوتاد الاستقرار في بيت متواضع يكتريـه مع الجيران .. جد عصبي وصعب المراس، لكن الجدة في المقابل كانت حنونا ومتسامحـة، سهلـة وديعـة، يقصدها الناس من القرى المجاورة لتمريض الأطفال وتقديم المشورات ... حتى لقبت ب "لالـة شافيـة"63
ولما صدح نداء الثورة، تجند الأبناء الثلاثـة والأخت للدفاع عن البلد الذي صار بلدهم، البلد الذي كان حتى قبل أن يهاجروا إليه بلدهم، -هكذا كانوا يعتقدون .. أو هكذا كان قبل أن يستولى على البلد مسـاخ الذاكرة ونسـاخ التاريخ ومصـاصو الأرزاق والدمـاء– احتلوه، هم الذين لم يفعلوا شيئـا من أجل تحريره واستحوذوا على ذاكرة الآخرين.
الأبناء، كانوا يقاتلون المستعمر في الجبال ، والابنة كانت تهرب الأسلحـة للمجاهدين في سلال الخضر أو تمرر أوراق الخرائط والخطط للمحاربين داخل خبـزة كبيرة64 .. فكما كانت تفعل نساء المغرب من أجل استقلال المغرب فعلت المغربيـات من أجل استقلال الجزائر، ضحين بأنفسهن وبأبنائهن وإخوانهـن..
وسقط الأبناء تباعا كجياد أصيلـة، سقطوا شهداء الواجب كما سقط أهلهم على أرض المغرب شهداء الواجب .. هؤلاء وأولئك المغاربـة .. هنا وهناك استجابوا لنداء الوطـن، وسقطوا فداء له، سقطوا من أجل الحريـة والكرامـة وعزة الوطن، لم يمتزج الدم المغربي والجزائري بالزواج والمصاهرة فقط، ولكن أيضا امتزج بالشهادة حين سقط المغاربـة إلى جانب الجزائريين برصاص المستعمر في ساحـة الشرف. مات المغاربـة من أجل أن تحيا الجزائر يوم كانت "بلاد العرب أوطاني*..."
استشهـد الأبناء الثلاثـة، ومات الجد .. وماتت الجدة.. كانت الحرب قد انتهت، فتزوجت البنت المغربيـة بشاب مغربي وانتقلت للعيش معه في بيت جديد إلى جوار جيران جدد.. صارت المرأة أما فتكفلت برعايـة الصغيرين " حميد وسعيد " وصار الرجل أبا فهاجر إلى شمال فرنسا ليعمل في مناجم الفحم64 ويعيل أسرتـه الجديدة.
عمي عبد السلام وخالتي سعيدة .. الجزائريان .. كانا الأقرب إلى قلب الأسرة المغربيـة.. وجميلـة ابنتهما ستكون الأقرب إلى قلب سعيد.
.. سعيد المغربي وجميلـة الجزائريـة سينشئان في البيت نفسـه يلعبان معا .. يحبـان بعضهما، يحبـان كليهما، يغرقان في الحب الطفولي البريء .. عروس وجدت فارسهـا إلى جانبها.. دونما حاجـة لكثير أحلام. عروس وعريس منذوران لبعضهما تقول الأسرتان .. ويحلمان أحلاما عاديـة .. جدا .. كما يحلم الشباب في المغرب أو في الجزائر.
هو الآن في السنـة الثالثـة فلسفـة... جامعـة وهران.
وهي في السنـة أولى حقوق14.
يحلمان بالزواج ودفئ الاستقرار .. أحلام على مقاس شابيـن متعقليـن.
تفضي جميلـة بأحلامهـا للخالـة زليخـة (أم سعيد) حماتها المقبلة حين ترافقها لزيارة قبر الزوج (والد سعيـد) الذي مات مختنقـا في مناجم الفحم شمال فرنسـا فحملوه في صندوق إلى الجزائر ودفنوه في المقبرة وسط المدينـة .. مدينـة وهران 29..
ويفضي سعيد بأسراره لصديقـه مصطفى ليزناسني .. الموظـف الأعزب الذي يقاسمـه هو – مغربيتـه – ويقاسم جميلـة جزائريتها، فمصطفى من أب مغربي وأم جزائريـة21، لكن .. حتى ذلك الوقت .. ما كان أحد يهتم بمن هو المغربي مائـة في المائـة ومن هو ثلث مغربي أو ربع جزائري أو نصف نصف .. لم يذهب أحـد إلى المقبرة ليعزل عظام الموتى المغاربـة عن عظام إخوتهم الجزائرييـن.. لم تكن بعد مختبرات الحقد قد اخترعت شيئا اسمه الدم الخالص والجنس الأصيل.. لأن الدمـاء كانت مشتركـة..
- دمـاء الحياة بالنسبـة للذين ساهموا في بناء الجزائر.
- ودمـاء الشهادة بالنسبـة للذين سقطوا فداء لها.
- دمـاء الحياة .
حياة عاديـة تمامـا .. لشابيـن يحبـان بعضهما.
الأم المغربيـة تنظر بعيـن الرضا لنجاح ابنها وتنتظـر أن ترى له البنيـن والبنات.
والأم الجزائريـة تنظر بعيـن الارتيـاح لنجـاح ابنتها وتنتظـر أن تهدهـد أحفادهـا.
أما الصديق مصطفى ليزناسني فيتابـع الأخبار ويلتقط الأسرار و "يحلم أن يعيش ويسافر، ويتعرف على الدنيـا، ثم يتزوج، وينجب أولادا يكبرون ويتوزعـون على هذه الأرض. ويعيش في طمأنينـة"78.
كانت هذه الحال بالنسبـة لما يزيد عن 43 ألف أسرة مغربيـة تعيش في الجزائـر.
أسر من أم مغربيـة وأب مغربي، أو من أب جزائري وأم مغربيـة أو أم جزائريـة وأب مغربي، فقراء وأغنياء، تجار وأصحاب أموال صناع وحرفيـون وفلاحـون. أمازيغ وعرب. متعلمـون وأميـون، نساء ورجال وأطفال وشباب، مسنـون، عجزه ورضع ، مرضى، حوامـل. ما يزيد عن 300 ألف من المغاربـة.
لا شيء كان ينبئ بأن هذه الحياة العاديـة جدا، والمستقرة كما يجب أن يكون الاستقرار، ستنقلب إلى جحيم وألسنـة نار تلتهم الأجساد والأحاسيس والمشاعر وخشب السقـوف وأشجار الحدائق وأزهارها.
لا شيء كان ينبئهم بمصير كذلك المصير الذي وجدوا أنفسهم أمامه بلا سابق إنذار ولا سابق إنتظار.
لكنها دائما السياقات الكبرى للتحولات التاريخيـة التي تخترق العالم فتفك ارتباطات وتحل أحلافا وتقيم جدارات ومعسكرات .. ثم تجري قضاءها ومقاديرها على المستضعفين أفرادا وجماعات عن غير سابق تفكير أو تصميم من هؤلاء.
هكذا وجدت 43 ألف أسرة مغربيـة - تعيش فوق التراب الجزائري - نفسها تتلقى الضربات الموجعـة.. ضربات الغدر والإهانـة.. فاستسلمت للموجـة العابثـة بالأرواح والأرزاق والكرامـة الإنسانيـة. استسلمت للموجـة العاتيـة وهي تدفعهـا بجنون الحقـد والانتقام إلى الارتطام بصخرة واقع لم تكن مهيأة له بالمرة .. واقع لم يكن متوقعـا.
لم تكن أي واحدة من تلك الأسر ال 43 ألفـا ولا كان أي واحد من أولئك المغاربـة 300 ألف منذورا لكي يصير بطلا لحدث نظائره في التاريخ تعد على رؤوس الأصابع.
أبطال ليس لهم من البطولـة غير بطولـة الضحيـة التي ترضخ للأمر الواقع راضيـة بقدرها، لأن جلادها لم تبـق له أية صفـة تجمعـه بالإنسان، وأفقده حقده الأعمى كل شعور أو إحساس بالأخوة .. وبالعروبـة.. وبالإنسانيـة25.
مصير أو قدر فرضتـه النزوات الشخصيـة والعناد حين يصبح العناد والنزوات سيدان يمليان على أصحاب القرار الاختيـارات السياسيـة مهما كانت مكلفـة وباهضـة الثمن .. باهضـة الثمـن بالنسبـة لضحاياهم. فقـد شاء الحاكمون في "المراديـة" أن ينتقمـوا من كل المغاربـة الموجوديـن في الجزائر، وينغصوا عليهم فرحـة استرجاع الصحراء من يـد الإسبـان، وفرحـة العيـد11 .. لقد استكثروا على المغاربـة أن يفرحوا لفرح وطنهم وأن يحتفلوا بسنـة نبيهم، فقرروا بلا سابق إنذار طردهم. ذلك الطرد المهيـن.
مصير هؤلاء المغاربـة يرسم أكثر من علامـة تعجب واستغراب واستفهام فوق رأس كل من ساهم في القرار أو نفذه أو تواطأ بسكوتـه أو صمتـه من المسؤولين في الجزائر، كما أنه يزيل كل لبس أو إبهام حول نواياهم تجاه المغاربـة( نحن في1975) .. فالعلاقـة بين القطرين واحدة من أغرب وأعقـد علاقات الجوار. إذ كل شيء يجمع القطرين الشقيقين، الأرض والسماء والتاريخ واللغات والماء والدماء ... وكل شيء يفرقهما. فمع الاستقلال اختار المغرب اللبيراليـة وقرر المتنفذون في الجزائر الاشتراكيـة. وأعطى المغرب الأولويـة للري والفلاحـة وفرضت الجزائر التصنيع من أجل إنشاء بروليتاريا على مقاس العالم الثالث، واختار المغرب التعدد وأصرت الجزائر على أنه لا صوت يعلو فوق الحزب الواحد ومال المغرب للغرب ومالت الجزائر للشرق واختار المغرب قيم الانفتاح والتسامح والاختلاف وانتهجت الجزائر أسلوب التشدد والرأي الواحد.
وفي المحصلـة : نجح المغرب بفضل تضحيات أبنائه في أن يتغير ويتبدل ويتحول ويتقدم . لقد تغير العالم وتغير المغرب. ولكن السلطات العليا في الجزائر بقيت منفصلـة على عصرها، متصلبـة في موقفها لا تريد لصورة الجار أن تتغير في عينيها، لقد جمدت الصورة وحنطت التاريخ وتوقفت به عند لحظـة تعلم هي وحدها سر اختيارها...... وتوقيتها، وأصبحت هذه الحال عائقـا نفسيـا يستحيل معه أن تقبل إلى جوارها بمغرب متحرر وناجح ومنفتح على العصر، لقد جعلت من إعاقاتها النفسيـة وهي كثيرة، عوائق فعليـة في وجـه تكامل القطريـن. وهكذا فبعد شهر واحد فقط على تحرير المغرب لأقاليمـه الجنوبيـة وفي 18 دجنبر من سنـة 1975 أقدمت السلطات الجزائريـة على طرد ما يزيد على 43 ألف أسرة مغربيـة تعيش بشكل قانوني داخل التراب الجزائري، ولأن الانتقام كان أعمى وأهوج فقد انتظرت عيد الأضحى لتشرع في التهجير، لقد ضحت بهذه الأسر على مذبح حقد أسود وبلا معنى، ساخرة من دم لا يمكنـه أن يصير ماء ومن ملح وطعام مشترك، ومنتهجـة في ذلك أسلوبا قل نظيره في التاريخ، ولعلـه واحدة من التطبيقات العمليـة لدروس المعلم الروسي الكبير في حروب التهجير والترحيل ضد القوميات والأقليات والمختلفيـن.
لقد مرت الآن 37 سنـة على هذا الحدث المفصلي في تاريخ العلاقـة بين القطرين، والتراجيدي في انعكاساتـه وآثاره الاجتماعيـة والنفسيـة على الأسر التي اصطلت بناره الهوجاء.
مات خلق كثير منذ ذاك .. وولد خلق كثير.
فهل طوى النسيان هذه الواقعـة الأليمـة، وضمد جراح ضحاياها15.
بعد 37 سنـة على هذه المأسـاة، يصدر الكاتب الملتزم والمتألق معمر بختاوي روايتـه / الوثيقـة / الشهادة / "المطرودون"
وليس ما كُتب في هذا التقديم غير قبسات من عوالم وأجواء هذا العمل الإبداعي القيم في ذاته وغايته . ف "المطرودون" روايـة / شهادة تخيلية/شاهدة على المأساة. ولهذا الإصدار ولا شك وفي هذا الوقت بالذات، علاقـة بواجب الاعتراف بتضحيات جيل بكاملـه، وبواجب حفظ الذاكرة27.
إنها بالمعنى السالف وثيقـة أدبية وشهادة إدانـة يعلنها المؤلف على الملأ.
على ظهر الغلاف يشهر المؤلف صورتـه وسيرتـه وروايته مؤكدا على أنها : "تحكي قصـة ثلاثـة وأربعين ألف أسرة مغربيـة طردت من الجزائر إلى وطنها الأم. في ظروف أشبـه بكابوس مرعب من طرف الحكومـة الجزائريـة، على إثر قيام المغرب، بمسيرة إلى صحرائـه الجنوبيـة.
أسر مزق أوصالها هذا الطرد، وانفصلت عراها، توجـه نصف العائلات إلى ما وراء الحدود .. وبقي نصفها هناك يعاني التمزق والضياع حتى يومنا هذا.
رحلت هذه الأسر بعدما اعتقدت بأنها في أرضها، جردوها من ممتلكاتها، وقالوا لها عودي من حيث أتيت".
43 ألف أسرة، ما يزيد عن 300 ألف مغربي، هؤلاء هم الأبطال الحقيقيون لمأساة الطرد التي تحكي عنها الروايـة، تماما مثلما أن 350 ألف مواطن مغربي هم الأبطال الفعليون للمسيرة التي حررت الصحراء، المغرب كان يحرر والجزائر كانت تهجر وتلك هي مفارقـة التباس الحق بالباطل، مفارقـة تربص الجار بالدار.
300 ألف مغربي مهجر، يتكلم باسمهم سعيد بنهدي المولود بالتراب الجزائري من أم هربت السلاح للمجاهدين وأب مات اختناقا في مناجم الفحم الفرنسيـة29 ليزدهر الاقتصاد الجزائري وأخوال دفعـوا دماءهـم وأرواحهـم فداء للجزائر.
يتكلم سعيد بنهدي بلسان السارد وينظر إلى الأحداث بعين الشاهد فيروي ما عاشه ورآه بقلب يعتصره الألم وعين تتدفق بالدمـوع. هو، و300 ألف مغربي كانوا يحيون حياة عاديـة، كل واحد منصرف إلى ما هو فيه من شأن.. خاص.. فجأة، أصبح / أصبحوا غرباء، مطاردين في وطن ساهم الآباء في بنائـه، وحملت الأمهات السلاح خفيـة من أجل تحريره :
"قدمت أسرتي خمسـة شهداء، قضوا نحبهم على أرض الجزائر"85
تقول سيدة مغربيـة.
دم خمسـة شهداء لم يشفع لها في البقاء.. لم يشفع لها في إكمال رحلـة العمر إلى جوار قبور أهلها على الأقل.
"بوه .. بوه .. على ولدي اللي مات من أجلكم يا الكلاب الغدارين .. يا المجرمين.. يا نكاريـن الخير .."71
تقول امرأة مسنـة، وقد رموا بها في الشاحنـة كبضاعـة فاسدة.
ولا شك أن نار الغل والغيض كانت تستعر في صدور أهل "المراديـة" حين كانت أخبار المسيرة تتواتر مرفوعـة إلى الأعلى بالحناجر التي كانت تلهب الحماس على الدوام مغنيـة "العيون عيني .. والساقيـة الحمرا ليا .. والواد وادي ..* "
لقد تحول المغاربـة فجأة إلى رهائـن في أيدي السلطات الجزائريـة، وإذ استحال عليها إعاقـة المسيرة فقد حولت غضبها إلى انتقام أسود من الإخوة الضيوف / الذين لم يكونوا يملكون حيلـة لصد انتقام الغدر، انتقام الجبناء.
كل القرارات تصدر باسم سلطات عليا، وكل الجبناء والتافهين الذين تحولوا إلى آلات تزرع الرعب بالليل والنهار في القرى. والمدن والأحياء والبيوت، كانوا يختفون وراء عبارة واحدة، إنها أوامر السلطات العليا، .. بأمر من السلطات العليا اضطهد المغاربـة، واغتصبت بناتهم وأمهاتهم وصودرت أموالهم وبيوتهم وأمتعتهم ومدخراتهم. باسم السلطات العليا، قطعت أرحامهم وأوصالهم وأواصرهم واجتثوا من الجذور ... باسم سلطات عليا لا أحد يسميها أو يفصح عمن يختفي وراءها44 والجميع يعرف من تكون ...
فهل يمكن بعد كل ما حصل أن يتسع القلب للصفح ؟.
يقول سعيـد بنهدي قبل أن يشرع في الحكي.
- "كم يكفي من الوقت لأستفيق من هذا الحلم الكابوس ؟
- وكم يكفي من الدموع لغسل هذا العار ؟
- وكم يكفي من المحبـة لتطهير النفوس ؟
- وكم يكفي من الوقت لنسيان الجراح ؟"15 .
ثم يفتح الأبواب والنوافذ على مصارعها لتدخل الحكايـة / المأساة كل البيوت، فينقلنا إلى الأجواء الحيـة التي عاشها رفقـة والدتـه زليخـة وأخيـه الأصغر حميـد، ورفقـة صديقـه الأعزب مصطفى ليزناسني، و الجارين عمي عبد السلام والخالـة سعيدة وابنتهما عروس المستقبل "يوم كان له مستقبل" ... ... جميل،
جميلـة تحضر بين ثنايا الحكايـة وفي كل طياتها ... كحلم جميل.
وكما هُو الشأن بالنسبـة للأحلام .. يستيقظ سعيد فيطير الحلم من بين عينيـه ويديـه، وتداهمـه كوابيسُ ضباع وغربان وأفاع وعقارب، ونحيب ونعيق ونبـاح وعواء حيواناتِ وآلاتِ الدهس والرفس والركل والكسر تدوس الأحلام والذكريات وتعض بأنيابها على أصابع وقلوب الأطفال والرضع والعجائز والمرضى..
ينقلنا بنهـدي لنعيش اللحظات السوداء لهذا الطرد الأسود، يصف (الما قبل) و(الما بعد) التهجير، و(الما بينهما) من حمم البركان الأعمى التي اندلقت على الرؤوس.
يصف قافلـة الذل وهي تسوقهم إلى الحدود كمتلاشيات ما عاد الإخوة المفترضون / الأعداء الفعليـون يرغبون فيها11.
هؤلاء الذين اتخذوا القرار، ليسوا أبناء الأمير عبد القادر ولا هم رفاق ولا إخوة جميلـة بوحريد80 .. هؤلاء من فصيلـة أخرى .. أما الذين حرروا الجزائر فلم يعد لهم مكان في الجزائر.. أو لهم فقط الحسرات التي تقطع الأكباد وبقايـا الذكريات .. لهم ركن قصي من رقعـة الوطن ليس أكبر من رقعـة "ضامـة" يتحلقـون حولها ليعضوا على أصابع الندم30.
- "اتفـو .. على الوقت"
يقول السي الخضر
- أيام العز راحت مع أصحابها .. وبقيت أيام الخنز"31
يرد عليـه السارجان عيسى ..
- "اتفـو على الجميع"... يتابع السي الخضر
- كل هذا من أجل ماذا ؟ أنا نادم على المشاركـة في تلك الحرب التي تسمى تحريرا .. تحرير ماذا ؟ .. ولأجل من .. ماذا ربحنا من تلك الحرب غير الموت .. وأطراف من خشب .. وأجسام مثقوبـة بالرصاص."32
السي الخضر الذي خاض حربين .. الأولى إلى جانب فرنسا والثانيـة ضد فرنسا .. يحاكم حرب التحرير، أو لعلـه يحاكم جبهـة التحرير، بشكل واضح وصريح.. من أجل ماذا حارب الجزائريون ؟ .. ويجيب مؤكدا ومستنكرا ومدينـا :
- من أجل أن يأتي الجنرالات ويتربعـوا على الكراسي الوثيـرة بكروشهـم ومؤخراتهم العريضـة"33.
سعيد بنهدي .. يسمع ويرى ..
سعيد بنهدي يقدم شهادتـه..فيتكلم بلسـان المغاربـة والجزائريين، بلسان المغاربـة الجزائريين عن مشاهد العار والخسـة والحقارة.
يقـول سعيد بنهدي :
"بدأ البوليس والدرك والجيش بترحيل الناس عبر أفواج، وفي حراسـة مشددة، ومن لم ينصع للأوامـر ضرب بعنف وقسوة"33
يقـول سعيد بنهدي :
"علا صوت النسـوه .. وتمسكـن بكل شيء .. بالأرض بالصخـور.. بجذوع الأشجار .. ولكن الأيدي كانت تهوي تحت ضربات رجال الشرطـة والجيش .. المتعطشين للركل والرفس بأحذيتهم الغليظـة"33.
يقـول سعيد بنهدي :
"انتشـر رجال الشرطـة عبر بيوت القريـة ... داهموا البيـوت" 34... "سنعـد حتى ثلاثـة ونكسر الأبـواب" ... كانوا يقولون.
يقـول سعيد بنهدي :
"توجـه الرجل الطويـل إلى الحجرة التي توجد فيها المرأتان ..
خذ الأم واترك لي الفتـاة ..."35... قال.
يقـول سعيد بنهدي :
"في جميع المدن والقرى كان رجال الشرطـة يجوبـون الأحيـاء والأزقـة ليلا ونهارا، ليزرعـوا الرعب في الغرباء .. وكانوا يخرجونهم من بيوتهـم كما يخرج الأنـام من قبورهم يوم الحشر .. أو كما تساق الأنعام من الإسطبلات للذبح"52..
يقـول سعيد بنهدي :
"صرخت الفتاة، والتصقت بالحائط كورقـة إعلان، رفعت ركبتها تدافع عن نفسهـا، فأمسكها وأسقطها أرضا ............ خارت قواها ..... استسلمت للوحش الأدمي ..35"
يقـول سعيد بنهدي :
"كان رجال الشرطـة والدرك يتحركـون بجنون، ويبحثـون في كل مكان، يقتحمـون الدكاكيـن، والمحلات التي يمتلكها المغاربـة، ويأخذون منهم المفاتيح .. يقفلـون الأبواب ويدفعـون أصحابها إلى الخارج39.
يقـول سعيد بنهدي :
"وقف الأطفال متباكيـن، مندهشين .. تائهيـن .. حيارى .. ينظرون تـارة إلى اليميـن وتـارة إلى الشمال .. أينحازون إلى آبائهم أم إلى أمهاتهم ؟ ..40"
يقـول سعيد بنهدي :
“ بعدما أوقف رجال الشرطة والدرك الجميع في صفين منعوا المغاربة من العودة إلى منازلهم أو أخذ أي شيء .فمنهم من أخرج في ملابس النوم.ومنهم من كان يتهيأ للصلاة . ومنهم من كان على مائدة العشاء.....
قال رئيسهم/ كبيرهم
ـ كما دخلتم هذا البلد فقراء .تخرجون فقراء
وقالت القلوب التي في الصدور
ـ هكذا حكمت الطغمة الطاغية".40
يقـول سعيد بنهدي :
"نقلنـا إلى مكان مجهـول، وحشرنـا مع عدد من إخواننا المغاربـة دون أكل ولا شرب، في مكان واطئ السقف، قليل التهويـة بلا إنارة تقريبا، شبيـه بزنازن القرون الوسطى، وآخرون حشروا في سجون مهجـورة، كان المستعمر يعذب فيها الثـوار أثناء حرب التحرير57"
يقـول سعيد بنهدي :
"لم أصدق أني أخرج من هذا البلد كما أخرج إخواننا الفلسطينيـون من أرضهم عام النكبـة 75"
ويقـول :
"كان المطردون يشكلـون موكبـا جنائزيـا .. وخيل إلي أني أساق إلى مشنقـة، قضاتهـا أبالسـة .. ومحامـوها شياطيـن مردة 76" .
ويقـول .. ويقـول .. ولا يتوقف عن القول.
سعيد بنهدي يسمع ويرى ..
سعيد بنهدي شاهد عيـان يتكلم بلسـان المغاربـة في الجزائر، يلعـن من أصدر الأوامـر بالطرد ويفضح من طبق التعليمـات الحمقاء.. وينقلـنا لنعيش معه/معهم اللحظـات السوداء لهذا الطرد الأسـود، يصف (الما قبل) و(الما بعد) التهجـير، ويصف رحلـة الجحيم في الليل البهيم، الذي خان فيه الجار الدم والملح وكشر عن أنيـاب الغدر58.
ثلاث لحظـات شديدة القوة.. شديدة القسوة، تنفطر لها القلـوب وتتفجر الأوردة..
ثلاث لحظـات من التعذيب السـادي لمواطنيـن مغاربة عزل ..
مواطنون كانوا يظنون أنفسهـم في بلدهم وبين أهليهم لاعتقادهم بأن كل "بلاد العرب أوطاني*».. فإذا بهم مجرد غربـاء، رغم توفرهم على كل الوثائق القانونيـة التي تعطيهـم مشروعيـة الوجـود فوق تلك الأرض وداخل تلك البيـوت وبتلك الأحيـاء وتلك المـدن والقرى، لقد أصبحوا يعيشون كمهاجرين سرييـن يخشـون ضوء النهار .. يتجنبـون الأماكن العامـة ويهربـون من سيارات الشرطـة22، يتكلمـون همسـا .. أو بغمـزات العيـون .. هكذا صاروا حين أخذت الإشارات تتواتر عن قرب الترحيـل.
ترقـب و توتـر، قلق الما بين التصديق والتكذيب واليأس والرجاء. شك فيما يقـال واستغراب لما قد يحصل .. أحقـا يمكن للأخ أن يطرد أخاه53؟ ! أحقـا سيغادرون هذه الجدران، وهذه الأشجار وهذه الأحياء والمقاهي والهواء والبحـر، يغادرون الأمهـات والأبناء، ويغادرون الشهداء وقبـور الأجداد23 .. يغادرون الحبيبـة .. لأنها من والدين جزائريين ولأنهم مغاربـة.
هي لحظـة أشبـه ما تكون بالومضـات الجارحـة، لحظات اجتزئت من ذلك الزمـن البغيض، الذي أخرج فيه العرب من الأندلس، ورحل الفلسطينيون من حيفـا75، وسيقـت قوافل المبعدين إلى جحيم الكولاغ. وكانت فيه الغيسطابـو تملأ الشاحنـات ببني آدم لتقودهم إلى حتفهـم مرغميـن غير مباليـة ببكاء أو جوع أو عجز أو صراخ66.
قد تبدو المقارنـة غير موضوعيـة. خاصـة بين تواريخ وأزمنـة مختلفـة ومتباعدة، في الدلالـة والعمق والامتداد .. ولكن تجربـة الألم واحدة، وتجربـة الاقتلاع من الجذور واحدة، وتجربـة العزلـة في مواجهـة الضواري والوحوش الأدميـة واحدة. هي التجربـة نفسها رغم اختلاف الزمـن والظروف، بالمقدار نفسـه، والوقع نفسـه .. والألم العظيم أيضا.
لحظات تختزل عشرات السنوات من أحقاد حولت صفحـة سماء الأخوة الصافيـة إلى شظايا راجمـات تتساقط على ضحايا لم يعد لهم سقف يحمي الرؤوس ولا أرض تمشي فوقهـا الأقدام والأحلام.
دوهمت البيـوت وأخرج الناس من ديارهم يوم عيد النحر، تركوا الأضحيات معلقـة55، وتركوا الدور خاليـة في بلد ساهموا في تحريره، ذنبهم أنهم شاركوا وطنهم فرحـة استرجاع الصحراء فوجد الجار في فرحهم ما ينكأ جراحا قديمـة ويوقظ آلاما وإعاقـات وأعطاب نفسيـة لن تلتئم أبد الدهـر( نحن دائما في 1975)
فما أقسى أحكام الجغرافيـا.
إذ يمكن أن نغير كل شيء إلا الجغرافيـا.. لأن الأرض تبقى دائما في مكانها .. ولا يمكن لأي شعب أن يحمل أرضـه على ظهره ويرحل مبتعدا عن جار لا يرعى حرمـة الجوار والتاريخ المشترك.
تكاد تكون هذه بعض تأملات سعيد بنهدي في الوقائع التي وجد نفسـه أسير مجرياتها .. وإن لم يكن يجهر بها، فهي في كل ثنيـة من ثنـايا المشاهد التي يعلن فيها إذانتـه لفضيحـة الطرد. لقـد أحسن الكاتب المبدع معمـر بختاوي فعلا الاختيـار، حين وزع الحكايـة على هذه اللحظـات الثلاث، إذ أنه بذلك التقط المفاصل الأساسيـة لهذا الحدث الصادم.
قلق ما قبل التهجيـر – جحيم التهجيـر – خيبـة المهجريـن تلك الخيبـة الباردة، التي جعلتهم يتعلقـون بكل الوجـوه.. ويعلقـون الأمل على أي حل .. حسب حظ كل أسرة منهم.
يقـول سعيد بنهدي :
"نسينـا كما ينسى المتاع الرخيص في بيت مهجـور، والمحظوظون منا وجدوا عملا في أدنى السلالم، أو اشتغلوا حراسا ليليين .. والقليل منهم حاز على عمل وسكن وظيفي في المدارس التعليميـة أو الشبيبـة والرياضـة أو التعاون الوطني.. والحاصلـون منهم على شهادات تخندقوا مع جيوش العاطليـن"87.
سيـذوق سعيـد مرارة أن يكون الإنسـان من لا مكان، بلا هويـة ولا أرض، هو الذي كان بأرضيـن وجنسيتيـن. فهناك قيل له أنت .. من هناك، وهنا يقال له أنت من هناك وليس هناك هنا .. ولا هنا هناك .، فلا أنت من هنا ولا أنت من هناك .. ففي الجزائر كان مهاجرا من المغرب وهو في المغرب مهاجر من الجزائر.
يقـول سعيـد :
- "سألني مصطفى ..
- هل كتب على جباهنا أننا مهاجرون ؟
أجبتـه
- كتب عليـنا الطرد من بلد .. والتشرد في بلادنا"88
لحظات سوداء ..تتخللها انفراجات صحو، وفجوات ضوء وهواء .. فجوات بين غمـام المحنـة وغمتها، تطل منها شمس ويطل منها قمر، فعلى الأقل قد تبتسم الشمس وقد يبتسم القمـر لهؤلاء المهجرين قصرا بعد أن كشر العسس والحرس على أنيابهم وحرموهم الماء والهواء والسجائر والكلام ... شحنوهم كما تشحن البهائم والقـوا بهم على الحدود كالمجذومين..
وإن يكن ..فعلى الأقل قد تبتسم شمس لهم ويبتسم قمر.
" جاء الناس من مدن مختلفة لاستقبال أحبائهم الذين عادوا خائبين مدمرين...يائسين وفي عيونهم اشتياق ولوعة إلى معانقة إخوانهم وأحبتهم الذين لم يروهم منذ زمن طويل.."82
يقول سعيد:
"وجدنا الشاي والخبز الساخن في انتظارنا..."82
فليكن ...ف " ريحة البلاد وكأس شاي مع الأحباب " شمس تدفئ القلوب وقمر يرحب بالعائدين.