يشتغل إبراهيم موظفا لدى الحكومة منذ عقود، راتبه الشهري لا يكفي لتغطية حاجيات عشرة أيام من الأكل والشراب، أحس خلال هذه المدة أن أيامه تمر بدون معنى، ولا يدري أين ستنتهي، و كيف؟ و متى؟ صدره يعج بمئات الأماني التي لم يتسن له تحقيقها، لم يصدق حين تناهى إلى مسمعه نبأ قبول طلبه للاستفادة من المغادرة الطوعية و قد أصبحت بين يديه عشرات الملايين، شعر لحظتها أنه بحاجة إلى أن يخلو بنفسه فترة يلامس فيها أحلامه التي كانت منتعشة تداعب مخيلته، مسح بيديه عرقا باردا تصبب من وجهه، نفذت نظراته في عمق السماء شاكرا الله، تولدت لديه رغبة التشبث بالحياة، أحس أنه استعاد شبابه، تفرغ له، صار يلبس و يصفف شعره على شاكلة شباب هذه الأيام، يمشي في الأرض مرحا مزهوا، غير أن مشكلته المؤرقة تكمن في زوجته رقية، أصبحت لا تناسبه في وضعه الحالي، فقد غزا الشيب شعرها، وعروق وجهها ، وظهرها تقوس واحدودب، وما عادت ساقاها تقويان على حمل جسدها النحيف.. صارت تصرخ من شدة الألم الذي يسببه لها داء الروماتيزم المعشش في العظام.
ناداها إبراهيم فأجابته ساخرة: ماذا يريد مولاي المليونير الشاب ( شبيك لبيك) ، رد عليها: ألم يحن بعد وقت مغادرتك لي مقابل بضعة ملايين؟ نظرت إليه نظرة طويلة كأنها تودعه، وقلبها الفولاذي الهائل يمتلئ كبرياءا و حزنا، زفرت زفرة ازدراء بعد أن التقطت آخر نفس لها. ثم خرت على الأرض ميتة.
تزوج إبراهيم بعدها بفتاة شابة. تمتلك كل المواصفات التي يحبها، فتاة تعشق الحياة، أتت على ما كان بحوزته من ملايين خلال أشهر قليلة، ثم ألقت به إلى الشارع، يفترش الأرض و يلتحف العراء.... لم يصدق مرة أخرى أن هذه التي تصرخ في وجهه وتوبخه على عدم استيقاظه من النوم في الوقت المعتاد، و على تأخره عن موعد عمله، هي زوجته رقية، و أن ما عاشه قبل أن توقظه كان حلما جميلا انتهى بكابوس، قام و هو يرتجف كمن مسه تيار كهربائي.. عانق رقية و ضمها إلى صدره بقوة كما كانا يفعلان عندما كانا شابين. تركها مشدوهة غير مستوعبة ما يجري، ثم انطلق يسابق خطاه...