ثمة تصوّر وجد القبول في الأوساط الأَدبيّة ، هو إِنَّ الأَدب صورة لثقافة كاتبه ، ومعاناته وآلامه وآماله ، وَإِنَّ الثقافة والمعاناة تُمرّر في النصوص الأَدبيّة لا شعوريّاً في الأَعمّ الأَغلب ، وهي ترتدي الزّيّ الجماليّ والبلاغيّ ممَّا يعطي الخطاب الصبغة الإبداعيّة ، وقد تجيء عبر القناع أَو أَصوات أُخرى يبتدعها الكاتبُ . لكن هذا لا يعني أَنّ النصَّ الإِبداعيّ مرآة تعكس بالضرورةِ تجربة صاحبه ، فرُبّما يأتي النصّ تعبيراً عن تجربة أُسطوريّة أَو خياليّة أَو شعبيّة أو اجتماعيّة ، أَو غيرها من التجاربِ التي يختزلها ذهن المبدع . ويبدو أَنَّه من المُسلمات الآن أنّ الإبداع ولاسيما السرديّ منه لم يكن البطلُ صورة مماثلة لكاتبه ، بل من الخطأ التأكيد على أَنَّه مرآة لصاحبه ونفسيّته .
القصة التي نروم قراءتها بُنيت على حوارٍ بين شخصيتي المرأة وزوجها " حبيبها " مع توظيف تقنية المونولوج في نهاية القصة ، وقد كان الحوار جريئاً من قِبل المرأة ، وليس كما هو المعتاد في التقاليد بِأَنَّ يبقى صوت الأنثى مخنوقاً مؤدباً ، فقد ( أَمّنت سيطرة الرجل مناخاً إيديولوجياً للإذعانِ ، فهناك مشرعون وقساوسة وفلاسفة وكتاب وعلماء كدّوا ليظهروا أَن وضع الخضوع من المرأة مرغوب في السماء ومفيد في الأَرضِ )[1] ، مهما يقع عليه من حيفٍ وظلمٍ وانتهاك . كانت المرأة " البطلة " ذات صوت يصدح بمعاناتها وآلامها التي غشيها الكبت ردحاً طويلاً من الزمن ، وقد آن أوان البوح والتصريح بتلك المعاناة المريرة ، وفوق ذلك مجيء التحذير للرجل عبر المونولوج : ( أحذرك أن تتركني وراءك كنعلك القديم ، وتبحث عن اللذة في أحضان امرأة غيري! لأنك لو فعلت فلعنتي ستلاحقك مدى عمرك الباقي، ولن ترى السلام وستشقى وتحترق بلهيب ظل نظارتي..! ومع الأيام ستتلاشى مثل شمعةٍ أضيئت في عتمة الشتاء ، لتتجمد بعدها بصعقة برقٍ تضيء طريق التائهين العابرين للقاء أحبتهم و تطويقهم بين أحضانهم من البرد القارس ! ) ، لكنّه يفهم التحذير وصدقها ويشعر بمرارتِها ، فيغيّر رأيه ويحتضنها ويهمس لها بالبقاء .
المفارقة بين صوت المرأة والرجل :
الأُنثى / البطلة ذات عطاء لا حدود له ، فقد وهبت الرجلَ القلب والروح ، وجعلته نبراساً لأَحلامها ، وبالرغم من هذا العطاء يجابهها باللعنة على معرفتها ، وقد وصمها بالجهل ، ومن كثرة هذه اللعنة على لسانه أصبحت هواية مفضلة له هي ذمّها والسخط عليها ، فتقول : ( صارت هوايتك المفضلة ؛ لعن الحبّ الذي جمعني بك. وتتمتمُ في كلّ يوم ، سحقاً للقلب الذي تنغم بترانيم المغرمين ) فمع هذا البوح ، وكسر حواجز الكبت السلطويّ ، وبيان مواقفه السيئة ، يقاطعها بلغة حادة تنم عن اللامبالاة بصوتٍ خفيضٍ فلا يعنيه إن سمعت أو لا ، ويخبرها بما في قلبه ، فعطاؤها الكبير لا يقابل إلا التمويه والوهم وعدم الاطمئنان ، فها هو يصف الحبّ ببيتٍ ( من رمال ، أساسه من طين ، و سقفه من قصب ، وجدرانه من ورق ، وحين هبت زوبعة شرقية خفيفة ، انهار بسرعة ) . المرأة كما يرى الأدب النسويّ لم تعد خاضعة بكلِّ شيء ، وَإِنَّما تمتلك من قوة الردّ والحجاج ، وتفنيد ما يطرحه الرجل في خطاباتِه ، لذا تقول البطلة ( لم ينهار بيتنا ؛ بل الذي انهار هو إحساسك نحوي ، تلاشى مع الأيام ) ، فلم تبقَ صامتة خاضعة لما يسرد ، ولهذا ترى " ماري إيجلتون " أَنَّ الأدب النسويّ ينبغي أَن ( يعكس واقع حياة المرأة بشكلٍ صادقٍ بقصد زيادة وعي المرأة وَإيجاد رابطة قوية تخلق نوعاً من الأخوة في المجتمع النسائيّ ) . تتضح المفارقة هنا ، فضلاً على جرأة المرأة ، ووقوفها بوجه الخطاب المتسلط وبيان مساوئه وعيوبه ، وتعود البطلة إلى إيصال المفارقة في التعامل بينهما ، وكيف استطاع هذا الرجل المستبد تحويل المرأة / الحبيبة إلى أسيرة ، ( توجتك ملكاً على عرش قلبي وحولتني إلى أسيرة في قفص اتهاماتك السخيفة ! ) ، وتناجي البطلة نفسها موضحة موقفها منه ( كنتُ دوماً أقول إن داخلي شعلة من الودّ نحوه لن تنتهي إلاّ بنهاية العمر، ويستوطنني ريحان مزهو بأريج نسيم الافتتان ، و يسري في حناياي كالعسل المحلى ، وموته محال..! ) ، هذا جانب البطلة أما هو فقد كانت له نظرة مختلفة تمام الاختلاف ، مؤلمة غاية الألم ، فتذكر وصفه لها : ( يا لك من سمينة ، زوجات أصدقائي كلهن نحيفات بينما أنت أشبه ببهيمة ، يا لسوء حظي تزوجت بآكلة اللحوم ! وحين أسرّح شعري تقول إنَّ الشيء الوحيد الجميل فيكِ هو خصلات الشيب.. وحين آكل ، تقول إنني أفترس الطعام بشراهة ولا أراعي وضعك المادي ، ويا لك من مسكين تعمل من أجل إطعام غولة لا تتوقف عن الأكل.. ) فالمفارقة واضحة لا ريب في تعامل الجنسين ، رجل متسلط امرأة مغلوب على أمرها ، لا تملك حقّ الرفض والاعتراض سوى الدموع .
المرأة وصفت الزوج بوصف سيء ، لكنّه في السياق تجاوز دلالاته المعجميّة ، وذلك حين وصفته بالفيروس ، وَإِنَّمَا أَضفت عليه صفة حسنة من جانب الرجل الغيور ، ( لم أعد قادرة على محوك من ذاكرتي فقد استوطنت داخليّ كالفيروس ) ، فالدلالة الكلّيّة للعبارة تشير إِلى تمكن حبّها الجنونيّ من عقلها فلم تعد بأَيّ حالٍ من الأَحوالِ قادرة على التخلصِ منه أو مسحه من الذاكرة ، ومن هنا فوصفته بالفيروس .
ثمة فرق آخر في التعامل ، البطلة كان تعاملها روحيّاً ونفسيّاً ومشاعر والعواطف مع الزوج ، وهو ينظر لها نظرة جسد ليس إلا ، فخطابها كان وصفاً للمجرد والأحاسيس ، وهو ذو نظرة ماديّة دونيّة ، هي جعلته تاجاً وملكاً على عرش القلب ، وهو يصورها غولة ذات شعرٍ أشيب ، شاركته في أحلامها وهو ينظر إليها بأنها عالة عليه ويودّ التخلص منها ، وهنا يمكننا القول إِنّ الصورة البشعة التي ألصقها بالبطلة ، مستخفاً بما تحمله من مشاعر إنسانيّة وعواطف ، إِذ كان تعامله معها على أَنّها جسدٌ لا يفقه شيئاً ولا يستحق من العناية أدنى رأفة ، وهذا يسوغ خلو عيون البطلة من الدمع لكثرة بكائها .
أَمّا على مستوى اللغة الأَدبيّة فقد كانت اللغة التي استعملتها البطلة أكثر أدبيّة وأكثر جماليّة وانحرفاً عن المعيار اللغويّ منه قولها ( حطمت الآمال التي نسجتها معك في أحلامي [...] يستوطنني ريحان مزهو بأريج نسيم الافتتان ، و يسري في حناياي كالعسل المحلى ، وموته محال ) . وخطابه كان مائلاً نحو السخريّة والاستهزاء وإقلال الشأن ، فلم يعاملها كإنسان وَإِنَّما كجسدٍ غير مرغوبٍ فيه ، ومنه قوله ( أنت أشبه ببهيمة ، يا لسوء حظي تزوجت بآكلة اللحوم ! ) ، وتسعى الكاتبة إلى إضفاء بعض الجماليّة والعلوّ إِلى قامتها على صعيد اللغة الأَدبيَّة أَيضاً ، وجعل خطابه قريب من لغة العامة .
حضور الأَطفال :
لم يكن حضور الأَطفال في القصة عبثاً ، وَإِنَّمَا لتوضيح الجانب العاطفيّ الكبير في تركيبة المرأة الأُم وعلاقتها الشديدة بالأَولاد ، أما الرجل فلم يرعَ انتباهه الأَطفال ونظراتهم الذليلة المتكسرة ، فتضحي المرأة بما مرّت بها من ظروف من أَجل أولادها ، ( التف الصغار بها ممسكين بأناملهم ثوبها ، آملين لو تمنعه ، فكم من حبّ مات واستمرت الحياة ! فربما يعود يوماً ما ليسكن الضلوع على غفلة ويكتم الأنفاس ) ، هذا المشهد الحزين الطافح بالعاطفة بالتأكيد له أَثره الكبير في نفسية الأُم ، فينتصر الأولاد في الأخير مؤثرين في قرار الأم ليتمّ مشوار الحياة.