يعد الشاعر ابن زيدون من الشعراء الذين لمع نجمهم في سماء الشعر العربي في الأندلس، و من أكثرهم إثارة للجدل، خاصة إذا أدرجنا تجربة هذا الشاعر في إطار الصراع الذي كان قائما بين المراكز الأدبية و الثقافية في الحضارة العربية القديمة ، فالمشرق العربي عرف نهضة أدبية غير مسـبوقة في العـصر العباسي ساهم فيها شعراء كبار أمثال أبي تمام و البحتري و المعـري
و المتنبي ، و في الأندلس عرفت الحركة الأدبية أزهى عصورها في الفترة المعروفة بعهد
" ملوك الطوائف" إذ سطعت شمس مجموعة من الشعراء كابن زيدون ( 394 ـ 463 هـ )
و المعتمد بن عباد و ابن خفاجة ( 450ـ 533 هـ ) و لذلك فإن نزعة الريادة و السبق قد طغت على الفكر النقدي و الإبداعي لبعض المشارقة، و في نفس الإطار هيمنت فكرة التحدي و إثبات الذات على الكثير من الأندلسيين و المغاربة. و إذا كانت الشخصية الإبداعية للشاعر ابن زيدون قد قادته إلى رسم طريق إبداعي خاص استلهم التجربة الشعرية لمن سبقه من شعراء، و متح من معين الخصوصية الأندلسية، و مسارها الإبداعي فإن تجربة هذا الشاعر قد أثارت اهتمام النقاد القدامى و المعاصرين، فتتبع بعضهم ألفاظ و معاني شعره، و بحث في أصولها، و استخلص من مقارنتها بأشعار المشارقة و جود تشابه كبير بينها ، غير أن الحكم النقدي المستخلص من هذه المقارنة لم يكن واحدا، فمن النقاد من اعتبر أن التشابه بين الأشعار و طريقة نظمها ظاهرة عادية عرفها الشعر العربي في مختلف العصور و الأقطار، بل منهم من عمل على البحث في مظاهر الابداع و التفرد في شعر ابن زيدون، باعتباره شكلا من أشكال التحدي التي دأب عليها مبدعو الأندلس بعد نضج شخصيتهم الإبداعية، و قد تبنى مصطفى عليان عبد الرحيم الموقف القائل بتحدي الأندلسيين للمشارقة حين اعتبر أن شعراء القرن الخامس في الأندلس قد " أرادوا لشعرهم أن يسمو للمقام الذي وصل إليه نظيره المشرقي، و أن يكون عملهم تذكيرا للأندلسيين بالإقبال على شعرهم الذي يحمل ملامح بيئتهم بالإضافة إلى تخليد شعرهم و حفظه " تيارات النقد في الأندلس ـ مؤسسة الرسالة ط 1 ـ 1989
غير أن نقادا آخرين قد استخلصوا من تشابه شعر الشاعر مع شعر شعراء سابقين، أن ابن زيدون لم يكن إلا شاعرا متبعا لا مبدعا، و أنه مجرد ناقل لألفاظ و معاني الآخرين، خاصة منهم البحتري، و لذلك استحق لقب "بحتري المغرب "
لنتأمل في البداية الآراء النقدية الواردة في بعض المصادر الأدبية القديمة، قبل أن نتابع الجدل القوي بين بعض النقاد المعاصرين حول هذا الشاعر.
فإذا تصفحنا المصادر النقدية القديمة التي تناولت أدبيته نجد أنها تجمع على نبوغه في الشعر و النثر، نمثل لها بما ورد في كتابين مهمين من كتب النقد الأندلسي هما كتاب" قلائد العقيان و محاسن الأعيان " للفتح بن خاقان الإشبيلي المتوفى سنة 529 هـ ، و كتاب " الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة " لابن بسام الشنتريني ( 542 هـ ) ، فالفتح في القلائد قد ترجم لابن زيدون بما نصه: " زعيم الفئة القرطبية، و نشأة الدولة الجهورية، الذي بهر بنظامه، و ظهر كالبدر ليلة تمامه، فجاء من القول بسحر، و قلده أبهى نحر، لم يصرفه إلا بين ريحان و راح، و لم يطلعه إلا في سماء مؤانسة و أفراح، و لا تعدى به الرؤساء و الملوك، و لا تردى منه إلا حظوة كالشمس عند الدلوك، فشرف بضائعه، و أرهف بدائعه و روائعه، و كلفت به تلك الدولة، حتى صار يلهج بلسانها، و حل من عينها مكان إنسانها ... " [ القلائد ص 209] فالفتح في هذه الترجمة يشير إلى الدور الريادي الذي لعبه ابن زيدون في نشأة مملكة بني جهور في قرطبة، إلا أن المهم فيها هو إعجابه و تأثره الكبير بأشعار ابن زيدون " المبهرة و الساحرة "، و لذلك هو يعتبر أن القصائد و المقطوعات التي أورها في كتابه لابن زيدون " أرق من النسيم، و أشرق من المحيا الوسيم " [ ص 216 ]، و الفتح في هذا المجال يشير إلى خاصيتي الرقة و الإشراق اللتين تميزان شعر الشاعر، و قد استعان في إبراز انطباعه هذا بالمعجم الطبيعي المحسوس: النسيم، المحا الوسيم. و يعتبر صاحب القلائد أن نونية ابن زيدون الشهيرة " قصيدة ضربت في الإبداع بسهم، و طلعت في كل خاطر و وهم، و نزعت منزعا قصر عنه حبيب و ابن الجهم " [ ص 245 ] و هي إشارة إلى أن الشاعر في النونية قد اتجه وجهة تميزها عن مذهب الصنعة الذي تزعمه حبيب بن أوس الطائي/ أبو تمام و مذهب الطبع الذي يمثله أبو الحسن علي ابن الجهم، و هذا الاتجاه سمح لها بالتفوق ـ من منظور ابن خاقان ـ على المذهبين معا.
أما إذا انتقلنا إلى كتاب الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة، فإننا نجد أن ابن بسام المعروف بنزعته الأندلسية قد احتفى بالشاعر ابن زيدون احتفاء كبيرا فهو عنده قد " وسع البيان نظما و نثرا إلى أدب ليس للبحر تدفقه، و لا للبدر تألقه، و شعر ليس للسحر بيانه، و للنجوم الزهر اقترانه، و حظ من النثر غريب المباني، شعري الألفاظ و المعاني " [ الذخيرة: ص 336 ] ،و أضاف " فأما سعة ذرعه، و تدفق طبعه، و غزارة بيانه، و رقة حاشية لسانه، فالصبح الذي لا ينكر و لا يرد، و الرمل الذي لا يحصر و لا يعد " [ الذخيرة: 339]، إن الحديث عن البيان في شعر و نثر ابن زيدون فيه إشارة إلى ما يتميز به من تدفق في الطبع، و عدم التزام السجع و الازدواج، رغم ميله لاستعمالهما، و توظيف للغة مستأنسة تمكن من الدلالة الواضحة عن المعنى الخفي، و يقول عما اختاره لابن زيدون من أشعار و منثورات " و قد أخرجتُ من أشعاره التي هي حجول و غرر، و نوادر أخباره التي هي مآثر و أُثر، و رسائله التي أخرست ألسنة الحفل [ و استوفت أمد المنطق الجزل، ما يسر الآداب و يصورها، و يستخف الألباب و يستطيرها] " [ الذخيرة: 339]
و من الملاحظ أن صاحب الذخيرة قد عقد مقارنات بين شعر ابن زيدون و شعر سابقيه من المشارقة وخاصة منهم البحتري، لكن هذه المقارنات لم تكن بغاية إثبات فضل السابق على اللاحق، أو تقرير أن هذا قد أخذ من ذلك، بل هو يقارن بناء على تصوره النقدي العام المتمثل في تتبع المعاني المستحسنة، يقول في هذا الشأن: " و إذا ظفرت بمعنى حسن، أو وقفت على لفظ مستحسن، ذكرت من سبق إليه، و أشرت إلى من نقص عنه، أو زاد عليه، و لست أقول: أخذ هذا من هذا قولا مطلقا، فقد تتوارد الخواطر، و يقع الحافر حيث الحافر، إذ الشعر ميدان و الشعراء فرسان. " [ الذخيرة: 18 ـ 19 ]، إلا أنه في الأخير قد استساغ إطلاق اسم "بحتري المغرب " على ابن زيدون عندما قال: " و يقول بعض أدبائنا إن ابن زيدون بحتري زماننا، و صدقوا لأنه حذا حذو الوليد " [ص 379 ]
من خلال كا سبق تأكد لنا أن النقاد الأندلسيين القدامى كانوا معجبين بمكانة الشاعر ابن زيدون و بقيمة شعره، معتبرين إياه مفخرة لبلاد الأندلس، يمكن مباهاة المشارقة بما أبدعت قريحته من شعر و نثر.
أما إذا انتقلنا إلى الباحثين المعاصرين الطامحين إلى إعادة النظر في التراث الإبداعي العربي القديم فقد تعددت آراؤهم، حول شاعرية هذا الشاعر، حيث تذوق بعضهم في شعره شخصية الشاعر المبدع، فهذا علي عبد العظيم محقق الديوان يقر بأن ابن زيدون " يعد في الرعيل الأول من شعراء العربية في جميع المواطن و الأزمان، و مكانته في النثر قريبة من مكانته في الشعر، فاستحق أن يجذب إليه قلوب الأدباء في عصره و ما تلاه من عصور " [ مقدمة الديوان: ص 9 ـ 10 ] بينما رأى فيه آخرون مجرد شاعر متبع لمسار شعراء سابقين، هكذا وجدنا عددا من الباحثين يعودون إلى أوجه الشبه بين شعر ابن زيدون و شعر البحتري، فهذا كرم البستاني في تقديمه لديوان ابن زيدون يقول: " كان ابن زيدون كاتبا و شاعرا، و كان يلقب ببحتري المغرب تشبيها له ببحتري المشرق في روعته و ديباجته و سمو خياله، و حسن فنه " إلا أن البستاني قد سجل أن ابن زيدون يتميز عن البحتري بجمال الطبيعة و إشراكه إياها في شعوره و لواعجه، شوقه و ألمه مع فراق ولادة، كما يتميز عنه بنعومة غزله و براعته في تصوير اختلاجات نفسه، و لوعته و مزجه الغزل بوصف الطبيعة، غير أن البستاني يرى أن ابن زيدون لم يكن مبتدعا في قصائده المادحة، التي غطت مساحة كبيرة من ديوانه.
و يعد شوقي ضيف من أكثر النقاد المعاصرين طعنا في شاعرية ابن زيدون إذ رأى أنه شاعر يخلط بين مذاهب العباسيين من صنعة و تصنع من غير طريقة مرسومة و لا خطة مدفوعة، و صورة معانيه هي الصورة العباسية" معتبرا أن من يتابع شعره يشعر أنه يكاد يسقط من ديوانه إلى أمكنته من شعر العباسيين، و مبرزا أن الشاعر لا يختار له نسقا معينا يعيش فيه، بل هو يعيش في كل نسق يقرؤه، فتارة يعيش في جو البحتري و أخرى في جو أبي تمام أو المتنبي أو أبي العلاء من غير تفريق بين هؤلاء الشعراء، و معرفة أن كلا منهم يمثل مذهبا خاصا به " ( الفن و مذاهبه في الشعر) غير أن شوقي ضيف قد عاد في موضع آخر ليقر بشاعرية ابن زيدون حين قال: " و كان ابن زيدون يحسن ضرب الخواطر و المعاني القديمة و الموروثة في عملة أندلسية جديدة فيها جمال الفن و بهجة الشعر " ( ابن زيدون .. )
و قد تكفل د. عباس الجراري في كتابه " فنية التعبير في شعر ابن زيدون بالرد على مزاعم ضيف السابقة معتبرا أن فيها نوعا من التحامل ( ص 73 ) مسائلا إياه " متى كانت تلك المذاهب [ مذاهب شعراء المشرق]مقياسا لازما لفنية الشعر ؟ و هل نستطيع أن ننكر ما يتميز به الشعر الأندلسي من رشاقة و انسياب و جمال في الصياغة؟ بل هل نستطيع أن ننكر ما يتميز به الشعر الأندلسي من رشاقة و انسياب و جمال في الصياغة؟ بل هل نستطيع أن ننكر أن هذا الشعر ينطلق من العاطفة و لا ينطلق من مجرد المهارة الصناعية؟ و يضيف الجراري مبررا التشابه القائم بين أشعار ابن زيدون و سابقيه من شعراء الشرق قائلا إن هناك حقيقة في تاريخ الشعر الأندلسي و المغربي عامة، و هي" أن الشعراء كانوا مغرمين باقتفاء قصائد المشارقة و معارضتها، و لكن هذه الحقيقة لا تعني أنهم يقصدون إلى التقليد، كما فهم ذلك نقاد و مؤرخو الأدب في المشرق بقدر ما كانوا يقصدون إلى التحدي، و إظهار القدرة و البراعة، و بهذا يجب أن يفسر كذلك تلقب شعراء أندلسيين بأسماء شعراء مشارقة كتلقب شاعرنا ببحتريها، حقا لقد كان ابن زيدون كذلك، ربما لالتقائه مع الشاعر العباسي في مجال العناية الفائقة بالموسيقى والصياغة، و إن لم يبالغ شاعرنا في استعمال المحسنات و لم يتكلفها، و لكن الذي لا شك فيه أنه كان يفوق البحتري بقوة العاطفة و صدقها و بغنى التجربة الحياتية عامة ( فنية التعبير في شعر ابن زيدون 74 ـ 75 )
و في الختام يمكن القول إن الحكم على شعر شاعر لا ينبغي أن تحكمه بأية حال نزعات إقليمية، بل الأولى أن يعتمد على الذوق الفني للمتلقين، و الدراسة المتمعنة للمقومات الجمالية للإبداعه، و لعل قراءة متذوقة و متمعنة للكثير من قصائد ابن زيدون تؤكد أن هذا الشاعر واحد من الشعراء العرب الكبار، لا تنقص قامته الفنية عن قامة الكثير من الشعراء الذين نصنفهم عادة ضمن الشعراء الفحول.