" سفر الروح " مجموعة قصصية من عشر قصص، للقاص سعيد كريمي، صدرت في طبعتها الأولى سنة 2010 عن مطبعة ألطوبريس بطنجة في سبعة عشرة و مائة صفحة من الحجم المتوسط، زُين الغلاف بلوحة للفنان سعيد نجيمة: و كتب اسم القاص في الأعلى بالأبيض فوق فضاء سديمي قرمزي ، وأسفل ذلك جدار طيني تطل من أعلاه أربعة رؤوس نكرة :أصفران و أخضران، و أعلى الجدار أثر ثلاثة كفوف ترابية اللّون أسفلها عنوان المجموعة " سفر الروح " بلون بني، و هو غير مرتبط بنص، أو مستخلص منه ، و إنّما ينفتح على تأويلات شتّى..و قراءات مختلفة .. أسفل منه كرة كريسطالية Boule de cristal كالتي يستعمها السّحرة ، يعتليها لون أحمر، و في أسفلها راقصون لرقصة أحيدوس بجلابيبهم و عمامتهم البيضاء، أسفل من ذلك، و بلون بني و فوقه لون أصفر ،كتب " قصص و بورتريهات " و على الجانب الأيسر كتب توقيع الفنان بالحروف الفرنسية NJIMA بينما في ظهر الغلاف على اليمين كتب مقطع من قصة : "حرقة الوجود" ، بالأسود فوق بياض ، بينما وُضعت صورة القاص و ثلاثة من كتبه أسفل منها فوق لون أصفر داكن . و لعلّ اللّوحة و اختيارها يرتبط بوضعية المكان مسرح النّصوص العشرة : فاللّون البنّي الطيني رمز لبناء الدّور و القصور في الجنوب، و الوجوه الأربعة المطلة من أعلى السّور تشير إلى خبايا و أسرار ما خلف ذلك، و الذي توضح بعضه نصوص المجموعة ، و الأفق السّديميّ الذي يعتليها ، انعكاس للانحصار و الاختناق في زمن لم يعد مُجتمع القصور يُعيأُ به ، و كأنّه مجتمع خارج الخريطة ، أو على هامشها ، أمّا رقصة أحيدوس في وسط الغلاف، رمز للتراث الذي كانت و ما زالت تحافظ عليه القصور الطينية في الجنوب ، رغم ما تعرفه من إهمال، و ما يعانيه أهلها من تهميش و لامبالاة .فالغلاف اختير بعناية فائقة ، فهو صورة عاكسة و معبرة .
تنصبّ هذه الدراسة على نقطتين هامتيــــن :
1 ــ سلطة السّــــــارد .
2 ــ غوايـة السّـــــــــرد .
فبالنسبة للنّقطة الأولى : نلاحظ أنّ المؤلف منح السّارد سلطة مطلقة ،حين جعله سارداً عليماً Omniscient و مهيمنا ً.. و هو الشّائع في أنواع السّارد ، و الأكثر تطبيقاً و بساطة ..و أخطرها توظيفاً و استعمالا .. لأنّه في الغالب : يتحدث كثيراً ، و يقول كلّ شيء ، و لا يترك مجالا للتّأويل، و تعدّد القراءات ...و بخاصّة إذا وُظف توظيفاً لا يراعي المتلقي المفترض. علماً أنّ متعة القراءة، تكون حتماً ،فيما يستنبطه القارئ، و ما يستوحيه من النّص من رؤى و أفكار ، بل ما ينبثق أمامه ــ من خلال القراءة ــ من تجليات ، و أحلام، و تخييل Fiction....
1 ــ سلطة السّارد في نصوص المجموعة :
1 ــ 1 تداخل التّعليق و الحكي : هناك تداخل بين ما هو تعليق خالص ، و ما هو سرديّ حكائيّ . و هي مزاوجة ينبغي ألا تحدث . إلا إذا كان السّارد مهيمناً فإنّه يسمح لنفسه أن يقول كلّ شيء ، و لا يراعي الحدود المانعة ، و لا يحترم فطنة و ذكاء المتلقي . كما هو الشّأن في هذه الفقرة من (أنتعلُ دائماً رقم 44) : " نشأ بين إخوته و أخواته تحت عتبة الفقر، و عانى الحرمان من كلّ شيء . فأبوه خمّاس لعائلة محظوظة نوعاً ما ، استناداً إلى مؤشر الغنى و الفقر في بلدته ، الذي لا يمكن أن يؤخذ به، و لا أن يقاس عليه، إذ إنّ الغنى في هذه البلدة، لا يتجاوز سقفه الحدّ الأدنى للأجور وطنياً ! فالبلدة إذاّ بكاملها فقيرة إلى ربّها، بل معدمة ! " ص4
1 ــ 2 التّعليق التّساؤلي المباشر : و هذا أيضاً من خصائص السّارد المهيمن العليم ، إذ يعلّق على الحدث و يبدي وجهة نظره كوصاية على فهم القارئ و مدى استيعابه .بل هي وصاية تامّة على التّوجيه العام الادراكي ، و عدم ترك فجوة ما لقراءة مختلفة ، أو تصور خاص .. و هذا ما نلمسه في نص ( حرقة الوجود ) " ما ذنب هذا الطفل البرئ، لكي يتجرع كلّ ألوان البؤس و القسوة و المهانة ؟لماذا قذف به أبواه إلى جحيم الحياة و شقائها، و تواريا في بطن الأرض التي لم تقبل به فوقها ؟ من المسؤول عن هذه المأساة الإنسانبة الفظيعة ؟ لماذا كلّ هذا الذّل و الاحتقار و المرارة ؟ هل ضريبة البقاء هي هذه المأساة الغروتيسكية الحالكة ؟ " ص 14
1 ــ 3 التّعليق الغـرائبــــيّ : ذلك أنّنا لا نفاجأ بالتّعليق ، و التّدخل في مجرى الأحداث و توجيهها .. بل قد نُصادف من التّعاليق ما هو غريب !! كالذي نجده في خاتمة نص ( حادّة الفكانسية ) فالنص كله غرائبي . فالبطلة حادة ابنة الجنوب ( المغرب العميق ) و التي لا تحظى بأيّ مؤهل: لا جمالي و لا ثقافي و لا نَسَبي ...تتزوج فرنسياً و تصبح بعد سنتين في فرنسا مثقفة و واعية و صاحبة رؤية إصلاحية يقول عنها السّارد معلقاً في خاتمة النص : " تحولت حادة الفكانسية إذن، من ضحية للفقر و الجهل و الميز العنصري ، إلى رمز لإنقاذ بلد بكامله . و حّدت البيض و السود، و حولتهم من النقل إلى العقل ، و من الاتكالية إلى الجدية . و بذلك تكون حادة قد نابت عن الدّولة في تحويل مجتمع بكامله إلى مشتل للعقول المبدعة الخلاقة القادرة على المبادرة و الإبداع . " ص 31
1 ــ 4 التّعليق التّوضيحي التّفسيري: و هذا شائع في النّصوص، و كأنّي بالسّارد في كلّ نص يشعر بأنّ القارئ المفترض في حاجة إلى تَوضيح . أو أنّ ما يأتي به من أحداث يتطلب شرحاً و توضيحاً و في كلّ هذا هيمنة صارخة ، تحيد عن النّسق الفنّي القصصي ، لتؤسّس نهجاً توجيهياً ، يجعل القارئ لا يَفهم إلا من خلال فهم و قول السّارد . ففي نص ( ذاكرة خلق آخر ) نص يتحدث عن الجن ، و المس الشّيطاني ،و كيف يتخلّص الإنسان من ذلك بسبب الرقية الخاصّة. (فقد اقترحت العمة الحاجة استدعاء فقيه و ليس ساحرا لإجراء جلسة للرقية . ) يتدخل السّارد موضحاً و شارحاً قائلا : ( و هو ما لا يتعارض مطلقاً مع الشّريعة الإسلامية ، حيث ثبت أنْ مارس الصّحابة الرقية لمحاربة الجن و الشياطين، و هي تتم غالباً بقراءة القرآن ليس إلا .) ص87
1 ــ 5 تعليق التّعجب و الاستغراب : و يأبى السّارد الذي مُكّن في النصوص بحرية مطلقة و بدون ضفاف.. إلا أن يعبر عن استغرابه ..قائلا : ( كم هو غريب هذا العالم الذي يصدح بأدميين بلغوا أقصى د رجات المأساة.و مع ذلك يلبسون أقنعة السّعادة المفترى عليها . يضمرون المكابدة و المعاناة ، و يظهرون الفرح و الحبور . و ما أن يطمئنوا إلى مخاطبهم المفترض، و يشعروا بالأمان، حتّى يفجروا ما بداخلهم ، و يشركوه في هول واقعهم، الكلّ يعتقد أنّه أكبر ضحية لبؤس العالم . ) ص115
2 ــ غواية السّرد من خلال نصوص المجموعة :
2 ــ 1 لغــــــــة النّصوص :
أهمّ ما يلفت الانتباه بقوة ،لغة السّرد في هذه المجموعة . لا لأتها متميزة ، أو ذات وقع مختلف ... و لكن لأنّها مشكّلة من أنماط لغوية: فصحى ، مصطلحات تقنية ،عامية ، أمازيغية .. فمن خلال هذا الكشكول اللّغوي، يمرّر السّارد الخطاب:
أ ــ من حيث التّراكيب الاصطلاحية التي تدل على هاجس الثقافة و المثاقفة في ميادين عدّة : ما هو اقتصادي ، و تقني علمي ، و إعلاميات ، و سردي ، و فلسفي ، و مرضي ، و صوفي ، و خرافي ، و قانوني ، و غيبي ، و مسرحي ، و ديني ... نسجل أمثلة عن ذلك :
( نشأ بين إخوته و أخواته تحت عتبة الفقر ) ص4 ، (البحث العلمي الأنتروبلوجي ..امتلاكه لناصية التكنولوجيا..و تقديم مداخلاته عن طريق تقنية " البوربوانت " ) ص42(..لغته السميائية البلاغية العميقة.) ص56 ( على توقيف الخط السّردي لزايد الذي كان يحكي....) ص63 (إنّها الغربة إذن بكلّ تمظهراتها ، غربة المكان، و الزمان، و الإنسان ) ص66( استمتعنا بهذا المحكي الواقعي...المأساة السّوداء .. مرض الشيزوفرينيا ) ص 70، ( أعلنت الحرب الباردة ضده . ) ص73( ,, و أيقوناته إلى لغة جسدية بليغة معبرة .. و في لحظة ضعف بيولوجي ) ص74 ، ( "عطش في الاتصال و الخلاص من الانفصال "... يعود ثانية إلى خلوته محاولا بلوغ الأنس الناتج عن " مشاهدة الحضرة الإلهية في القلب " و التداني و" هو معراج المقربين ") ص78 ، (..كان بصدد قراءة سورة يوسف التي طالما أعجب بمتنها القصصي، و لغتهـــــــــــــــا المعجزة البليغة ) ص 84، ( حكايات خرافية تنطبق على متونها اجتهادات فلادمير بروب ....فضـــــــــــــــــــــــــاء لاحتضان هذا النمط من الحكي..) ص90 ، ( مع سبق الإصرار و الترصد ) ص 94، و في كل مرة ألعن فيها ديكارت الذي علمني الشّك المنهجي الذي بمقتضاه يمكن أن نصل إلى تأكيد حقيقة أو نفيها ... تزعزعت يقينياتي و نظرتي للعوالم الميتافزيقية ) ص 94/95 ، ( حري بي إذن ألا أنتظر"غودو")،( و أنه هو القديس عيسى الذي ينوب عن الخليقة في تحمل هول الالام و المعاناة.) ص115
ب ــ الألفاظ و العبارات العامية انبثت في النّصوص ، كشقائق النّعمان في الحقل المخضر ، فكان لها وقعها الدّلالي و النّفسي و اللّغوي .. فمن الألفاظ: ( الصندلة ، المشّاية ، القرقابة، الصبّاط ،مصنانة ، بوتليس، الرومي، الحرطانية ، سلكة ، القاريين ،الكوانين ، الفكانسية ، البورانجي ، المونادا، المرميطة ، الجفنة ، خرابيش ، السطلة ، الغاسول ، الكرسون ، الترسنتي ، الروبني ، السطول ،صنادل، البرمة ، البرمسيون، خركت ، الكربسون ، النّكير ،الغيار ، النغاس ، )
و من العبارات العامية : ( قاع الكأس ) ص33 ( أسدي تبرع و تمرح بصحتك ) ص 51 (جيت العفريت غير تحيد الجنابة ، مشي تحمم ، رك دزت في حي السعادة عند البنات .) ص 53 ( اتكعد أوزون راني جيت ، راني كنعاينك كبالت الجنان . ) ص 55 ، ( إو عاودنا مت كفاش و ليت أستاذ ، و أنا كنت خير منك ف القرايا ، و خا طردونا في التالي بجوج ) ص64 ( بعد مني ألخانزير ) ص74
ج ــ من الألفاظ الأمازيغية : ( انشفال ، حديدو ، حدو ،تاعليت ، أرومي ، تاقرفيت ،امرغان ، البلبول ، كير ،أوفوس..)
2 ــ 2 الأمثــال : ( لفياق بكري بالذهب مشري ) ص27 ( نقص فيخرات .) ص63 ( إلى أعطاتك ليام أحمو دير كاتريام ) ص71 ( لبسوا الصفا و أداروا للدنيا القفا ) ص77
2 ــ 3 الأعراف و التقاليد :
من الأشياء الهامّة التي عكستها نصوص المجموعة ، تطرقها في لمحات لبعض الأعراف التي كانت في قصور الجنوب، بل و ما زالت بشكل من الأشكال ..لأنّ منها ما اندثر و منها ما زال يغالب عوادي الزمن و تحولاته...نستعرض بعضها : ( كما أنّ ولادته تزامنت مع ليلة القدر المباركة .زد على ذلك أنّ جدته أهدت أمّه نعجة بئيسة ذات عظام نخرة احتفاء بطلعته البهية ... فالبلدة إذن بكاملها فقيرة إلى ربها، بل معدمة ! ولولا تلاحم سكانها البسطاء لخرجوا شاهرين سيوفهم ..) ص3/4 ( إنها حضرت مجموعة من جلسات صرع الجن التي يقوم بها أحد جهابذة الفقهاء ....سردت أيضا حكاية امرأة جميلة سكنها و تزوجها جنيّ رغم أنّها كانت مقبلة على زواج حقيقي ... )ص86
2 ــ 4 البعــــــد المكانـــــــــي:
في هذا الجانب أهم ما يشدّ الانتباه ( القصــر ) هذا التّجمع السّكني الملفوف على بعضه البعض و الذي يشكل مدينة صغيرة محاصرة بسور طيني . و لكن "المكان" لم يبق حبيس القصر و معالمه ، بل امتد إلى ما هو خارج القصر، بل إلى ما هو أبعد منه ،في مدن و مواطن أخرى أخرى... نذكر من ذلك :
البلدة ،المدرسة ، الإعدادية ، الثانوية ،المسجد ، الحمام، ، الضيعة، ،البيت الطيني الخرب، تيغسالين ، بلدة أوفوس الدروب، الأزقة ، بوابة القصر ، الأرض، الواحة ، وادي زيز ، القصور ، الضفتان ، اسطح المنازل ،،فرنسا ، بلاد المهجر ،المغرب ،المغرب العميق، الريش،و قصر السوق، و فاس ، الأطلس الكبير الشرقي، البيضاء ، كلميمة ،الحاجب، بشار، الرباط،أزرو، زاوية إسحاق، الزاوية الدرقاوية، المنزل ، السوق ، مقهى أودادن ، المجزرة ، للذهاب إلى خطبة يوم الجمعة (إشارة إلى المسجد )، يعود أبوه من الحصاد (إشارة لأماكن الحصاد في الغرب )
2 ــ 5 البعـــــــــد الزّمانـــــــــــــــي :
ورد الزمن في المجموعة في عدّة وجوه ، وأهمها التّعميم و عدم الدّقة و من ذلك نسجل : ليلة القدر، العطل ، حدث ذات يوم من أيّام الله ، بداية كلّ دخول مدرسي، شمس الصيف المحرقة ، أثناء فترة المخاض، بعد مضي سنتين كاملتين، ظهيرة يوم صيفي حار،ساعات متأخرة من اللّيل، ،ساعة مبكرة،صلاة الفجر، وسط الظلام، (حريرة )الفطور، ( شروق) الشّمس ، صلاة العصر، أسابيع رمضانية ، عشر دقائق،صببحة أحد الأيّام ،مدّة طويلة ،وقت طويل ،بين الصلاتين ،سنوات طوال، فجر اليوم الموالي،ساعات متتالية. الجمعة ، لحظة، هنيهة ، أيّام ، اليوم ..
الخلاصــة :
لا شك أنّ الجنوب المغربي (المغرب العميق) في أمسّ الحاجة لمن يعبّر عن معاناة أهله ،في قصورهم الطينية النّائية ، و مداشرهم البئيسة المتباعدة ،و دواويرهم المنتشرة في السّهول و أعالي الجبال ، و في الواحات و قرب منابع العيون و الوديان...و حين تأتي مجموعة قصصية منصبة على أوضاع اجتماعية و إنسانية تخصّ الأهالي في الجنوب .. إنّما تعكس المسكوت عنه Le non dit، و تكشف خبايا اللامبالاة ،و سياسة التهميش السّائدة منذ عقود ، سواء عن قصد أو عن غير قصد... مجموعة ( سفر الروح) و إن برز فيها السّارد بصوت مجلجل مهيمن...و لكنّها رغم ذلك، استطاعت أن تساهم فنياً، في لفت الانتباه إلى قضيا القصور الطينية ،و معاناة أهلها.و مكابداتهم اليومية، لضمان عيشهم،و تعليم أبنائهم ، في ظروف و بيئة قاسية ...قد لا يعرفها، أو يعيشها ، مواطنو الشمال...