منذ دقائقه الأولى ، شدني اليه فيلم " أياد خشنة " ، من انتاج سنة 2011 ، ولم أشعر بمرور دقائقه ال97 ، التي استمتعت على امتدادها بصريا وسمعيا وفكريا ووجدانيا ، الا عندما ظهر جنيريك النهاية . وقليلة هي الافلام المغربية التي شدتني اليها بنفس القوة التي شدني بها اليه فيلم محمد العسلي . وهذا يجعلني أجزم بأن صاحب هذا الفيلم الناجح قد توفق الى حد كبير ، بحرفية ملحوظة و بحس فني وانساني عالي ، في التنسيق بين مختلف عناصر التعبير الفيلمي من تصوير وموسيقى وتشخيص وانارة وديكور وملابس وحوار ومونطاج وغير ذلك ، لتمرير خطابه الذي يدين بشدة ظاهرة استعباد فئة من المغاربة الفقراء ، العاملات القرويات الموسميات في حقول الفراولة باسبانيا بشكل خاص ، من طرف الرأسمال الاجنبي ، وذلك عبر لغة سينمائية سلسة وشفافة ، بعيدة كل البعد عن المباشرة والتقريرية . لقد أسرني ، مثلا ، الممثل الشاب عبد الصمد مفتاح الخير بتشخيصه التلقائي عبر مشيته وتقاسيم وجهه وكلامه وجل حركاته . وزاده ألقا تصوير الكاميرا له من زوايا مختلفة وهو يجول بدراجته النارية من موقع لآخر من مواقع حراسة السيارات بمدينة الدار البيضاء ، التي شكلت بفضاءاتها المختلفة ، أحياء شعبية وشوارع كبرى وبنايات شاهقة وأخرى آيلة للسقوط وفيلات واقامات راقية وغيرها ، شخصية أساسية من شخصيات الفيلم . وعبر هذا التجوال جعلنا مبدع الفيلم نكتشف واقع الاستغلال الذي تمارسه فئات اجتماعية في مواقع سلطوية على فئات مستضعفة داخل مجتمع تنخره الفوارق الاجتماعية ويعشعش فيه الظلم والفاقة والتهميش وغير ذلك من مظاهر الحيف المجتمعي . وتجدر الاشارة الى أن الممثل عبد الصمد مفتاح الخير لم يكن المتألق الوحيد ضمن كوكبة الطاقم الفني لهذا الفيلم بل لا أبالغ اذا قلت بأن كل الممثلين كانوا مقنعين بدرجات متفاوتة في تشخيصهم لأدوارهم ، سواء كانوا محترفين أو غير محترفين ، وعلى رأسهم طبعا الرائعة عائشة ماهماه في دور الأم العمياء والبطلين محمد بسطاوي وهدى الريحاني . فمن أصغر الى أكبر دور شكل التشخيص نقطة قوة في هذا الفيلم الثاني لمحمد العسلي بعد فيلمه الرائع " فوق الدار البيضاء الملائكة لا تحلق " ، من انتاج 2004 ، وباستثناء الرائدة أمينة رشيد ، التي لم تستطع التخلص من أدائها النمطي الذي اشتهرت به خصوصا في فيلمي حكيم نوري " فيها الملحة والسكر ... " ، يمكن القول أن مخرج " أياد خشنة " نجح في انتقائه لعناصر الكاستينغ وفي ادارته للممثلين . ومن عناصر القوة الأخرى في الفيلم ، الموسيقى التصويرية ذات النفس الشرقي الأسيوي ، التي أبدعها الألماني سطيفان ميكوس والايطالي صارو كوسانتينو ، وتوظيفها من طرف المخرج بشكل يخدم السرد ويتماشى بتناغم مع ايقاع الفيلم المتوازن ويترجم أحاسيس ومشاعر الشخصيات وهي تمر بحالات نفسية مختلفة . ومما زاد الشريط الصوتي للفيلم جمالية وامتاعا للمتلقي حضور نغمات آلة القانون بشكل متكرر ، والمزج السمعي البصري ، على مستوى المونطاج ، بين نغمات القانون وأياد العازف العجوز وحركات أياد الحلاق أثناء مشاهد الحلاقة ،و بين رقصات فن أحيدوس الجميلة وايقاعاته الموسيقية والغنائية الرائعة في مشهد زفاف البطلين مصطفى وزكية ، الشيء الذي أظهر هذا المكون الثقافي المغربي الامازيغي في حلة مشرفة ومبهرة . ولا ننسى كذلك المسح الذي قامت به كاميرا مدير التصوير الايطالي جيوفاني باتيسطا ماراس لبعض مظاهر الحضارة المغربية بتركيزها على فسيفساء الزليج والزربية ونقوش الخشب والجبص وغير ذلك من التحف الفنية التي ابدعتها أياد الصناع التقليديين الخشنة وغير الخشنة . ويمكن القول اجمالا أن الفنان محمد العسلي قد كسب الرهان من خلال هذا الفيلم الثاني وأبان لمن هو في حاجة الى بيان أنه مخرج سينمائي صاحب بصمة على مستوى الكتابة السينمائية وله رؤية فنية خاصة لما يصوره من قضايا مجتمعية . أبدع لنا هذا الفيلم الجديد ليحكي من خلاله ، بفنية ملحوظة ، جانبا من واقعنا المجتمعي ، بسلبياته وايجابياته ، لكن دون السقوط فيما سقط فيه مخرجون آخرون فضلوا الانحياز الى الرؤية الغربية البرانية عبر تقديم تنازلات عدة ، تحسب عليهم ، بغية الحصول على تمويل جزئي أو كلي لمشاريعهم الفيلمية من صناديق أروبية . فيلم " أياد خشنة " نحس من خلال مشاهدته والتفاعل معه بحضور الروح المغربية فيه وباعتزاز مخرجه بالقيم الأصيلة للمجتمع المغربي وبايمانه القوي بالانسان المغربي وقدرته على تجاوز واقعه المريض مهما كانت قساوته . فالحل حسب الفيلم لا يوجد دائما في الهجرة الى اسبانيا أو غيرها من الدول الأجنبية حيث الاستعباد والاذلال وهدر الكرامة الانسانية ، وانما الحل في الداخل أي في البحث عن السبل المعقولة الكفيلة برفع الحيف الاجتماعي وتحقيق العدالة والمساواة والحياة الكريمة للجميع .