تلقي مسرحية "أنا حرة"للفنانة الفلسطينية فالنتينا أبوعقصة جديدة الأضواء على ديناميكية المضطِهد /المضطَهد بين الفلسطينيين والإسرائيليين.
وتشكل العلاقة بين الأسير والمحقق عنوانا قديما في الفن والأدب الغربيين. فالحوار مرن بين السجين والمحقق مما يتيح لمجتمع المحقق اختبار ذاته، أو لمجتمع المضطَهد بايجاد القوة والفضيلةفي صورة المقاومة.
ومن النادر التعبير بكل صدق في الغرب عن الديناميكية بين الفلسطيني والمجتمعات الإسرائيلية خارج مشاهد العبث والتعصب في أفلام الإثارة الأميركية. ويخلق الديالكتيك الغربي المؤيد للفلسطيني / المناهض للسامية، موجة من العدائية تجاه التوجهات الفلسطينية في الفن والأدب التي لها دلالات عالمية حقيقية. ويمكننا رؤية آخر تكرار لذلك في حجب فن أطفال غزة عن متحف اوكلاند خلال الشهر الماضي.
وتخلق تركة هذا الحجب بيئة يتحسر فيها رئيس الوزراء الإسرائيلي على البربرية تجاه الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط، بينما يقف على رأس اكثر من خمسة آلاف أسير فلسطيني في اسرائيل. والإعلام الغربي يتابع القضية، كما فعل لدى الإعلان الأخير عن تبادل الف اسير فلسطيني لقاء شاليط. فغرابة الصفقة غير المتوازنة والطريقة التي جرى نقاشها في الدوائر المركزية في الولايات المتحدة تتحدث كثيرا عن الإختلاف في قيمة الحياة والحرية الفلسطينية والاسرائيلية.
وتفتقرالنظرة الغربية للسرد الفلسفي لديناميكية الأسير الفلسطيني / المحقق الأسرائيلي. اضافة الى أن المحتوى الحيوي غير مرئي للعلاقة الفلسطينية الإسرائيلية. فالتحقيق والسجن يمثلان حقائق ثابتة في حياة غالبية الفلسطينيين،وليستشذوذا طارئا حيث تم اعتقال والتحقيق مع ما يقارب من 650000 فلسطيني منذ بداية الاحتلال الإسرائيلي عام 1967. والى حد ما، يمكن القول أن الفرد يستطيع فهم العلاقة الفلسطينية الإسرائيلية، من خلال النظر اولا الى علاقة المحقق والأسير. ومن المحزن ان ذلك الجانب هو المرئي فقط لدى الغرب.
توجه ابتكاري لرواية الأسير الفلسطيني
من المؤكد أن مسرحية الكاتبة الفلسطينية فالنتينا أبو عقصة "أنا حرة" لن تغير تلك الديناميكية من تلقاء نفسها،لكنها تلائم حوار الأسير / السجان بطريقة ابتكارية لاكتشاف قصة الأسرى الفلسطينيين،اضافةالىديناميكة المضطِهد والمضطَهد في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
فمسرحية أبو عقصة المتكونة من دور واحد أعدت بشكل يسير،معطاولة بسيطة وكراسي تمثل بكل فعالية التركيز على العلاقة بين المحقق والأسير،حيثتختفيالأرضالتيتستبدلبتضاريسمنالفلسفة والأيديولوجيا، بحضور ممثلين: المحقق الإسرائيلي الذكر الذي يفرض ذاته بدنيا وأسيرته المرأة الفلسطينية. ولم يسم اي منهما.
وتستكشف المسرحية بكل حدة القضايا الحساسة في الثقافة الفلسطينية. فكأسيرة أنثى، تتعرض بطلة الرواية الى العديد من التحديات المتعلقة بثقافتها ونوعها الإجتماعي والتي تطرح بكل التفاصيل. وفي العديد من مواقف الحوار، يحاول المحقق استخدام نوعها الإجتماعي وهويتها الثقافية ضدها - وفي نهاية هذا الطيف المادي يحصل العنف الجنسي، والتهديد والتعذيب النفسي. لكن المحقق يستخدم ايضا بعض الإخفاقات في الثقافة الفلسطينية الأبوية في محاولة للتلاعب بها. وهذا انتقاد حاذق له دلالات اكبر على اولئك الواعين للسهولة التي تحاول أجهزة المخابرات الإسرائيلية من خلالها إضعاف التضامن الفلسطيني باستخدام تقاليد المجتمع ومحرماته ضدها.
دقة عرض الشخصيات
تعرض الشخصيات بطريقة دقيقة. ويترك الأمر للمشاهدين لاتخاذ القرار فيما اذا كانت الشخصية المركزية بريئة أو مدانة بـ "الجرائم" الموجهة لها، وماهية تلك "الجرائم". ولا يفصح عن عمرها وخلفيتها وحالتها الشخصية وحتى معتقداتها السياسية وآرائها ازاء الصراع. وكذا تترك المسرحية الأيديولوجية السياسية والرؤية العالمية لميادين أخرى.
وتبقى بطلة رواية أبو عقصة إمرأة بسيطة تواجه فترة سجنها واضطهاد شعبها بطريقة عالمية. وهي تتمسك بالمعنى والهوية من خلال العودة للأدب والثقاقة، الأمر الذي يقوم بدور مركزي طوال المسرحية، مشيرة الى ان ما يضفي الحيوية على فكرة الصمود هو ارتباطها الثقافي وليس الشعارات السياسية او عبادة البطل. وتصبح مقاومة التعذيب والسجن استجابة انسانية بدون ايديولوجة مدركة – وتصبح الكرامة في مواجهة الطغيان إنسانية بالفطرة وتحقق من خلال قوة الشعب الذي ينتمي اليه الفرد.
وعلى السطح، فان المحقق متلاعب يستخدم معرفته بالثقافة العربية للتملق لضحيته بغرض اخضاعها قبيل اللجوء الى التهديدات والترهيب والعنف الجسدي. لكن هناك ايضا طريقة أخرى لقراءة المحقق الذي يتحدث عن الطبيعة القائمة للعلاقة الفلسطينية – الإسرائيلية. فالمحقق يصور نفسه كعاشق للثقافة العربية والطعام وأنه تعلم بنفسه تلك الثقافة. وبهذا فهو يعبر عن ذلك بمعرفة ودية بالأدب والتي تبدو غير ممكنة ما لم تكن مجرد أداة تحقيق. وهو يدعي بأنه ناتج الكيبوتسيم وهكذا يعارض ايديولوجيا العنف. ومن المثير أن المحقق يكشف تقريبا كل شيء عن ذاته في غضون دقائق قليلة تقريبا وكأنه يبحث عن قبول.
وما يتبع ذلك، المشهد المعقد حيث يواجه المحقق كفاحا خصما متساويا وإن يكن أقل خطوة من الناحية البدنية للمحافظة على هويته. وعلى المحقق الإبقاء على شعور خاص بالإنسانية بينما يدافع عن البناء الهش للأيديولوجية والتي تعاقب الهبوط الى الجنون وهو التعذيب والإضطهاد.
بالنسبة لمعذب أبو عقصة، فمن الملح له التحول لسجينته أي بمعنى أن يصبحا أصدقاء للإبقاء على ارتباطه بالثقافة العربية وبأفكاره الخاصة عن دولته. فالديناميكية تلخص العلاقة بين الثقافة الإسرائيلية والعربية الفلسطينية. فاسرائيل التي انتزعت من آصالة تنوعها العرقي من خلال فرض قوميتها، تتوق بشوق للنظر لذلك عبر تابعيها – مثل الترهيب الوحيد الذي يصل بعنف للضحية.
فإذا لم يستطع تحطيم ضحيته، فهذا يعنى انه تعلم بأن ذلك عار ولا يوجد أي تبرير أخلاقي لأفعاله. وعند نقطة معينة تصبح "أنا حرة" هي امتناع المحقق بينما يحاول اقناع نفسه بأن الحرمان الذي يساعد في إلحاقه بالفلسطينيين ملائم ومبرر.
مواجهة المستريح
بهذه الطريقة يواجه السرد أيضا الطبيعة المستريحة للاحتلال بالنسبة لمعظم الإسرائيليين. ويمثل مظهر تطبيعه من خلال عدم اهتمام المحقق بذنب الأسير او براءته. ولصالح سلامته العقلية، يجب أن تبقى كملف بالنسبة له وليس أكثر – وهو جزء من عمله حيث يكافح لاذلالها وملائمتها في محفظة تفتح أو تغلق وفقا لراحته. وهدفه هو إغلاق الملف واهمال الأسئلة المزعجة حول العدالة والاخلاقية. وتمنع أسيرته ذلك من خلال تذكيره بأن ما يسمى الحرية هي اكثر من التوقف في علاقته معها كمعتدي وحشي.
قضت المواطنة الفلسطينية من إسرائيل أبو عقصة عاما في إجراء اللقاءات والمقابلات مع المعتقلين السياسيين الفلسطينيين للتحضير للسيناريو. والقصة هي نمط ظاهرة تهبط لتواعد التفاعل، تاركتها كشهادة على العنف والإذلال الذي يعتبر جزءا من الإحتلال الإسرائيلي عبر جميع تكراره وبضمنه الحالي. وتتداخل الجولة مصادفة مع الإضراب عن الطعام الذي يخوضه الأسرى الفلسطينيون في اسرائيل. وعليه ولسوء الحظ، تأتي في وقتها المناسب كما كانت في كل شهر من كل عام على مر العقود.