تأتي الحاجة إلى النقد بعد أن يصبح الإبداع في المستوى الذي يستوجب طرح الأسئلة، عن نفسه ويتغير لمواكبة أسئلة المجتمع وتمثل الحاجات المستجدة في الحقل الثقافي وتمثيلها؛ فالإبداع يفقد ضرورته إذا عجز عن المواكبة والتغير، بل يفقد حتى وجوده الإبداعي ويصير مجرد كتابة أو كلام يندرج تحت صنف من أصناف الكتابة المعتادة المحددة بوظيفة عملية التدوين، والتوثيق لما يقع،، ليس له من أهمية إلا أهمية التعريف والتأريخ والتسجيل وهو في هذه الحال يستدعي نقدا موجها لمحاكمة المكتوب بمعيار الحقيقة والمصلحة العامة أو يندرج تحت صنف المقدس الذي يحرم النقد..
لكن الكتابة الإبداعية لا ترضى أن تكون مجرد كتابة؛ إذ تتحرك في مجال الثقافة بدء من جعل الثقافة نفسها في خدمة الكتابة، وعزل الحاجات التي تلبيها أشكال الكتابة الأخرى في مساحة الظل، سواء تقصدت ذلك عمدا أم لم تقصد: فالكاتب الذي يسمي كتابته أدبا أو فنا عاجز عن إلغاء تلك المسافة، وهو لا يجعل منها مقصده وحدوده، ويعرف أنه يتنفس هواءها ويتشرب ماءها ويتحرك في مجاهلها وأنفاقها السرية، حيث يعثر على غير المرئي وعلى الصامت والمهمش والناس الذين يعيشون في ظلمات الأقبية والمقصورات العجائبية، هنا تكون الكتابة تجسيدا لقدرات الكاتب، وتعبيرا عن الحرية، وتجاوزا للمألوف المعتاد، وانغمارا في عالم الخيال والوجدان والجمال وتغدو الكتابة اكتشافا ممتعا أو مدهشا أو مرعبا مقلقا.
وإذا ما تمكن الكاتب شاعرا وقصاصا روائيا ومسرحيا من الدخول إلى هذه المسافة فهو يعري المسافة التي يعيش عليها بقية الناس، ويجعلهم يتساءلون ويعرفون كيف يمنحهم الأدب وجودا إضافيا، ويعرفون أن الكتابة لها مكر يحثهم على تنشيط ما لديهم من معرفة لفهم ما لم يتعودوا على فهمه.
إذن الحاجة إلى الكتابة الإبداعية هي حاجة ضرورية، سرها في مطلب الحرية والمتعة واللعب والجمال والاكتشاف والمعرفة؛ معرفة ما يخرق المعلوم من المعرفة والكلام الذي يظل مجرد كلام،:::
هكذا فكل ما يمكن أن يصدر من نظريات في الأدب يتحرك تارة بادعاء النظر إليه ضمن حدوده وتارة أخرى بالنظر إليه من خلال ما يحيط به سببا وغاية، ولا يعني المحصول النظري إلا تعدد وجهات النظر التي لا تقبل أن يحاكم بعضها بعضا، فالناتج عن الاختلاف لا يرجع إلى الأدب بل يعود إلى المعرفة التي توظف من أجل دعم وجهات النظر، ويعني هذا نتيجة بأن الأدب هو في مركز دائرة ثقافية أطرافها متفاعلة وهي الذات (التكوين النفسي، قدرة التخيل، الوضع الاجتماعي) المجتمع والواقع الطبيعي، الكتابة السابقة (الموروث)، اللغة، المعرفة التي تحيط بالأدب، الثقافة التي يكتسبها الكاتب من الحقل الثقافي. (القيم، الرموز، الأساطير، الاعتقادات؛ الفنون إلخ،،)
لذا فإن النظر إلى الأدب قد يستدعي استحضار كل العناصر المذكورة، وقد يكتفي باختيار بعضها، وتكون الحاجة إلى النقد دائما مشروطة بها ومعبرة عنها وشارحة لها من خلال الأدب؛ أي حين يؤكد وجوده ككتابة لا تندرج ضمن بقية أشكال الكتابة المألوفة (الكلام).
هنا تتولد في الأدب والنقد معا رغبات تود تغيير الأدب سعيا إلى تجديده، أو تجاوز ما كان عليه أو ما هو سائد فيه، برفع شعار نقدي قبل أن يكون حقا شعارا أدبيا، مثل الأدب التجريبي.
إنها رغبة لا تتحقق إذا كانت مجرد ادعاء وعبث، ولا تستجيب إلى إشباع الحاجة إلى الأدب في تفاعله مع دائرته الثقافية، أي حاجة الإنسان لكي يحقق المزيد من الحاجات الملحة أو المتوقعة، الحاجة إلى النقد ما هي من حيث المبدأ حاجة الأدب نفسه، والتغير الذي عليه يعني أن الدائرة التي تتفاعل فيها شروط وجوده، تتوق إلى التعبير عنها، فيأتي النقد لتعزيزها، وتسديدها ونشرها،، وكل ما ينجم من اختلاف نابع من مستويات تفاعل العناصر ونوعها وكيفية هيمنة بعضها على بعض، لكن عندما نصادف نقدا متهافتا وسائدا فهذا دال على تهافت المعرفة الرائجة في الحقل الثقافي وضعفها، ودال أيضا على خلل في الأدب أساسا، ومن السذاجة أن نجد نقدا قويا مؤثرا إذا كان موضوع اشتغاله هزيلا ومهزوزا ضعيفا، وإذا ما كانت هناك كتابات نقدية تنظيرية رائجة، فهي كتابات غير ملائمة، مستعارة تشبه شراء طائرة أو سيارة أو هاتف محمول من لدن مجتمع عاجز عن الصناعة متهافت على حاجات غير ملائمة.
فهل نحن في حاجة إلى نقد مستخلص من حاجات ثقافة مجتمع آخر، ويقرأ وينتج أدبا غير أدبنا؟؟؟؟؟