تَرَكِتُها تَحتَ أَقْدام الأُمّهاتِ المَدينَة،
وعُدْتُ، بَعد هِجرَةٍ دامَت، قَرنًا وأَلْفَ حَضارَة،
فَلم أَجِدْها، ولا وَجَدْتُها روحَها طَنْجَة.
لم أَجِدْها أَحْلامي ولا دَفاتِري،
لم أَجِدْها مَدارِسَ روحي،
ولا وَجَدْتُها مَريَمَ الحَزينَة.
-2-
هي ريحُها الأُنْثى طَنْجَة،
ريحُها الهُبالُ شَرْقًا تَهُبُّ،
قلَقُ بال، و صُداعُ رَأْس، و حُمَيّا.
وتَحْتَ عُزْلَةِ شُجَيْراتِ الخَريف،
قد اغْتَسَلَت شَوارِعُها العُزْلَة،
مِن كُلّ حَنين مُغْتَرِب،
مِن كُلّ راحِل ومُرْتَحِلَة،
ومِنْ كُلّ قارِب وشراع خَريف،
ومن كُلّ امْرَأَة بالشّهْوَة حُبلى وخَبيلَة.
وكَأَنها مِن لمّا طَلَعَت مِن شَجَرَة مُرْجانِها،
في كُلّ قَلْب يَتيمٍ وَضَعَت نَفْحَة ياسَمين،
وعَرّجَت نَحوَ مُستحيلات العِشْقِ طَنْجَة.
-3-
تَرَكْتُها والرّوحُ المُسْكونَة طَنْجَة،
وأَصْبَحتُ والشّمْسُ في خِرْقَة العِبارَة،
ودُموعُ البُؤْسِ في عُيونِ الدَّراويش،
كَوْثَرًا مَجْنونًا وسَماءً مُخَرْبَشَةً وطُيور عَوّا.
و صُخورُ بَلَدِ التّيه قَد سَوّدْتَها شَهَواتٌ فَتونَة،
ونِساءٌ مُجَمّلَةٌ بالتّقْسيطِ وبالجُمْلَة تَغْتَصِبُها العُيونا،
و رجالاتُ مُتَوَّجَةٌ بالغِبْطَة المُرّة،
في عُلَب بِدَع العَصْر،
وأَطْفالٌ مُسِنّة،
وقِطط عَوانِسٌ،
وبضْعَة نُجوم أَثَرِيّة.
-4-
و كانَ ما كانَ مِمّا لَستُ أَذْكُرُهُ،
و طَنْجَة كَما هذا البَحْرُ العَجيبِ الرّؤى،
تَحتَ عُيونِ بَيّاعي الهِجارَة،
تَحتَ السّطوح المُلَوّنَة،
و تَحتَ إيقاع الحُزْنِ المَغاربيّ،
و تَحتَ كُلّ مُحيطات الزّرْقَة.
و تَحتَ أَهْدابِ الأَطْفال،
و تَحْتَ شُجونِ المَطَر،
رُحْتُ أراقِبُ عَن مَدى.. !
طُلوعَ شُموسٍ و أُفولَ أُخَر.
-5-
و اخْتمَرَ حَتى صارَ مُرّاً طَعْمُهُ الزّمَنُ،
و قد اضْمَحَلّت حتى انْمَحَت أو كادت،
بَلابِلُ فَصاحَتِها في لَثْغَتِها الهَجينَة.
و ظَلّت طَنْجَة هي .. هي، خَلفَ بِحارِ الإمْكان،
بَرّاقَة تَروحُ السّيّاحُ على آمالِها الدّفينَة،
و جَماهيرُها الدّائخَة "بالعٌشْبَة" والغُرْبَة،
قد أَقْلَعَت بِكُلّ جيناتِها عَبرَ البِحارِ الرّحال،
و الصّدى مِن خَلْف بواخرها المُثْقَلَة بالحَزانى يُرَدّد،
" إلى اللا ّمكان ..! إلى اللا ّمكان ..إلى اللاّ مكان .. !
-انتهت-