-1-
و عَرّسَ اللّيْلُ خَيْمَةً على شُرفاتِ الجِبال،
و مَشى الزَّيتون بِتيجان فِضَّتِه عُيُونا.
نَوافِذٌ تُطِلّ على زُرْقَة عَناقيدِ الخَيال،
قَناديلُ نُجومٍ تَحْدوها عَناقيدُ نُجوم،
و اللَّيْلُ قَد ادْلَهَمّ بِالرّياحين و بالأَغْصان،
حتى صار أَشْجارَ زَيْتونٍ لِمَسْرَحِ جِنّ المُحال.
-2-
مُوّالٌ و نَشيدٌ و مَلْحونٍ على جِنانِ السََّبيل،
أَرْبَعَة آلاف ساقِيَة تَهْدِرُ ماءًا و نَواعيرَ غَزلاً تَدور،
خَريرا تَدور طَيَّ شُرُفاتِ الدّور، هَمْهَمَة عاشِقين تدور،
ناعورَات الهَوى ما تَزالُ تَدور، عَلى ظِلالِ الرّبيع،
على أَحْرُفِ مِياهِ الهَوى و خَريرَ السّلْسَبيل تَدور،
فِضةُ أَرْواح حَزينَة، دُرُبُها كَما حِشْمَتُها يَنابيعُ "فاس".
-3-
و أبناؤها الشُّرَفاء، مِن بَني سُنّيّ و بَني جامِع،
و بَني زرْوال و مَرين و يَحْمد و عَلَمِيّ و عُثْمان،
قد سَقَتْ أَرْواحُ شُهَدائِهم تُرْبَةً ما تَزالُ حُرّة بِكُلّ مَكان.
زُمُرّدِيّة البِشرَة كَما عَقيدَتُها مِن لَما كانَت فاس،
نِبْراسا كَوْنِيّا يَسْهَرُ على مَقابِرِ الشّهَداء،
و عِنْدَ سَكينَتِها يَسْتَريحُ الإيمانُ نُبُوّة في حَريرِ الرِّداء.
-4-
و مَضى الزَّمَن بِفِضّتها و خَريفها،
بالعَذْراء الشّقراء و بِشَهوة عِدْوَ تَيْها،
و بِقوافِل من المُرَحّلَة سَبْياً نِساؤُها.
و لولا عِِرْصَة و خَيال و "خَاصّةٌ" أَنْدَلُسيّة،
و تَأَمّل على قَسَمات جَوْهَرِ مَرايا الماء،
ما عادَت إلى المَجاري، جَنّاتُها، فاسُ.
-5-
"تَوْنات"، "عَيْن عَيْشَة"، "غَفْساي"،
قَوافِلُ زَيْتون تَعْقِبُها قوافل لشّين.
و جِراحُ "الباكور" الأَزْرَق المُجَرّحِ الشّرَيان،
مَرايا قَصدير على أُسْطُوانات مِن فِلّين،
و دورٌ مِن تُرْبَة حَمْراء تُحاكي دُموعَُ الرّمان.
و جَبَلِيّون مِن مَعْدِن شَريفٍ و تُرْبَة زَكِيّة،
ما زالوا بِالله عالقين و بِالعُروبَة و بالوَصِيّة،
و بالجِنّ السّاحِرَة و سَواعِد المُقاوَمَة و حُبِّ النّوادِر.
-6-
و عِنْدَ قَرْيَة "أولاد بن جامَع" القَصِيّّة،
تِلكَ الغافِيَة قَناعَةً عِنْدَ ظِلالِ قَدَمِ الجِبال،
و الخَنادِقُ مِن حَوْلِها في سََرير الوادي نَجِيّّة،
تُغَرّدُ مَواسِمُ الصّيفِ بِحَناجِر عَزْباتِها وبالطّبول.
و الظِّلالُ عِنْدَ كُلّ رُكْن جبَلِيّ حَزين،
تَرْسُمُ خُطوطا بُنّيّةً لراحَة اِلْجالِسين،
و أَنا عِنْدَ السّطْحِ الأَعْلى أَجْني النّجوم،
و السّماءُ فائِضَة عَلى يَديّ زُرْقَة ياسَمين.
-7-
و بِقَلْبِ القَرْيَة العالِقَة بِأَهدابِ الأَنْبِياء،
حَيْثُ تَراتيلُ القُرْآن شُهْد و رَيْحانٌ و رَجْعُ حَنين،
تَحْلُمُ على الدُّكّانَة المُضَخّمَة بِشَذى العائِدين،
خالَةُ لَها سِنّ ذَهَبِيّة و لَها في العَيْن دُعاء.
و لَها مَلاكٌ يَحْرُسُها،
و جَناحا حَنان.
-8-
هَذه عُروقُ فاسَ و عِدْوَة مِن مَعين،
دورٌ عَتيقَة ذِكْرى أَنْدَلُس و نافورات خَرير،
أَسْرار بُدورٍ و قُوتُ قُلوبٍ و رَيْحانَة،
مَرايا مِن خالِصِ قَمَرِ الحُبّ رَيّانَة،
و أَشْباح كانَت لِفِتْنَة العَيْن،
مَفاتِنَ مُوّال دَرير.
-9-
أَنْتِ كُنتِ في الزّمَن العَتيقِ خَريرَ حِكايَة،
و ما زالَ عِقْدُ مُرْجانكِ شَذى في عُيونِ السّواقي،
يَسيلُ حَريرا و بَهارا على وَجْنَتَيْك و مَغامِزِ النُّحور،
و لَثْغَتُكِ الفاسِيّة الصّبِيّة، دَغْدَغَةُ أُنثى قُرُنْفل،
و صَيْفُكِ هذا قَد قَدِمَ بِحَبِّ المُلوك و رَوْنَقِ الفُصول،
و مَعَهُ قَدِمَ رَبيع الغَزَلِ في حِشْمَة الغِوايَة.
-10-
يا مَقْبَرَة لِلشُّهَداء يا فاسُ !
أنْتِ التي مِرارا ما زَغْرَدتِ بها الشّهادَة،
مِن أَجْلِكِ اسْتشْهَدَت روحُ أبي الأَبِيّة،
و مِن أَجْل خَمْرَة روحِك و النِّبْراس،
و مَلائِكَة مُؤْمِنَة بالجَنّة و جُرْحِ الآس،
تَأَلّق عِشْقُك في مَلامِح الطّفولَة،
و زَغرَدَتْ مُواطِنَةٌ حُرَّة بِمَقْدَمِ الراّيَة .
-11-
و هَذا " سَبو " حين يُفْتَنُ و لا يُجَنّ،
يُسَرِّحُ بَناتَ مائِه على ظلِال الدّفْلى،
فَتَمْرَح الورودُ و تُغَرِّد المِياه في المَجاري،
و تَتّسِعُ حُقولُ التّين و الزّيْتون،
و الرُّمّان و الكَوْثَر و اللّشّين،
"بنو جامع" و "بنو سُنّيّ" و "بنو مرين"،
عَصير ُالذّهَب يَفيضُ نَجْوى على تُرْبَة المَيامين ،
و على أَشْجارِ الصّنَوْبَر و الخرّوب و الفِلّين.