لأجل الإبداع الجميل، ولأجل حياة جميلة وَريفة، تستحق أن يعيشها الإنسان، نذرالشاعر محمد بنعمارة حياته وأفنى زهرة شبابه، ثابت الكلمة والعزيمة، متوقد الرؤية والبصيرة، متخطيا ومتحديا كل متاعب ومعاطب الطريق، لا يصرفه عن رسالته صارف، ولا يشغله عن حبه وتفانيه للإبداع وللحياة شاغل، سواء من مغريات هذه الحياة أو من مثبّطاتها، حتى جاء الموت الزؤام على حين غرة، جاء هازم اللذات ومفرق الجماعات، فتخطّفه وانتزعه منا، وهو في شرخ وعنفوان إبداعه وعطائه، ونحن أحوج ما نكون إلى صوته الإبداعي الدافئ الشجي والطلي.
ألا قاتل الله المنايا ورميها / من القوم حبّات القلوب على عمْد
والموت، من قبل ومن بعد، قدر مقدور، ولا راد لهذا القدر.
وعلى امتداد أربعة عقود ونيف من الزمان، ، ظل محمد بنعمارة حاضرا باستمرار، وعلى أكثر من صعيد إبداعي وثقافي، وموصول العطاء باستمرار، بنفس الشّبوب والتوهج الذين عهدناهما ، في سراجه الإبداعي الوضيء .
ولا غرو، فهو سراج يقتات ويغتذي من زيت بهي طهور.
وأشير للتذكرة هنا، إلى أن أول نص شعري نشره محمد بنعمارة كان في غضون 1965، وعلى أعمدة جريدة (العلم) التي كانت في ذاك الإبان، واسطة الصحافة المغربية وقلادتها. وكان عنوان النص الشعري للشاعر الجديد (نهاية شوق).. وكانت نهاية هذا الشوق في حقيقتها وخبيئتها، هي بداية الشوق الإبداعي، أو بداية الإبحار الإبداعي لمحمد بنعمارة. وهو الإبحار الذي سيتأكد بعدئذ ويمضي صُعدا في أوقيانوس الإبداع، بمجذاف واثق وصادق، لا يدركه كلل أو ملل.
ولي هنا ذكرى على ذكرى، لا بأس من إيرادها.
ذلك أني أيضا كنت في هذه الفترة من شُداة الأدب (أي مبتدئيه وناشئته)، أكتب القصة القصيرة والمقالة، وكانت أول قصة تنشر لي بعنوان (نهاية حب)، وذلك سنة 1963 بجريدة أسبوعية كانت تحمل اسم (صوت المغرب).
وهكذا كُتب علينا، أنا والصديق العزيز محمد بنعمارة، أن تكون "نهايات" شوقنا وحبنا، هي "بدايات" شوقنا وحبنا الإبداعي .. هي بدايات مغامرتنا الإبداعية، التي وحّدتنا وآختنا في جيل واحد، وشدتنا بعروة وثقى، وإن تعددت وتنوعت بيننا بعدئذ سبل الأدب واتجاهاته، فمضى كلّ لطريق.
لكن للحق أقول، إن المؤتلف بيني وبين محمد بنعمارة كان أكثر من المختلف، وما يقربني منه كان أقوى مما يبعدني عنه.
منذ هذا التاريخ الباكر البعيد، أصبح اسم محمد بنعمارة يوالي الظهور، مع ظهور كل قصيدة جديدة له، سواء على أعمدة هذا المنبر أو ذاك أو عبر أثير بعض البرامج الأدبية والشعرية بالإذاعة الوطنية.
منذ هذا التاريخ فصُعدا، أصبح اسم محمد بنعمارة أليفا ومعروفا لديّ ولدى القراء والمستمعين.
أصبح بالنسبة إلي رفيق درب وقسيم همّ، وإن لم نلتق لقاء أحبة إلاّ لِماما. لكن ما كان يجمعنا باستمرار هي هذه المواعيد الإبداعية التي لا تتخلف، عبر أعمدة الصحف والمجلات.
ما يشدني ويجذبني دوما إلى بنعمارة، هو هذا العشق الصوفي للشعر وهذا الاعتكاف النّسكي في محرابه، حتى صار ملاذه ومعاذه، والواحة التي في ظلها يستريح من أوضار الحياة وأوزارها.
لنقرأ له هذا المقطع، من قصيدته (في ظلها قد نستريح) /
- ( لولاك ..
أيتها القصيدة
يا نخلة في ظلها
قد يستريح المتعبون
يا مركبا
يأوي إليه المبحرون
يا نجمة
يرنو إليها المدلجون
- ( لولاك ..
ما كنت الذي
في سره
قد يورق.)
والقصيدة عند محمد بنعمارة، لم تكن مجرد كلمات وأخيلة وصور يلتذ ويفتن في صوغها وتطريزها، كما لم تكن تجريبا أو تمرينا حداثيا يساير به الوقت ويزجي به الفراغ.. لم تكن القصيدة عنده حبرا يسيل من قلمه، بل كانت دما يسيل من سويدائه وجنانه.
لنستمع إليه في نص (لا أكتب إلا بدمي)/
- (كلماتي ..
ليست خارج ذاتي
واللحظة ..
في محراب الحرف
دخول
في الزمن العاتي
لا أكتب إلا بدمي
أو ما تلهمه صلواتي
لست الفارس
لكن الشعر – حصان
تركبه شطحاتي.)
والشعر يُستشف ويُجتلى ، وتُراز درجة حرارته وشعريته من خلال لغته وطريقة سبكه وصوغه لهذه اللغة، فهو سيد الكلام، وفي كل قصيدة أصيلة قصيدة ثانية هي اللغة كما قال إيلوار.
ولبنعمارة لغة شعرية ناصعة ورائقة، جزلة وشفافة، تحمل نبضه الخاص ونغمه الخاص. لغة استقطرها واستصفاها من وجيب قلبه، كما استقطرها وااستصفاها من كثرة قراءاته وتنوعها، تراثا وحداثة.
إنه من الشعراء القلائل الذين تمكنوا من تحقيق المعادلة الصعبة بين الثراث والحداثة، أو بين الأصالة والمعاصرة.
وأسجل هنا للأمانة الأدبية والتاريخية، أن شعراء وجدة، وهم رصفاء ورفقاء محمد بنعمارة، ينحون هذا المنحى ويعزفون على نفس الوتر، كل حسب طريقة عزفه. وأخص بالذكر هنا، حسن الأمراني، ومحمد علي الرباوي، وعبد الرحمن بوعلي، ومحمد لقاح، ومحمد فريد الرياحي، والطاهر دحاني، ومنيب البوريمي .. وأستطيع القول بلا مغالاة أو ممالأة، إن هؤلاء الشعراء قد أسسوا مدرسة شعرية متميزة ضمن المشهد الشعري المغربي، وكان محمد بنعمارة أحد العنادل الصادحة والمرموقة في هذه المدرسة – الكورالية.
ولا أجد في وصف اللغة الشعرية الرقيقة والراقية عند بنعمارة، أفضل من قصيدته (هذيل) يقول في بعض مقاطعها /
- (لغتي ..
فراشات تطير
وريشة
مفتونة الألوان
تبني وثبة الأحلام قصرا
* * *
لغتي
المنابع
أنجبت ماء الحياة
فكان مجرى
* * *
لغتي
تغريدة الطير
وكلمة مسحورة
تنفخ الأيام شعرا).
وما يشدنا ويجتدبنا أيضا إلى شعر بنعمارة، على مستوى الرسالة الشعرية، هذا التجاوب العميق مع آلام الناس، وهذا الإنصات الحميم لمواجع الناس، وهذا الالتزام الصادق الحار بقضايا الناس، سواء في بلده أم في الوطن العربي والإسلامي أم في كل بقعة من المعمور، يسام فيها الإنسان الضيم والعدوان.
- (كنا نزرع موسيقى الحزن
فتخرج من بين الإيقاع حرائق أحزان الناس
منا نزرع شعر النبض
فتنبث في القلب سنابل آلام الناس).
- ( بقي الشعر كما كان
صرخة هذا الإنسان
المحترق بنار الإنسان).
وأظن أن الأوضاع السيئة والمتردية هنا وهناك، والتي تفاقمت مع الأيام والليالي سوءا وترديا، هي التي دفعت بالشاعر صوب نوع رهيف وشفيف من الصوفية الشعرية والإيمانية، فإذا بعشقه الصوفي – البدئي للشعر، يتحول بالفعل عبر أعماله اللاحقة، إلى معزوفات شعرية صوفية وشجية، تعد من أعذب وأجمل المعزوفات الصوفية في الشعر المغربي المعاصر، بعد معزوفات شاعرنا وأستاذنا الكبير محمد السرغيني، ورفيقه على الدرب سنديانة شعرنا عبد الكريم الطبال .. بل إن الشاعر، كما نعلم، قد رصد جزءا كبيرا من جهده البحثي والأكاديمي، لمقاربة ودراسة تجليات الصوفية في الشعر المغربي والشعر العربي. وذلك من خلال كتابيه (الصوفية في الشعر المغربي المعاصر – المفاهيم والتجليات). و (أثر الصوفية في الشعر العربي).
لكن الشاعر مع ذلك، لم يفقد صلته بالحياة وعشقه لها ولم يتجهم لها، بل ظل وفيا لها حفيّا بها وبرموز بهجتها.
- ( عبيد من الضوء
فينا المكان المضيء
وفينا الزمان الذي يشرب القطرات
وفينا ركام التراب
وفينا الحياة
وفينا الحياة
وفينا الحياة).
لا أريد، أو لا يمكن لي بالأحرى، في ختام هذه الورقة أن أعرج بكم على تلك الحدائق الغناء الفيحاء، حدائق الشعر الأثيرية، التي كان يشرف عليها ويتعهدها بحدبه الغامر ويبثها بصوته الباهر الفقيد محمد بنعمارة من إذاعة وجدة طيبة الذكر، والتي كون وغرس مشاتلها طيلة عقود وسنوات حوافل أربت على الثلاثين سنة. فهذا مجال آخر لإبداع الفقيد، يستحق لوحده مقاربة خاصة.
لست هنا في مقام تفصيل القول في أدبه الغزير النمير، بل أنا في مقام تحية لذكراه . أو بالأحرى في مقام نجوى روحية أعقدها مع الفقيد، القريب على بعد والبعيد على قرب.
وفي ظل الكوارث والنوائب العربية والدولية التي أضحت تقض مضاجعنا وتؤذي كرامتنا وضمائرنا، لا نملك إلا أن نقول على لسان المعري /
يا موت زر إن الحياة ذميمة / ويا نفس جدي فإن دهرك هازل
ولا نملك ختاما، إلا أن نقول لشاعرنا الفقيد محمد بنعمارة وعلى لسانه هو /
- استرح يا فتى
واستلم راية
للرحيل الجديد.