لم أكد انتهي من مشاهدة الفيلم المغربي (الجامع) للمخرج داود أولاد السيد حتى تبادرت إلى ذهني صورة الجامع الذي يستقر في صمت مهيب في مرتفع جبلي قبالة مدينة شفشاون. هذا الجامع يطلق عليه السكان المحليون اسم "بوجعافر"، لكن المؤرخ ( ) يرجع أصل التسمية إلى "أبو العصافير" وهذا الجامع لا تقام فيه الصلاة أبدا منذ إنشائه لأول مرة، ولا يتوفر على إمام، ولا يتعالى منه صوت الآذان، بل كان قبل سنوات قبلة للسكارى والمتشردين، مليء بالأتربة والأزبال، إلى أن قامت السلطات المحلية بترميمه وعينت له حارسا يشرف عليه، كما وضعوا حواليه كاشفات ضوء تزيده رونقا وبهاء في الليل. ويرجع سبب عزوف الناس عن أداء الصلاة فيه إلى أن الذي أمر ببنائه هو مسؤول فرنسي عسكري فرنسي في عهد الاستعمار حتى يقطع الطريق أمام المسلمين الذين يتقاطرون من المناطق المجاورة لأداء صلاة الجمعة في مدينة شفشاون، ويحول دون وصولهم إلى مساجد المدينة لدواعي أمنية. لكن الفقهاء في تلك الحقبة لم يجيزوا الصلاة فيه لأن الذي أمر ببنائه غير مسلم، ولأن نية إنشائه كانت لدواعي سياسية.
يحظى فيلم (الجامع) بإعجاب كبير من قبل الجمهور و الاعلاميين والسينمائيين بعد عرضه في عدد كبير من المهرجانات ضمن المسابقة الرسمية وحصل خلالها على عدد من الجوائز المهمة مثل:
جائزة "سينما في حركة" المنظمة في إطار مهرجان سيباستيان في شمال إسبانيا.
الجائزة الذهبية "باياردور" لأفضل سيناريو في المسابقة الرسمية للمهرجان الدولي للفيلم الفرانكفوني بنامور-بلجيكا.
جائزة التانيت" البرونزي " وجائزة الانتاج في الدورة الثالثة والعشرين لمهرجان ايام قرطاج السينمائية.
الجائزة الكبرى للدورة السابعة عسرة لمهرجان تطوان الدولي لسينما البحر الابيض المتوسط، وجائزة أحسن دور رجالي للممثل عبد الهادي توحراش في نفس الدورة.
إن فكرة فيلم (الجامع) لم تنبثق من خيال المخرج لكنها انبنت على أحداث حقيقية خلفها فيلمه الاخير "في انتظار بازوليني"(عام 2007) ولذلك فهذا الفيلم يعتبر امتدادا لديكور الفيلم السابق عندما استأجر المخرج قطعة أرض في قرية قريبة من مدينة ورززات، التي تستقطب العديد من المخرجين العالميين من أجل تصوير أفلامهم مما خلق فرصة شغل لعدد كبير منهم حيث يشاركون كممثلين مساعدين أو كومبارس، والبعض منهم يقوم بتأجير أرضه لإنجاز ديكورات أفلام سينمائية، وبعد انتهاء داوود اولاد السيد من تصوير فيلمه "في انتظار بازوليني"الذي يحكي عن قصة (........) ورحيل الطاقم لم يتم هدم الديكور فاعتقد الأهالي أنه مسجد حقيقي فدأبوا على الصلاة فيه ، خصوصا وأنهم كانوا يرون بعض أفراد طاقم الفيلم والكومبارس يقيمون الصلاة في ساحته. وهذا خلق مشكلاحقيقيا لمالك الأرض، لأن الأمر يتعلق بأحد الرموز الدينية التي تم الاشتغال عليها كديكور.
من هنا تبدأ أحداث الفيلم (الجامع) التي تشكل صراع شخصية حقيقية مع أخرى وهمية إمام المسجد في الفيلم السابق يتحول الى إمام حقيقي في الواقع حول الجامع / الديكور الوهمي إلى جامع حقيقي.
بأسلوب طبعته السخرية الهادفة يعرض الفيلم في حبكة فنية تزاوج ما بين الجد والهزل، والحقيقة والوهم، وتضارب الأفكار، محاولات "موحا" صاحب الأرض المضنية من أجل هدم الجامع الديكور كي يسترجع أرضه مصدر عيشه الوحيد. لكنه يصطدم بقوى تحول دون تحقيق مأربه لأسباب تعجز عن تجاوزها أية قوة فردية، والتي تتمثل في العقل المتحجر لأهالي القرية الذين يرفضون فكرة هدم المسجد من منطلق قناعتهم أنه محرم شرعا هدم بيت من بيوت الله، رغم أنه حاول إقناعهم أنه مجرد ديكور فيلم، وليس مسجدا حقيقيا، لكنهم يتجاهلون هذا السبب.
يصطدم أيضا بالشخص الذي يدعي الإمامة، وهو في الواقع ممثل قام بدور إمام مسجد غير مكتمل البناء، كان يجمع التبرعات من أجل إتمامه، ولعله تقمص الدور أيضا في الواقع، وتشبث بعدم شرعية هدمه مستغلا سلطته كإمام مسجد معتمدا على تشبث الأهالي بالجامع، وذلك في سبيل تحقيق مآربه الذاتية. كما أنه لا ينسلخ عن كونه ممثلا في نفس الآن، يكرس هذه الفكرة المشهد الذي يفد فيه السياح إلى القرية. فيسارع الى ارتداء ملابس جندي روماني، ويقوم بالتقاط صور تذكارية معهم كإشارة منه أنه أحد الممثلين الذين يؤثثون فضاء الأفلام السينمائية الأجنبية. وهذه إشارة الى استحواذ فئة معينة من رجال الدين على منابر المساجد في بعض دول العالم العربي، خصوصا الوسط القروي، مستغلين جهل الأهالي بأمور دينهم، فيتولون الامور الدينية على أسس فقهية باطلة. ويصبحون من خلال هذا الوضع مجرد ممثلين يتقمصون دور رجال دين من أجل تحقيق مآربهم الشخصية تتداخل فيها المصالح المشتركة لرجل السلطة ورجل السياسة.
في ظل هذا الصراع الذي يشتد بشكل اضطرادي، تنشغل زوجة "موحا" بختان طفلها، بعيدا عن هموم زوجها الذي يلجأ إلى أحد الفقهاء كي يفتيه في أمره، لكن الفقيه يحدثه عن ثواب الآخرة ومزايا ترك المسجد على حاله فوق أرضه متجاهلا محاولات موحا لإقناعه أن الأرض مصدر عيشه الوحيد، وأن البناء تم بنية ديكور فيلم، وليس من أجل أداء الصلاة. ويبدو أنه يمثل دين التوسط والاعتدال ودين العقل، في المقابل هناك دين يغلب عليه التحجر العقلي وجمود الفكر الذي يمثله أهالي القرية ويرسخه الفقيه الذي لا يجتهد في فتواه ولا يربط الأمور الدينية بالأحداث في الواقع.
وسط هذا الجدال الديني الذي يطبعه السعي إلى تحقيق المآرب الدنيوية والمساعي الذاتية. تبرز شخصية فقيه آخر متنور وزاهد يعيش وسط المقابر، والذي يلجأ إليه موحا في خضم معاناته مع الإمام المدعي، وأهالي القرية، فيستفتيه في قضيته ويؤكد له أن المسجد غير حقيقي ويجوز هدمه معللا فتواه بالأدلة الشرعية. بل إنه يؤازره في محنته، ويرافقه لهدم هذا الديكور لكن قوة أخرى تقف سدا منيعا أمام إقدامهما على ذلك، وهي السلطة المحلية، ويمثلها عون السلطة الذي يطلب من موحا أن يحصل على ترخيص هدم الديكور من المركز السينمائي المغربي بالرباط التي تبعد مئات الأميال عن القرية، وهي نفس الجهة التي منحت الترخيص لبنائه. الإحباط يكون من نصيب (موحا) الذي تم القبض عليه وترحيله في سيارة الدرك.