يصعب الحديث عن المسرح المغربي و العربي دون استحضار شخصية بارزة ، ناضلـــــت وصارعت من أجل إثبات الذات مسرحيا ، و نقصد بها شخصية المبدع و الناقد المسرحي رضوان أحدادو ، الذي يعد أحد رجال جماعة المسرح الإحتفالي ، و أحد أعضائها البارزين سواء من حيث انتاجاته الغزيرة الطافحة بالعطاء ، أو من حيث المنهجية التي سلكها في معالجة مواضيعه .
و لذلك، تعد تجربته تجربة فريدة و متميزة، استطاع من خلالها أن يجمــع بين التقليـــــــد و التجديد.
ويعد النص المسرحي " المتنبي يخطىء زمنه "، من بين و أهم الأعمال الإبداعية المسرحية ، التي تنضاف إلى المشروع الإبداعي للأستاذ رضوان أحدادو . وهو عبارة عن احتفال مسرحي في وصلات ، صدر عن مطبعة الخليج العربي تطوان ، في طبعته الأولى 2012 .
وبعد إطلاعنا على هذا العمل قراءة ونقدا ، تبين لنا أن صاحبه مهووس و ممسوس بالحديث عن تيمة الغربة عموما ، وغربة المدينة بشكل خاص . وهكذا ، فقد استأثر موضوع المدينة باهتمام الأدباء و الشعراء و المبدعين ، لأنهم وجدوا فيها مرتعا خصبا للتعبير عن معاناتهم وأحاسيسهم ومكنوناتهم ، كي يبوحوا بما يخالج نفوسهم ، لا سيما إذا وضعنا نصب أعيننا التغيرات التي مست المدينة العربية الحديثة في جميع جوانبها ، نظرا لهزات العصر المتتالية ، ونظرا كذلك للغزو الذي تعرضت له من قبل المدنية الغربية الحديثة ، وهو ما جعل المبدعين و المسرحيين يشعرون بالغربة و الضياع . ومن ثمة ، عملوا من خلال إبداعاتهم و كتاباتهم على التعبير عن هذا التمزق النفسي وعن هذه الانكسارات ، حيث إن المدينة الغربية ، جاءت بقيم و قضايا مخالفة لما يسود داخل مدننا العربية ؛ وهو ما حذا برضوان أحدادو إلى التعبير عما يخالج نفسه من هموم ومعاناة جراء هذا التقدم السريع ، خاصة وأنه تربى في كنف المدينة التقليدية بكل قيمـها وأخلاقها الإنسانية النبيلة ، حيث كان يسود التكافل و التضامن و الحشمة والإحتـرام و الوقــار ... لتتهـــاوى كـل هــذه القيم في ظل المدنية الحديثة، ويكــون شاهــدا على هــذا الضياع و السقــوط لتحل محلها بعض الأشياء التي لا تمس إلى هوية الإنسان العربي و قيمه بصلة.
و إذ يعبر رضوان أحدادو عن غربة المدينة العربية و همومها ومآسيها ، فلأنه يطمح إلى تأسيس المدينة الإحتفالية التي "هي بديل الغاب ، هي العمران بدل الخراب ، وهي الأنس بدل الوحشة ، وهي التوحد بدل الوحدة وهي الإتصال بدل الإنفصال ، وهي الداخل الذي يوحي بالأمن والإطمئنان وذلك في مقابل الخارج و الذي يسكنه الخوف و الرعب ، وهي الإنتماء بدل الغربة والإغتراب وهي الحضور بدل الغياب ، وهي الإمتلاء بدل الفراغ وهي الإنسان بدل الوحش وهي القانون بدل الفوضى وهي الأنا في حضرة النحن و في مواجهة الآخر "(1) .
لقد دعت الإحتفالية،باعتبار المبدع أحد أفرادها البارزين، ضمن بنودها الرئيسة ، إلى مدنية المدينة . ومن ثمة، يأتي هذا العمل الإبداعي المسرحي، ليجسد حجم الإحباط النفسي الذي أصيب به المبدع، نتيجة لغربته عن المدينة، وغربة المدينة عنه. والجدير بالذكر، أننا حينما نتحدث عن ذات المبدع، فإننا نتحدث عن الجماعة، عن غربة جيل بأكمله عن المدينة الحديثة التي أصبحت تعيش داخل المتناقضات.
وانطلاقا من مقاربتنا لهذا النص الدرامي، يمكن أن نرصد بعض أنــواع الغربة في المدينة.
إن المدينة التي يقصدها المبدع في عمله الإبداعي ، مدينة عربية ، لم يحددها بالضبط ، بل اكتفى بالعموميات ، يقول على لسان شيبوب : "هي مدينة فقط ، مدينة لا تشبه المدن و مدينة لا تشبهها المدن ، فيها تتلاقى المدن و تنسجم وعلى أبوابها تتباعد و تتنافر ، لا تحمل اسما معينا فسميها ما شئت يا مولاي .. وهي أيضا لها أسماء كثيرة، قل هي بغداد أو دمشق.. سميها حلب أو القيروان.. سميها مصر أو الشام.. مراكش أو الرباط .. أو .. أو .. أو .. سميها ما شئت " (2).
إن المدينة العربية التي يتحدث عنها المبدع لها خصائصها و مميزاتها، فهي تتسم بالغربـة وبالضبابية "آثار مدينة بعيدة و ضبابية "(1). إنها المدينة التي تحيى على أنقاض المفارقات والمتناقضات ، فإذا كان من سماتها أنها ذات ممرات وأشجار و نجوم و أقمار ، ومنازل متراصة ، وأنها ذات شرفات و منتزهات ، إلا أنها مع ذلك ، مدينة مسيجة . ومن ثمة، أصبحت تفرض القيود و الأغلال على كل من يرغب في زيارتها، ذلك أنه "لا يمكن الدخول إليها أو الخروج منها إلا بإذن و ترخيص مكتوب مسبقا و لو كان ذلك من أجل زيارة الأقارب و الأحباب، و صلة الأرحام"(2). فبالإضافة إلى التأشيرة التي ينبغي أن يتوفر عليها المرء للدخول إليها، فلا بد من التنصيص على أنها مدينة خشبية، عديمة الإحساس، ولهذا يفتقد فيها الإنسان أغلى ما يملك و يكسب، إنسانيته. وقد ميز المبدع على لسان المتنبي بين نوعين من المدن: "هناك مدن ماكرة و مدن مسالمة" (3). وتندرج المدينة التي يتحدث عنها المبدع في النوع الأول والتي وصفها قائلا : "إنها من الفصيلة التي لا ترى و لا تحس ، لأنها مدينة خلقت بلا روح ، بلا أحاسيس ، كل شيء فيها هو من إسمنت و خشب و حديد وحجر ، حتى البشر فيها بقلوب و عيون من إسمنت و خشب و حديد و حجر .. مدينة يفتقد فيها الإنسان إلى إنسانيته "(4). ومما يزيد من غربة المدينة ، أن القيم فيها تتراجع إلى الحد الذي يصعب معه التمييز بين الذكر و الأنثى ، إنها مدينة تتميز بالإنحلال الأخلاقي ، وبالتفسخ و بفراغ النفوس ، يقول عنها المبدع على لسان المتنبي : "هذه مدينة متفسخة ، صدئة ، عاهرة ، مدينة باعت عفتها و طهارتها .. مجدها و نخوتها، عزتها و شهامتها، فضاعت بذلك هويتها و ملامحها، لقد لبست عباءة كل المدن السافلة.. مدينة أناسها هم أيضا بلا أحاسيس و لا أرواح ، مستنسخون حتى ليتعذر على المرء التمييز و معرفة من الرجل فيهم ومن هي المرأة . معبأة بالفراغ و الخراب.. فراغ النفوس و خرابها "(5).
لم تقتصر الغربة على المدينة فحسب ، بل امتدت لتشمل أناسها ، حيث صارت العزة داخل هذا العالم الممسوخ لإثنين لا ثالث لهما : إما لصعلوك ، وإما لذوي المال و النفوذ . وأصبحت حقوق الناس مصادرة ، بما في ذلك ، الحق في الكلام و الحكي و الأحلام ، وهو ما حذا بالمبدع إلى أن يتساءل عن السر في ذلك ، مع العلم أن جميع الناس يولدون أحرارا،يقول على لسان المتنبي : "كيف يصادرون حق الناس في الكلام و الحكي و الأحلام وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا ؟ ! "(1).
بنــاء على ما سبق ، يمكـن القول إن المبدع رضـوان أحـدادو ، استطـاع أن ينطــق بهمـــوم
و انكسارات المدينة ، واستطاع أن يبوح بمعاناة سكان المدن ، خاصة أولئك الذين تربوا في ظل المدينة التي كانت السيادة فيها للقيم ، وكان الجانب الإنساني فيها هو سيد الموقف ، لتتبدد كل تلك القيم و تتهاوى ، و تصبح لغة " الأنا " بديلا للغة " النحن " ، ويصبح كل واحد يغني على ليلاه . ولذلك، أصيب المبدع بالغربة و الحرقة الجارحة، فلم يجد سوى المسرح ليعــري المدينة ويكشف عن دسائسها و حقائقها، لأن المسرح هو فن التعرية بامتياز. كما أنه يروم من خلال هذا الفضح ، والذي هو تشخيص للأعطاب التي تعاني منها المدينة ، التغيير و الوصول إلى مدينة يشعر فيها الإنسان بإنسانيته و يحقق وجوده.