... يتعلق هذا الحوار بالمشروع النقدي للشاعر والكاتب بوسريف ، مشروع يتناول الشعر العربي في مناحيه العديدة ، إنطلاقا من النص وامتداداته ضمن السياقات على إنعطافاتها . وفي المقابل كنا نوجه أسئلتنا من خلال استحضار مؤلفات الكاتب : رهانات الحداثة ، المغايرة والاختلاف ، بين الحداثة والتقليد ، فخاخ المعنى ، مضايق الكتابة ، الكتابي والشفاهي ، نداء الشعر ، حداثة الكتابة ، الشعر وأفق الكتابة..ساعين إلى إبراز المقولات ذات الأفق المعرفي والفكري والتي هي في حاجة دائمة إلى الكشف والمحاورة . وبالتالي ، فهذا الحوار لا يسعى أن يكون هدفا في حد ذاته كاستهلاك سريع ينتهي بانتهاء القراءة ، بل فتح نوافذ عدة على الساحة والمشهد الثقافي ، من ذلك افتراضا إنتاج معرفة مخصبة ، ومجترحة لآفاق مغايرة . ومتى يكون الحوار لبنة ومثرا للجدل ، يتحول إلى ملكية مشتركة كسؤال كبير ـ يتولد من الاختلاف وينشد فضيلة الحوار ـ ، نحن في حاجة إليه بين أعطاب تفسد الصلات وتدجنها دون سؤال أو أفق .
1- تتعدد أشكال الكتابة النقدية بين الدراسة و التحليل و البحث. . إلى حد يؤدي إلى عدم بروز موقع الناقد في الأدب و المجتمع. بالنسبة إليكم، كيف تحددون صورة الناقد ؟ وما دوره اليوم ؟
النقد، في معناه العام، هو مساءلة و تقص، و تعبير عن قلق ما إزاء ما يرصده الناقد من ظواهر، سواء أكانت اجتماعية، أم ثقافية. والنقد، بهذا المعنى، هو هذا القلق الذي ينتاب الناقد، و ما يشغله من أفكار و قضايا، أو ما يرى أنه جدير بالتأمل و المسألة و النقد. و إذا كان النقد قديما هو تعليق و ملاحظة، أو فرز و تمييز، خصوصا في مجال الإبداع، بما عرف عند العرب بشكل خاص، بتمييز جيد الشعر من رديئه، و كلمة نقد، هي في أساسها، كانت ذات علاقة بمجال العملة التي كان لها "نقادها" ممن يعرفون صالحها من فاسدها، فاليوم نجد، مع تطور الفلسفة و العلوم الإنسانية، و تشعبها، لم يعد النقد هو هذا المعنى بالذات، بل إننا أصبحنا أمام نقود، تختلف و تتنوع، باختلاف و تنوع المقاربات و القراءات و المفاهيم التي يستند عليها كل ناقد على حدة. ما يعني أن الناقد اليوم، لم يعد مجرد متذوق للنصوص، أو من تمتعه هذه النصوص ليكتب عنها بمتعة، أو ما يسميه البعض ب "القراءة العاشقة"، في مقابل "القراءة العالمة" التي لها أدوات، و تحتكم إلى المعرفة النظرية. الناقد أصبح ملزما بالانفتاح على حقول المعارف الإنسانية المختلفة، لا يمكن لناقد يريد أن يقرأ التراث الشعبي العربي أن يكتفي بالمنهج اللساني، في دراسة و بحث بعض الظواهر الإنسانية في هذا الشعر، فمعرفته بالتاريخ الجمالي للغة العربية، ما حدث من انتقالات، في هذا التاريخ، من الشفهي إلى المكتوب، و أثر الكتابة في الشفاهة، و أيضا التعبيرات و الجمل و الصور التي كانت في لحظة من هذا التاريخ مهيمنة و منتشرة في هذه النصوص، و ما عرفته من تحول، و ظهور غيرها من التعبيرات و الجمل و الصور، فهذا و غيره، هو ما يمكنه أن يفتح أمام هذا الناقد، أو الباحث طريق الشعر، و يجعل من قراءته تكون ذات عمق معرفي، و مفيدة في ما يمكن أن تحققه من إضافات. و هذا يفرض في الناقد أو الباحث أن يتحلى بالصبر و بالذكاء في مراقبة هذه الانتقالات الجمالية، أو ما يخرج من شعرية النص من سياق إلى آخر. النص أهم شيء في القراءة، لكن هذا النص يستدعي تاريخه، و يستدعي السياقات التي ظهر فيها، و طبيعة الرؤية الجمالية التي كانت تحكم وعي الشاعر آنذاك.
لا يمكن اليوم الحديث عن ناقد دون الحديث عن معرفة يتداخل فيها الشعري بغيره من العلوم و المعارف التي أصبحت ضرورية في كل قراءة تريد أن تكون إضافة، لا كتابة تقول العام و المشترك. نحن اليوم في حاجة لنقد ينهض بالشعر، و يخرج به من السائد و المعروف، إلى ما لم نعرفه بعد، أو ما لم نكن انتبهنا إليه من قبل. و الناقد هنا يصبح مبدع أفكار و فاتح طرق، في الشعر كما في الفن و الفكر، لا فرق. أما أن يكون النقد مجرد واصف للنصوص، مثل الماسح الطبوغرافي، فهذا لن يساعد في اختبار جرأة النصوص، و ما تقترحه من أشكال و صور و إيقاعات و أفكار. فناقد بدون وعي جمالي، و بدون ذائقة شعرية، و هي شرط سابق على القراءة و البحث، لا يمكنه أن يفتح في هذا النص جروحا، فهذه القراءة المتذوقة للنص هي الثلم الذي يتيح تشقيق النص و توسيع تصدعاته، و هذا بالأسف ما لا نجده اليوم في كثير من النقد الأكاديمي الجاف و الخالي من الإحساس بالنص، لأن هذا النقد يضع الأداة بشكل سابق على النص، و يعتبرها هي الحكم، و هذا قهر للنص و قتل له، في مقابل الأداة.
2- في دراساتك ، اشتغلت أساسا على الشعر و مسيرته. أولا، لماذا الشعر بالذات؟
أول شيء شدني و أثار انتباهي، و أنا في مراحل تعلمي الأولي، هو الشعر. أعني الطريقة التي بها يتم توزيع الكلام و ما فيه من تكرار و من نغم. و أنا هنا أتحدث عن "الأناشيد" التي كانت تغنى، و كنا نحفظها مغناة بشكل جماعي. فما كان فيها من حيوية و متعة، و ما كان يصاحبها من حركات جسدية، و استعمال الجسم بكامله في القراءة و حتى ملامح الوجه، كل هذا جعلني أنتظر اللحظة التي سننتهي فيها من دروس القواعد و الحساب و الخط و الإملاء، و غيرها من المقررات التي لم أكن فيها نفسي، لننتقل لهذا الكلام الجميل و الممتع، بالنسبة لي على الأقل. في فترة لاحقة، و سأكتشف أن الشعر هو كلام لا يشبه الكلام، حتى دون أن أعرف لماذا، رغم أن الصفحة، و طريقة القراءة، التي كنا نقرأ بها هذه القصائد، كانت رغم رداءتها، كافية لتفضح الفرق بين الشعر و النثر. فالشعر، جاءني من هذا الغناء، و من إيقاعاته و صوره، و كثيرا ما كنت أقرأ هذه النصوص بصوت عال، فقط، لأستمع للتكرارات الصرفية و الصوتية، أو تكرار القوافي، و هذا التوازي بين الشرطين من حيث عدد التفاعيل، رغم جهلي بها. فالإنصات، عندي و التذوق و الإحساس بشعرية النص، سبق الوعي بها، و هذا مهم في التعلم، و هو ما لم نتلقه في المدرسة، و أنا بمحض رغبتي الذاتية في القراءة اكتشفت أهمية الشعر، و ربطته، دائما، بالموسيقى و النغم، و بما فيه من صور و خيالات.
و هذا ما كنت سميته ب "نداء الشعر" في كتاب لي بنفس العنوان، و هو نداء لا يمكن أن نتدخل في تحديد مصادره، ولا كيف يأتي إلينا، أو المكان الذي يفد منه.
فالشعر، كما ترى، هو قدر، أو هبة، أعتبرها بين أهم ما ساعدني على فهم كثير من الأمور التي كنت سأحتاج لوقت كبير لأفهمها، لو حاولت هذا من خارج الشعر. فالشعر بهذا المعنى، هو ضوء و طريق، أعني أنه صيرورة و ماء دائب باستمرار.
3- القصيدة العربية معيارية، و لم تتحرر من الشفاهي كما تقولون. ما هي القوانين و المسلمات التي حالت دون فتح آفاق شعرية مغايرة؟
هذا ما أشرت إليه قبل قليل. نادرة هي القراءات التي وعت هذا الشرط الذي تأسست عليه، ليس القصيدة العربية، بل الثقافة العربية التي كانت و ما زالت ثقافة شفاهية رغم ظهور الكتابة، و انتقلنا للكتابة الرقمية، أو استعمال الحاسوب في الرقن و توظيب النصوص. أغلب النصوص الحديثة و المعاصرة، أو نسبة كبيرة منها، لم تخرج من الوعي الشفاهي، فهي تكتب باللسان، أو هي كتابة إملائية ملفوظة على الورق، أي أن الورق يصبح في هذه الحالة، مجرد سجل، أو حامل Support و كلمة "ديوان" التي جاءتنا من الفارسية، هي صورة لهذا التسجيل و النقل. فنحن لم ندرك بعد الثورة التي حدثت مع الكتابة في الوعي العام، و في الإدراك و التمثل، و هذا ما جعل "الشعر الحر"، كما نسميه بحكم العادة، رغم ما حدث فيه من خروج عن النمط القديم و التقليدي، لم يكن انقلابا على هذا النمط، و الحداثة بالتالي، بقت ناقصة، أو كانت نوعا من "مساومة" الماضي، أو البناء النصي للقصيدة.
طبيعة الشعراء الذين بادروا لهذا الخروج، كانت ثقافتهم تقليدية، و كان الشعر الذي تربوا عليه هو نفسه الشعر الشفاهي الذي بقي عالقا في ذوقهم و في وعيهم و في وعيهم و في ذائقتهم الشعرية. فالثقافة الإنجليزية، و معرفة هؤلاء بالشعر الإنجليزي الذي كان انتقل إلى طور من التحديث متقدم، هو ما ساعد على تجريب ما يحدث هناك على ما يحدث هنا، أي في الشعر العربي، لكن مع جرأة منقوصة. ربما يكون الوضع الثقافي العام، و طبيعة المرحلة التي كان فيها المد القومي منتشرا، مع انتشار الفكر الماركسي و ظهور الوجودية، و غيرها من التيارات الفكرية و الإيديولوجية، ساهم في هذا الانحسار، و في هذه المساومة، لكن عدم وعي الفرق بين المكتوب و الشفاهي، و إلى اليوم، لا زال من العوامل المعرفية التي تكبح انتقالنا الشعري من "القصيدة" إلى "الكتابة"، و قد كان لي أكثر من كتاب في هذا الموضوع، خصوصا كتاب "حداثة الكتابة في الشعر العربي المعاصر"، و هو الكتاب الذي وقفت فيه عند هذا الانحسار المعرفي و الإبداعي، بنوع من النقد الجذري للأسس الإبستمولوجية التي قامت عليها الرِؤية الثقافية عند العرب، و ليست فقط الرؤية الشعرية، منذ قديم هذه الثقافة إلى اليوم.
4- وهذا ما يدفعني للتساؤل معك بشأن هذا الاهتمام المفرط بالوزن (المقنن) باعتباره الدال المهيمن و الأكبر، مما أدى إلى تجاهل أو نسيان و قتل دوال نصية أخرى. ما هي، في نظرك الدوال الجديرة بالاهتمام، أو التي يمكنها أن تفتح الشعر على أفق الكتابة؟
النقد هو من اختزل في الوزن، باعتباره الدال الأكبر Le Signifiant Majeur، خصوصا في مراحله الحديثة. أنت عندما تعود للمدونة النقدية القديمة، في مصادرها الأساسية، ستكتشف أن الذين استعملوا مفهوم "عمود الشعر"، كانوا يتكلمون عن مكونات نصية، أو دوال متعددة، و لم يختزلوا الشعر في الوزن وحده. اليوم، أصبح مفهوم عمود الشعر إما يختزل في تقابل الشرطين، أو في الوزن أو في عروض الشعر، بشكل ضمني، و هذا فيه تقليل من قيمة الشعر نفسه، فالوزن هو في جوهره إيقاع، و الشعراء في الجاهلية لم يكونوا على علم بهذه الأوزان، فهم، بتعبير ابن رشيق "توهموها"، بمعنى كانت جزءا من الذائقة الجمالية و الشعرية عند هؤلاء الشعراء، الخليل، بعقله الرياضي، هو من استنبط هذه الأوزان، أخذ منها ما انطبق على العام و الشائع، و أبعد ما لا يضمن له شروط القاعدة، أو القانون و هذا عمل العلماء، فهم لتثبيت عملية الظواهر التي يدرسونها، يتخلون عن الشاذ و يهتمون بالعام، أو ما يقبل التعميم.
لا يمكن في الشعر القديم و التقليدي، الحديث عن دوال أخرى غير هذه التي وصلوا إليها و استعملوها بوعيهم الشفاهي، الذي هو في السياق العام لرؤيتهم الجمالية و الشعرية، فهذه الدوال كانت هي "الثابت" في هذا الشعر، و عصر التدوين، كان لحظة تثبيت و حصر الشعر في "القصيدة"، و في "عمود الشعر"، الذي كان تشخيصا لطبيعة الرؤية البيانية في الثقافة العربية، التي تتوخى من الشعر أن يكون هو "المقاربة" بين الدال و المدلول، لا "التبعيد"، Distanciation ، بالمعنى الذي يعطيه له هربرت ماركوز. فأبو تمام كان بين أهم من اخترقوا هذه الرؤية البيانية، و ذهب إلى هذا التبعيد، و شعره، كان بين ما حفز الشاعريين القدامى لوضع قواعد ضابطة للتصوير الشعري، و للعلاقة بين الدال و المدلول. رغم أن أبا تمام لم يستطع أن يخرج عن الوزن، أو عن نظام الشطرين، فهو كتب بنفس طريقة الجاهليين، لكنه خرج عن لغتهم، و عن الجمالية اللغوية القديمة، أي عن عمود الشعر، بما أنجزه من انتهاكات في هذا السياق، خصوصا هذا التبعيد في العلاقة بين ظرفي التشبيه.
توسيع الدوال يكون مع الكتابي و ليس مع الشفاهي، ففي الكتابة تظهر الصفحة و البياض كدال لا يمكن تفاديه. فالورقة المفردة أو المزدوجة، ليست حاملا، بل إنها دال مهم في الجمالية الكتابية، و في شعرية الكتابة، و هي تعمل على تخفيف النص من عبء الشفاهي، أو من هيمنته. فهنري ميشونيك انتبه لهذا و اعتبر الشفاهي ضروري في الكتابة، و لكن ليس باعتباره مهيمنا، أو عنصرا بانيا، بل إنه دال ضمن دوال أخرى كثيرة، هي ما يضفي على الشعرية المعاصرة، وعيها الكتابي، و يخرج بها من مفهوم الدال الواحد المهيمن، كما سقطت في ذلك الشعرية المعاصرة، عند ميشونيك الذي اعتبر الإيقاع، بدل الوزن، هو الدال المهيمن، و هذا ما تبعه فيه بعض الذين لم يخرجوا فهمه لهذه الشعرية، أو لم ينتقدوه بالأحرى.
5- الشعر، إذن، هو تحقق و إمكان، هو ذلك الذي ننتظره في الضفة الأخرى ربما. ما هي تجليات و مرتكزات هذا الفهم؟
لا يكمن النظر للشعر باعتباره شيئا يأتينا هكذا بالصدفة، أو هو على موعد دائم معنا. حين اعتبرت الشعر نداء، فأنا كنت أهجس بهذا المعنى، لأن النداء يحصل في لحظة ما، في مكان ما، لكن الذي يأتيه النداء هو شخص مهيأ، بفكره و بلغته و بخيالاته و بوجدانه، و بموهبته أيضا، ليجيب على هذا النداء، أو يستجيب له، ليس بمعنى أن النداء يملي على الشاعر ما يريد، بل إن الشاعر يعمل على استنفار كل حواسه للكتابة، و لدخول ورشة العمل الشعري، بتجربته و بثقافته و بحسه النقدي و الجمالي، و بما له من إمكانات تعبيرية، ومن معرفة بالشعر، في علاقته بباقي الأنواع التعبيرية الأخرى، سواء أكانت كتابية، أو فنية تعتمد على الرؤية و على العين، مثل السينما و النحت و التشكيل و الهندسة المعمارية، التي لها علاقة بالفراغات. إذا اعتبر الشاعر نفسه يتلقى الشعر من جهة ما فهو سيكون مجرد آلة أو أداة، أو مجرد وسيط، وظيفته السخرة، و هذا ما كان ابن شهيد الأندلسي فعله في كتابه " التوابع و الزوابع" حين نظر للشاعر باعتباره وسيطا لشيطان ما هو من يضع على لسانه كل الكلام الذي يلفظه، و هذا في الحقيقة له فهم ديني، على اعتبار أن الشعر هو فعل شياطين أو جن، بما توحي به كلمة شيطان أو جن في القرآن من معاني هي ما عبر عنه القرآن بوضوح في سورة الشعراء بالاستثناء، حين اعتبر من "آمنوا" هم الشعراء، و غيرهم هم من تكفل عمر بن الخطاب بالحكم عليهم بالنار، و على رأسهم امرئ القيس، هذا الأب الرمزي للشعر العربي، في حدود ما وصلنا من شعر.
الشعر لا دخل له بهذه الثنائيات الغيبية، و هو خطاب بشري، ينتجه أو يبدعه إنسان، و هو المسؤول عن كل ما فيه من ضعف أو إضافة، و لذلك، فهو بقدر ما هو "تحقق"، فهو "إمكان"، و هو وعد، أو ما سميته، دائما، بالوعد الشعري. نحن لا نقول الحقائق، نحن نهجس و نرى، بالمعنى الذي أعطاه للرؤيا، أو "الرائي".
6- الشعر كثرة، و ليس جمعا، كما تقول، بأي معنى؟
في سنوات اشتغالي على أطروحتي الجامعية التي كرستها لموضوع "حداثة الكتابة في الشعر العربي المعاصر"، وجدت أن هذه الحداثة التي نتحدث عنها، هي حداثة منقوصة، أو حداثة لا يمكن فهمها في السياق العربي، و في السياق العربي الإسلامي بشكل خاص، دون العودة للماضي، أو للتراث الشعري، و أيضا للتراث النقدي، بكل ما يحملانه من أسرار، لها علاقة بهذا الحاضر الذي ادعينا أنه قطع مع الماضي، أو في أقصى الحالات، اعتبرناه انقطع عنه، أو أنه الذي لم يتقبل التحول أو الصيرورة.
في عودتي للتراثين الشعري و النقدي، لاحظت أن الشعراء لم يكونوا مشغولين بالنقد، و لم يعملوا على تقعيد الشعر و تثبيته. كانت الشعرية السائدة، آنذاك، هي شعرية التوازي و التقابل، و شعرية التكرار أو المعيار، التي كانت تعتبر التقابل هو ما يضمن وضوح الرؤية و المعنى، و توقيع النص، وفق حركية وزنية فيها يتعاقب الساكن و المتحرك، بنوع من التناوب الذي يفضي لإيقاعات، هي ما سمي بأوزان. لاحظ الرغبة في التقعيد و القياس، فالإيقاع سيصبح ميزانا لضمان التساوي و التوازي و التقابل. ثمة من الشعراء من حاول كسر هذا التقابل و هذا التوازي، لكن الذوق العامة، أو الجمالية السائدة، كانت تفرض نظام الشطرين الذي ينسجم مع طبيعة الوعي الشفاهي الذي هو البنية المستحكمة في الثقافة العربية. النقد هو من عمل على تسمية الأشياء، ليس بوصف ما يجري في الشعر، بل بافتراض ما يجب أن يكون عليه الشعر، من خلال "القصيدة"، التي كانت هي المعيار. ما غير القصيدة، من مقترحات أخرى، تم حذفه، و اعتبر شاذا خارجا عن الإجماع. لاحظ، أيضا، سلطة الديني على الشعري. في هذا السياق، و تحديدا مع فترة التدوين، أصبحت "القصيدة" هي الشعر، في ما الشعر لم يكن جمعا للقصيدة، بل هو كثرة، هو أشكال و مقترحات شعرية، ستحجبها "القصيدة" التي أصبحت هي الخطاطة الرسمية للشعر. و كلمة "شعر" هي كلمة مشتركة بين العربية و العبرية، و مع بعض لغات بلاد الرافدين في العراق القديم، ما يعني أن الشعر هو أوسع من "القصيدة" في تسميتها العربية، التي لا تقبل الترجمة لأية لغة أخرى.
كلمة شعر، هي أثر للحذف و الإبطال الذي جرى في الشعر العربي على الأشكال و الأوزان و الإيقاعات التي لم يقبلها الإجماع، و هي أيضا الثلم الذي من خلال تصدعاته و شقوقه يمكن أن نقرأ تاريخ الشعر العربي الذي ليس هو تاريخ القصيدة فقط، فهذا تاريخ مؤسسي رسمي، هو تاريخ التدوين، لا التاريخ الجمالي للشعر و اللغة العربيين.
7- تولي أهمية للبياض و الصفحة، هل يمكن الحديث هنا عن شعرية البياض؟ هنا أتساءل عن الخلفية التي تغذي هذا الفكر عندكم؟
اسمح لي أن أذكرك أن الوجود تعاقب، فهو بياض يليه سواد، أو ليل يلج النهار كما يلج النهار الليل. الكتابة، و أنا لا أتحدث بتاتا عن "القصيدة" هنا، أي عن الشفاهة أو الوعي الشفاهي، هي وجود في عمق، و ليس في سطح. ثمة فرق دقيق و جوهري بين الإثنين، فمن يحتكم في الكتابة الوعي الشفاهي، و يكون عنده هو المهيمن. تكون الصفحة أو البياض عنده سطحا، ينقل عليها ما يخرج من فمه، أو من لسانه، لكن حين يكتب الشاعر، و لا يدون، مثلما نجد في نموذج مالارميه، فالصفحة تصبح بئرا مرعبة، أو عمقا، يعرف الشاعر مسبقا أن هذا البياض ليس أداة أو وسيطا، بل دالا من دوال النص، و أن اليد، و هي تخط على الورقة، بقدر ما تمتحن بلل الحبر و سيولته، بقدر ما تدرك أن الفراغ، و تنويع الخطوط، و توزيع الجمل في فضاء الصفحة، و حتى الخطوط، بما يوفره لنا الحاسوب اليوم من إمكانات، هو بين ما يعطي الشعر مساحة مضاعفة، هي أوسع مما نراه بالعين المجردة، أو العين التي لا تقرأ إلا السواد. و هذا ما كنت اعتبرته قراءة عمياء، لأنها لا ترى إلا السواد.
النقد اليوم، و خصوصا نقد الشعر، قبل أن يذهب لأمور بعيدة عن الشعر، عليه، أولا أن يخوض في هذا الوعي الكتابي، و يعي بدوره، أن الشعر اليوم هو كتابة، بما تعنيه هذه الكلمة من ازدواجية في مدلولها، الكتابة باعتبارها ممارسة بالخط و الحبر على الورق، و الكتابة باعتبارها الشعر الذي استعاد بدائيته التي كانت مشترك كل الثقافات الإنسانية، و مشترك اللغة، و هي تعود لطبيعتها و أصلها، كما استثمرتها النصوص الأولى ، الدينية و غير الدينية، دون تمييز "النثر" فيها عن " النظم" و ليس عن الشعر، فالفرق بينهما كبير.
الشعر اليوم، بمعناه الكتابي، يصعب إنشاده و تلاوته و لفظه، فهو يحتاج للقراءة الصامتة التي يكون فيها التوقف و الاحتباس و التأمل، و تكرار القراءة، و هذه من الأمور التي خرجت بالشعر المعاصر من الجماهيرية الواسعة، إلى القارئ المتمعن المنصت الذي يرافق النص لوقت طويل، و هي أيضا خروج بالشعر من الإنشادية الطقوسية أو الدينية، رغم كل ما يحدث من تجوُّز في قراءة مثل هذه النصوص في اللقاءات العامة. سان جون بيرس كان يرفض قراءة شعره في المحافل لهذا الاعتبار، و من هنا تأتي صعوبة ترجمته، و قراءته بأريحية، و هذا ما ينطبق على شاعر فرنسي آخر، هو هنري ميشو.
8- تقولون ب " حداثة الكتابة"، و هي مقولة اشتغلتم عليها على مدار أكثر من كتاب. لكن رغم ذلك يحتاج هذا الأمر إلى مزيد من التوضيح.
هذا المفهوم، في كتاب "حداثة الكتابة في الشعر العربي المعاصر"، له ما يقابله، و هو مفهوم "حداثة القصيدة". بدون هذين المفهومين، و بدون السياق الذي وردا فيه، في هذه الدراسة، لا يمكن فهم المعنى الذي أقصده بهذا المفهوم الذي له امتدادات في التراث الشعري و النقدي القديمين. و تحديدا في الخلفية الشفاهية ل "القصيدة".
"حداثة القصيدة"، هي التسمية التي رأيت أنها تصلح لما سمي ب "الشعر الحر"، و هي ترجمة، أكثر منها مفهوما خرج من التجربة نفسها. فهذه التجربة التي كانت اختراقا لبعض بنيات "القصيدة"، لم تخلص هذه التجربة الحداثية من البقاء في "القصيدة"، و في بنياتها الشفاهية. ما حدث كان تخفيفا للقصيدة المعاصرة، من بعض الخواص البنائية، و لم يكن ثورة أو انقلابا شاملا. فأنت حين تقرأ شعر السياب تجد أن ما كتبه، حتى في "أنشودة المطر"، هو خروج نسبي من بنية القصيدة، و من الشكل الشفاهي الذي بقي حاضرا في شعر السياب. و هو ما ينطبق على نازك الملائكة و على البياتي و أدونيس، و خليل حاوي، و أحمد المجاطي، و صلاح عبد الصبور، و غيرهم، في هذه المرحلة التي هي "حداثة القصيدة" بما تعنيه من نزوع نحو الحداثة و التحديث، و من رغبة في عدم القطع مع "القصيدة"، و مع الوعي الشفاهي. هذا يمكن أن تجده لاحقا عند من كتبوا بوعي كتابي، و من شرعت نصوصهم تتخفف من هيمنة الشفاهي. أدونيس، مثلا، في عمله الشعري الكبير و الهام في الشعرية العربية المعاصرة، "الكتاب، أمس المكان الآن"، لم يخرج من الشفاهة، رغم ما كان عنده من وعي بالصفحة كدال، فهذه من المفارقات التي تزعج القارئ الذي يدرك معنى الفرق بين الوعيين شعريا. صفحات تتقاطع فيها نصوص، و إشارات و هوامش متعددة، لكنها في المتن، بشكل خاص تبقى الشفاهة هي ما يهيمن على النص، فهي ليست من مكونات النص، و من دواله، بل إنها الدال البارز و الأكبر. و هذا ما يجعل هذا العمل الشعري الكبير، يبقى مشدودا ل "القصيدة"، رغم ما فيها من اقتراحات شعرية عظيمة.
يمكن أن نتلمس "حداثة الكتابة" عند سليم بركات، مثلا، باعتباره من المغامرين في اقتراح شكل مفتوح للحداثة، لا يمكن البثة اعتباره "قصيدة"، والوعي الكتابي هو ما يتحكم فيه. فالصفحة، عنده هي بين الدوال التي تضاعف انشراحات النص. و هذا يمكن تعميمه على " مجنون ليلى" و " قبر قاسم" و " طرفة بن العبد"، عند قاسم حداد، و عند عبد المنعم رمضان في أعماله الأخيرة، و آخرين، ممن يصعب اعتبار تجاربهم داخلة في "قصيدة النثر"، هذا المفهوم الذي تستوعبه "حداثة الكتابة" و تتجاوزه.
أدرك جيدا أن هذه مفاهيم، و اقتراحات تحتاج لوقت، و لوعي مغاير لما هو سائد من مفاهيم لم نتخلص منها بعد، و منها "القصيدة" التي تستعمل دون مساءلة، علما أن "المفاهيم معالم"، بتعبير الدكتور محمد مفتاح، فهي تجر خلفها تاريخها، و آثار الطرق التي قطعتها. لكن، رغم ذلك فأنا أراهن على المستقبل، و على التحولات التي تجري في وعي الناس بشكل تدريجي، رغم ما تعمل المدرسة و الجامعة على تكريسه من قيم تقليدية، و من مفاهيم، هي اليوم، أكثر من أي وقت مضى في حاجة للخلخلة و المراجعة و الاختبار. فبقاء المفهوم نفسه منذ أكثر من إثني عشر قرنا، رغم ما نضفيه عليه من ترقيع، هو تعبير عن عجزنا الفكري و النقدي على ابتداع مفاهيم تخرج من زمننا نحن، و تكون تعبيرا عن اقتراحاتنا. فنحن لسنا صدى لغيرنا.
9- من المعلوم، أن التجارب و الاتجاهات الشعرية عربيا، كانت ترفق ببيانات. لكن هذه الأخيرة تكون أحيانا مفارقة للنصوص و المنجزات النصية، ما هي قراءتك الخاصة للبيانات الشعرية العربية؟
البيانات مهمة جدا في مصاحبة الشعر، فهي نوع من الضوء الذي يكشف طبيعة المغامرة أو التجربة التي يقدم عليها الشعر، إما بشكل مفرد، أو ضمن جماعة ما، لها اقتراح شعري جديد و مغاير. فبيانات الدادائيين، و بشكل خاص السرياليين، في فرنسا، في العشرينيات من القرن الماضي، كان لها دور مهم في تحريك طاقة الإبداع و الخلق، و في تحرير الفكر و الإبداع، معا، من هيمنة التقليد، و الانتصار للقيم الرومانسية التي كانت ما تزال حاضرة في وعي الناس، و في تكوينهم الثقافي و المعرفي. فتحرير العقل من رقابة الوعي، و هو تحرير، في الحقيقة للخيال، و الانتقال إلى الكتابة دون رقابة العقل و مراجعاته، أو ما سمي إبانها ب "الكتابة الأوتوماتيكية"، كان له تأثير كبير على الشعر الذي خرج من سياق إلى سياق آخر، و من أفق جمالي إلى أفق جمالي آخر، و نقل الكتابة الشعرية إلى مرحلة تحررت فيها اللغة ذاتها من هيمنة الرواسم و التعبيرات العامة التي لم يعد فيها إبداع أو إضافة.
البيانات هنا، هي خلخلة للثوابت، و تحرير لفكر الإنسان و لخياله، و هي لم تبق محصورة في الشعر، بل تعدته، إلى كل مجالات المعرفة و الفن، و إلى الإنسان نفسه، الذي أصبح يفكر بطريقة أخرى، و يتعامل مع اللغة ليست كمعطى، بل كإمكان، و كمادة قابلة للابتكار و الإضافة.
عندنا في الشعر العربي، كان أول بيان شعري هو بيان خليل مطران الذي صدر سنة 1908، و فيه ظهرت رغبة مطران في التغيير، و في الخروج عن النسق الشعري التقليدي، لكن بيان مطران كان أكبر من رغبة الشاعر. فهو لم يستطع نصيا أن يخرج عن هذا النسق، و بقي البيان مجرد حلم. و هذه الوقائع هي الصورة العامة لمجموع البيانات الصادرة منذ هذا التاريخ إلى اليوم، أو إذا شئنا أن نعود بالأمر إلى الوراء، يمكن اعتبار وصية أبي تمام للبحتري في كيفية كتابة الشعر و التعامل معه، هي أول بيان لم يستطع شاعر مثل أبي تمام أن يخرج فيه عن النسق الشعري القديم. هذه لم تستطع أن تخرج عن الوعي الجمالي السائد، لأن النص الذي كانت تتكئ عليه، لم يكن خرقا أو خروجا عن النسق الشعري. "البيان العراقي" الصادر سنة 1969، رغم أهميته، في ما يتعلق بمفهوم "القصيدة"، و رغبة المجموعة الموقعة عليه في الخروج من هذا المفهوم لغيره، فهو لم يذهب بعيدا في تجربته، و كان الشاعر الوحيد ضمن المجموعة الأكثر جرأة في هذه المرحلة هو فاضل العزاوي، الذي كانت مجلة "مواقف" نشرت له نصوصا مهمة، و أشادت بهذا البيان، في حينه. و إذا كان "بيان الحداثة" عند أدونيس، هو بيان لا يكتفي بالشعر، و يذهب إلى ما هو أوسع و أشمل، و كان تعبيرا عن مرحلة مهمة في الفكر و في الإبداع العربيين، ف"بيان الكتابة" بقي رغبة، و لم يخرج من هيمنة المفاهيم التقليدية، و من "القصيدة" تحديدا، رغم كل الاختراقات المهمة التي قام بها أدونيس في عدد من نصوصه، و رغم النص الخارق الذي نشرت منه المجلة مقاطع كبيرة، للنفري "المواقف و المخاطبات" الذي ينطوي على الوعي الكتابي، و على وعي جمالي له أفق مغاير ل "القصيدة". الوعي الشفاهي ظل مهيمنا على تجربة أدونيس، بما يعنيه هذا الوعي من رسوب "القصيدة" في وعي الشاعر نفسه، ليست باعتبارها وزنا و قافية، أو نسقا تعبيريا معينا، بل باعتبارها نسقا في التفكير و في اللغة التي لم تخرج من التفكير و الكتابة باللسان، و كما قلت قبل قليل، فتجربة "الكتاب، أمس المكان، الآن" تعكس هذا العائق الماضوي، في المسافة الموجودة بين الشكل و توزيع الصفحات، و بين لغة النص التي لم تتخلص من هذا الماضي. و هذه هي مشكلة البيانات دائما.
كنت انتقدت البيانات العربية، بما فيها "بيان الكتابة" الذي صدر في المغرب، و هو صورة لبيان الكتابة عند أدونيس لا فرق، رغم ما حاول أن يضفيه على نفسه من خصوصية محلية، من خلال الخط المغربي، و هو خط مخزني و له أيضا حمولة دينية، الذي زاد من بلل طينه، و لم يكن إضافة و لا خصوصية في التجربة. و هذا البيان بدوره لا علاقة له بالكتابة، هذا المفهوم الذي كان موضة آنذاك، بالمفهوم البارثي، و هو غير ما أذهب إليه في سياق "حداثة الكتابة". فالاستفادة من تجارب الآخرين و من إخفاقاتهم، هي دائما فرصة للتعلم ، و للرغبة في تجاوز العوائق و المشكلات. و مهما يكن، فالنص سيبقى أكبر من النظرية، و أكثر تقدما منها، لأن النص سابق على النظرية و ليس العكس. أن نصدر بيانا ثم نكتب، هذا خلل و عطب في الرؤية و في الفهم، و هو ما وقع للبعض ممن هيأوا العصا قبل الغنم، كما يقال عندنا في المثل الدارج.
10- الشعر توق مستقبلي. فكرة نظرية جميلة. ما هي امتداداتها في الذاكرة الشعرية؟
الشعر حتى في السيرة الذاتية، لا علاقة له بالذاكرة، بمعنى الاسترجاع، و سرد الوقائع و الأحداث. لأن الشعر، كما قلت، هو "توق مستقبلي"، هو نظر إلى الأمام، و ليس ارتكاسا أو نكوصا. في ما كتبته في "شرفة يتيمة" بأجزائه الثلاثة، و هي سيرة ذاتية شعرية، تخوض "حداثة الكتابة" بكل حرية و انشراح، لا مكان للذاكرة بمعناها الاستعادي، بل إن الذاكرة، هنا، تذوب في التخييل، و تذوب في رؤيتي لها أنا اليوم، و ليس بما كان واقعا في الماضي، و هذا ما جعلني مثلا، في الجزء الثالث، أذهب في سيرتي بكينونة الكائن، في معناه الشعري الوجودي، أو الفلسفي بالأحرى، أو في الوجود الشعري لهذا الكائن، كذات شاعرة، كيف تتمثل نفسها في اللغة و باللغة، و كيف تنقل الوجود من مجرد حياة يومية يعرفها جميع الناس، إلى حياة هي المقابل الوجودي لهذه الحياة اليومية، أي في ما لا يراه أحد، إلا الشاعر. و هذا، في ذاته، هو توق للبعيد، لما لا يبقينا في هذا الراهن الذي هو راهن هلامي، منفلت و متمنع، لا يمكن القبض عليه، فهو توق للقادم، لما لم نقبض عليه بعد. و الشعر، هو هذا الزمن الهارب، الذي هو توق، ما نرغب فيه و لا نصل إليه.