القصة القصيرة جدا، very short story أوshort story short وفق الاصطلاح الأنجـلوساكسوني، فن سردي جديد و جميل، تسلل إلى المشهد الأدبي على حين غفلة من الأنظار والحراس.. حراس الأجناس الأدبية.
تسلل في البدء متخفيا قافزا على حدود و تخوم القصة القصيرة short story،
ونازعا إلى مزيد من تقصير القص وتقطيره، وتكثيف الكلام وتبئيره.
فكانت هذه الكبسولة الحكائية النووية، القصة القصيرة جدا، التي ملأت المشهد السردي و شغلت الناس، بطلقاتها السريعة الساخنة و الفاتنة.
ولقد تداعى إليها المبدعون و عشاق السرد الخفيف من كل فج، مفتتنين بسحرها و متفنين في إبداعها و سَبر أغوارها و أسرارها.
والطيب الوزاني، صاحب هذه الومضات القصصية، واحد من عشاق هذا الفن و مريديه الخلص، محضه كل هواه و مسعاه، ووجد فيه ضالته و مبتغاه. يكتب القصة ومضة حكائية كومض البروق المسكونة بالرعود.
يكتب نبضة إبداعية صادرة من القلب، ولهذا الومض الحكائي جماليته و شعريته عند الكُاتب . سواء على مستوى التقاط و اقتناص الموضوعات أم على مستوى بنائها و صوغها في جمل و عبارات.
ولقد قرأت وواكبت كثيرا من ومضاته القصصية منجمة على أعمدة جريدة (الشمال) الغراء.
ولقيت فيها كما لقي القراء، متعة و فائدة. والطيب الوزاني يكتب القصة القصيرة جدا، ليس على ميل و هوى فحسب، بل عن دراية و بينة و سبق نية و إصرار.
لنستمع إليه يقول في المقدمة :
[..وإيصال فكرة متكاملة مستوفية لشروط القصة بكلمات موجزة شيء ليس بالهين. ولا يستكمل بناء نص من هذا القبيل إلا بالحفاظ على توازنه. فإسقاط كلمة قد يخل بالغرض من حيث المضمون. وزيادة أخرى قد ينأى بالكاتب عن الشكل المطلوب. وهنا تكمن صعوبة اختيار الكلمة و الجملة و صياغة التعبير. وهذا كله يقودك إلى مراجعة النص و الفكرة مرات و مرات.] ص.6
لقد تفطن الكاتب إذن إلى صعوبة كتابة القصة القصيرة جدا. وذلك دليل على الوعي الفني و النظري بهذا الفن والإحساس بتكلفته.
ذلك أن "محن" القصة القصيرة جدا مجتمعة في هذا القصر المتكلف بالضبط. وأمرها كالشعر، لمح تكفي إشارتها، وليس بالهذر طولت خطبه.
وذلك خلاف لما يتبادر إلى الأذهان لأول وهلة، من أن القصة القصيرة جدا، سهلة الامتطاء.
وهكذا، كلما نزلنا متدرجين على السلم السردي، منتقلين من العام إلى الخاص، ومن الطول إلى القصر، بانت وتضاعفت الصعوبة.
كلما تدرجنا نزولا على سلم السرد، ضاقت فسحة الحرية و الانطلاق.
الرواية --> القصة المتوسطة --> القصة القصيرة --> القصة القصيرة جدا.
ولكل حقبة صداها الإبداعي الحاكي.
والأمر من قبل ومن بعد، خاضع لتحولات التاريخ و الإبداع و الحساسية و الذوق. ضمن الرواية، ملحمة العصر أو الملحمة البرجوازية على حد تعبير هيجل، إلى القصة القصيرة جدا، نفتة المهمشين و الرافضين والغاضبين.. والمبدعين السريعي الخطى على رصيف الحياة.
إن مياها كثيرة ومتدافعة جرت تحت الجسر. ورياحا عاتية هبت فوق الجسر، وغيرت جذريا من إيقاع الحياة المنتظم الوئيد.. إلى إيقاع لاهث مفتت سريع الطلقات.. والقصة القصيرة جدا شاهدة على ذلك. ومن هنا إقبال المبدعين الشباب عليها و عزفهم المتزايد على وترها.
والطيب الوزاني أحد هؤلاء العازفين. يعزف على وترها الفرد بكثير من الشفافية و الحصافة و الحيطة، و كأنه يتحرك في مزرعة ألغام إبداعية. و كذلك هو الأمر.
واللافت للنظر، إلى جانب كثافة التعبير و جماليته، أن الكاتب لا ينهل مادته الحكائية من معنى الخيال فحسب، كما هو ديدن القصة القصيرة جدا في الأغلب، بل ينحتها و ينتزعها من غمار الحياة السياسية، وحمأة المجتمع اليومي. راصدا قضايا و أسئلة عربية و وطنية كبرى، و قضايا و أسئلة اجتماعية و ذاتية صغرى.
و واضح من عنوان هذه الومضات القصصية (ثورة الياسمين) ، أن الكاتب يغوص في سخونة اللحظة العربية و الوطنية المتأججة بالأحداث و الرجات، والحبلى بالتفاعلات و التحولات.
من هذا المنظور، يكمن اعتبار المجموعة "موجزا" وثائقيا و إبداعيا للمرحلة.
إن الكبسولة الصغيرة، تختزن رعودا و زلازل كبيرة.
ولنقرأ، اقترابا و تمثيلا، النموذج التالي الذي يحمل عنوان (ثورة الياسمين) /
[.. يجر عربة خضار بكاهل مثقل و شهادة عليا تركها على الرف.. تستوقفه شرطية.. تستفزه.. تصفع وجهه البائس..
حرقة البوعزيزي تبلغ مداها.. يضرم النار في جسده المتعب ليريح و يستريح.. ليتطهر.. جاءت شرارة اليأس أقوى من أن تخمد.
امتدت وامتدت، لتلتهم بنيان الطاغوت. لتشعل شموع الأمل، وتطلق زغاريد الانعتاق بتونس الخضراء وما بعدها.] . ص.10
هي المناطق العربية المشتعلة، يعبرها الكاتب بشرارات قصصية وامضة.
وأحيانا يتسلل الكاتب إلى مناطق و حنايا إنسانية حميمية و دافئة، ليقطر مشاعر و عواطف في غاية الرقة و العذوبة.
نقرأ في نص (تواطؤ أبوي) :
[ في جلسة أسرية، ينط ذو الخامسة نحو أبيه، وبيده قطعة خشبية يلوح بها:
- انتبه أبي، القطار في اتجاهك..
- أحقا؟..
يحضنه، ثم يتابع :
- وما ذاك المخروط الخشبي الموضوع على السجاد؟
- أرنبي يسبح في بركة ماء !!
- آه !!.. أرى أنه يحسن السباحة !
ضمة حب و حنان، ثم قبلة..]. ص.36
كل هذا بما قل و دل من الكلام.
و بحساسية شعرية و سردية مرهفة، هي حجر الزاوية في إبداع القصة القصيرة جدا.
كأن هذه الومضات القصصية، عين فضولية متلصصة بخفة و ذكاء على ما يجري في العلن و الخفاء.
عين تعتمد الغمز و اللمز.
و التلميح بدل التصريح.
وهي بذلك تحقق المبدأ البلاغي العربي المعروف (خير الكلام ما قل و دل. )
كما تقترب من ذلك المبدأ البلاغي الهندي الذي يقول (خير الكلام ما استغني فيه عن الكلام. )
لن أطيل في فسحة هذه الكلمة، ولأجعلها قريبة من روح و طبيعة هذه الومضات القصصية المبنية على القصر و الومض.
ليكن القصر قصدي.
ولأترك القارئ مع جمالية هذه الومضات القصصية. فهي الناطق بلسان الحال.