المواطنة العربية وأبعادها الحقوقية في خضم الربيع العربي-فؤاد اليزيد السني -بلجيكا-
طنجة/الأدبية، الجريدة الثقافية لكل العرب. ملف الصحافة 02/2004. الإيداع القانوني 0024/2004. الترقيم الدولي 8179-1114 

 
أصوات بلى حدود

المواطنة العربية وأبعادها الحقوقية في خضم الربيع العربي

مقدمة الأحداث    
     لقد كانت الأحداث "الثورية" الأخيرة التي هزت أركان الوطن العربي العتيق، من محيطه إلى خليجه، هي الحافز الأساسي الذي دفع بنا، لطرح هذا التساؤل الوجيه عن مفهوم " ما معنى المواطنة؟" ومتطلباتها الدستورية. هذا المفهوم الذي نسعى إلى معالجة أوجهه المختلفة، في هذه الدراسة المختصرة.
    بالفعل، لقد كان الزمن العربي الذي سبق هذه الأحداث، -  ذلك الممتد من مرحلة ما قبل الإستعمار الغربي الحديث وما بعده - مثقلا بالإحباط واليأس والهزيمة، وفقدان الكرامة، بكل ما تحمل دلالاتها من معنى. وسواء كان ذاك بأوجهها: الحضارية والثقافية، أوالمعنوية والمادية أو الجغرافية.
     لقد كانت حالة المخلوق العربي قبل هذا الزلزال العربي الربيعي، في أدنى المستويات البشرية من حيث الهوية التاريخية، والكرامة، والحرية، والعدالة، والمتطلبات البشرية الحقوقية. عالم غني بمكتسباته البشرية والطبيعية، وفي الوقت نفسه أكثر مهزلة بجيوش فقرائه وبؤسائه، وتخلفه التاريخي، كما الإجتماعي، والسياسي، والثقافي و"الفكري".

مسلسل الحراك
     فلنستعيد إذن، مسلسل حراك هذه الأحداث الأخيرة، لنحلل على ضوئها أهم المسببات وأعمقها. وبعبارة أخرى المتطلبات البشرية، أي الشعبية الرئيسية و المدنية المركزية، التي كانت من وراء كل هذه الإنتفاضات الشعبية العارمة. وجاء المشهد الأول متمثلا، في لوحة انتحار البائع المتجول محمد البوعزيزي، من بعد حجز عربة "كرّوسة" تجارته، من قبل حملة بوليسية. وتلاه المشهد الثاني والمباشر، وذلك حين انتفاضة 17 ديسمبر العارمة بالمدينة التونسية "سيدي بوزيد". ومما لا يجب أن يغيب عن بالنا في هذه الإنتفاضة الأخيرة، وهو أنها قد جاءت بمساهمة كل الفئات الشعبية بمختلف انتماءاتها الطبقية. ومثل "عفاريت هائجة"، خارجة من قماقم حبسها العبودي لأكثر من ألف عام، هبت الإنتفاضات الشعبية منتشرة على طول الجغرافية العربية وعرضها. وكالنار في الهشيم، هبت هذه العاصفة الخماسينية،  منطلقة من أقصى تونس، إلى غاية أدنى اليمن السعيد. ومن عشية لأخرى، انتفضت هذه الجماهير الغاضبة والناقمة على حكامها، في كل من المغرب، وتونس، والجزائر، وليبيا، ومصر، واليمن، والأردن، وفلسطين، فالبحرين، وسوريا أخيرا، ونسبيا كل من العربية السعودية، وعمان، والكويت.
      ومما يثير انتباهنا، من خلال كل ما قدمنا، وهو أن هذه الفئات الشعبية، قد جاءت في مظاهرها الشعبية، متمثلة في كل المهن والحرف، ونعني من أدناها لأعلاها تخصصا: من المخلوق الأشعث الذي لا هوية مدنية له، مرورا بالعاطل إلى البائع الجوال والمهني المحترف، لغاية المعلم فالأستاذ فالمحامي. وبشكل أكثر تحديدا: من الطبقة السفلى، من محترفين مستقلين، ومن أمثال العاملين في ميدان الصناعة التقليدية أو القطاعات التجارية، أو من الطبقة الوسطى، كأولئك العاملين في ميدان التعليم أو الطب والهندسة والمحاماة، أو ممن هم أعلى درجة، كاؤلئك الذين يعملون كمسيرين في قطاعات البترول، والشركات، والبنوك، ضف عليهم قراصنة المؤسسات المالية.

أوجه المقابلة والإختلاف
     لقد كان مظهر الجغرافية العربية، لكل مراقب خارجي، من حيث حدود دويلاتها المصطنعة عقب الحقبة الإستعمارية، يتشكل من "موديلات كاريكاتورية" لحكامها، أنظمتها الدستورية، وشعوبها المخدرة بالقمع والخطابات الدينية أو العلمانية المبشرة بعوالم أخرى. أما الحقيقة الواقعية والمرة، فإنها كانت عكس كل هذه المهزلة الأعرابية الشقية، والغبية، والبئيسة في آن، وأعني بالأعرابية، المقصد الذي حلله وأشار إليه في دراسته الرائعة، الفيلسوف العربي محمد عابد الجابري، في مشروعه النقدي والتحليلي  " لمكونات العقل العربي". 
     لقد كان يا ما كان ..! لقد كانت ما كانت عليه هذه الدول من الغش والفوضى والبهتان ...  وكما قال المحامي الفرنسي الشهير "جاك فيرجيس" ذات يوم بخصوص حكام الجمهورية الجزائرية من بعد استقلالهم :" نعم لقد طبق هؤلاء الحكام على شعوبهم نفس القوانين العنصرية التي كان الإستعمار الهمجي يمارسها عليهم من قبل". وينطبق هذا التصريح، على كل من المغرب، وتونس، وباقي البلدان العربية.  وفي مقابل هذه المظاهر "الألف ليلية" التبعية، كان الواقع العربي المر بكل مظاهره  الإجتماعية التخلفية: عطالة لأكثر من خمسين في المائة من الشبيبة الواقعة تحت سن الخامسة والعشرين، من أقصى الوطن العربي إلى أقصاه، وعدوى "الأمية " العربية، التي تجاوزت لأكثر من الستين في المائة، في كل من الجماهيرية المصرية والمملكة المغربية وغيرهما. ونبين حكمنا بشكل صريح بخصوص هذه الإشكالية مفسرين ومترجمين وقائلين، بأن مفهومنا للأمية لا يستثني ذاك من يستطيع كتابة إسمه وحفظ سورة قرآنية.  ونقصد بالأمية الجهل المطبق بمتطلبات العصر وحقوقه الإنسانية. ولا نعني المتعلم، من تعلم أحرف الهجاء، والسجود للملوك المألهة لنفسها. ضف على كل هذا، إطارا وقالبا استعماريا، مستورثا بكل مؤسساته العنصرية، من قِبَلِ مُستَعْمِر، بوليسي، وعنصري داخلي، ومطبقا في الوقت نفسه من قبل حكامه الجدد، بكل هيالكه البيروقراطية البوليسية الديماغوجية، على أبناء شعبه. ولنفسر هذه الظاهرة الأخيرة باختصار: لقد دخل الإستعمار الأوربي إلى معظم الدول العربية مصحوبا بجيش من المحاربين، والتجار البيروقراطيين، والمبشرين الدينيين. وهيكل دساتير ومؤسسات كل هذه الدول المستعمرة، على حساب بقائه وديمومته "هو" الأبدية على أراضيها واستعباد شعوبها. وحين اضطرت الضرورات المرحلية والتاريخية المُسْتَعْمِرإلى الرحيل، ومغادرة مستعمراته، استخلفته في كل وظائفه "الحكومية" و "المؤسساتية" أنظمة وحكومات عربية، لم تعمل من بعده، سوى على تطبيق نموذجه الإستعماري بكل حذافيره. وبمعنى آخر، إن نخبة المهجنين، التي اصطنعها الإستعمار، هي نفسها من تولت من بعد رحيله، إدارة  في بلدانها، عجلة سياسة وثقافة الإستعمار المتواري في لاشعورها جوازا، تماما كما هي. وكانت محصلة هذه الإدارة التبعية نختصرها كما يلي: في القمع البوليسي البديل، والذي أصبح مظهرا بشعا متسلطا على المواطن الحر، أي ذاك من كان إبان مرحلة الإستعمار، مقاوما حقيقيا لتحرير البلد، وكذلك لحاكم متسلط غبي وغشاش ومراوغ، كان يخدم الإستعمار من قبل. بل مجرم محترف في ثياب يوسف دبلوماسي مقاول. وكأبسط الأمثلة عن كل هذا، حكاما قدموا إلى الحكم في جمهورياتهم، باسم الثورات الشعبية التي اسورثوها، والتي صاروا من بعدما استولوا على ثرواتها وخربوا اقتصادها، يورثونها لأبنائهم وأبناء أبنائهم. ونقصد من جمهوريات شعبية وثورية، إلى ملكيات وراثية فرعونية طاغية. ومن الجهة الأخرى مَلَكِيّات دنيوية تألهت، لغاية ما صارت ملوكها الغجرية، أكثر  ما تكون تألها في الدعيات النبوية الوراثية.

وأخيرا قدمت المواطنة الدستورية .. أو كادت !
     المواطنة أولا، ثم الدستورية فيما بعد. ولكي لا نستبق الأحداث، فلنحدد إذن هذا المصطلح أو بمعنى آخر هذا المفهوم المطاط. فإننا مثلا، حين نتصفح القاموس القانوني والحقوقي للدول المطبقة لحقوق الإنسان، أو لما تدعى ب"دول القانون" كما يصطلح على تسميتها في القواميس الدولية الديموقراطية، نقف على المحددات التالية:
-    "المواطنة" تمثل احترام "حقوق وواجبات" مواطن دولة ما .. !
-    إن عبارة ومدلول "المواطن المعاصر" تمثل كل من يتشبث بالإنسانية جمعاء، رافضا في الوقت نفسه لكل الحدود الإصطناعية.
وقياسا على ما سبق وذكرناه، بإمكاننا أن نختزل مفهوم "المواطنة" في ثلاث مظاهر جوهرية:
-    1- "المواطنة المدنية" وتتمثل في الحريات الأساسية: المساواة أمام العدالة، حرية التعبير، وحرية الملكية.
-    2- "المواطنة السياسية" وتتأسس على المشاركة السياسية في: الحق في الإنتخاب، وفي حق الترشيح كمنتخب، والحق في الوصول إلى كل الوظائف الحكومية، وفي الحماية الشخصية.
-    3- "المواطنة الإجتماعية" وتتمثل في الحقوق الإقتصادية والإجتماعية: حقوق الاستفادة من الصحة، ومن فرص العمل، والدفاع عن العطالة، وكل الحقوق النقابية.
وبصياغة شاملة وعامة لمدلول "المواطنة" في هذا السياق، بإمكاننا أن نقول، بأنها تعد مكونا أساسيا للرابط الإجتماعي. ونعني بهذا الرابط بصفة خاصة، المساواة الحقوقية، في الحقوق والواجبات في ظلال دولة القانون. ولا ينطبق هذا المدلول على الملكيات الوراثية ولا على الملكيات الدينية الوراثية. ونستنتج من كل هذا، كما يؤكده هذا السياق ويعززه بأن المسألة هي بالدرجة الأولى قضية سياسية. ونحيل بهذا الخصوص إلى التحديد الذي قدمه الخبير السياسي "دومينيك شنابر" قائلا: " في مجتمعاتنا الديموقراطية المعاصرة، إن الرابط الخفي بين مواطني مجتمع ما، ليس دينيا ولا حكما وراثيا، وإنما سياسيا." ونضيف توضيحا من عندنا، أي ما يسوس رابطة هؤلاء المواطنين فيما بينهم ويقضي حاجياتهم، بسياسة ترعى حرياتهم وحقوقهم  ومصالحهم الشخصية ومتطلباتهم المدنية . 
      
الخريف العربي نحو مواطنة جديدة  
     فحسب كل هذه التعرفيات المذكورة أعلاه، ليس لنا إلا أن نستنتج بأن المواطنة قد أصبحت في "دولة القانون" القاعدة الأساسية لمنطلق الفرد في المجتمع ومنتهاه. ومن الغريب في الأمر، أننا حين نعيش كعرب مستغربين، في ظلال ديموقراطية "دول القانون" ونستحضر هذا المصطلح في لغته اللاتينية، نشعر حسب مراقبتنا للواقع الذي نعيشه، بأن هذا المفهوم، ونعني به "المواطنة" له "القيمته الإجتماعية كما العدالية والسياسية هنا في هذه الدول. أما حينما نستعرض ونستحظر في أذهاننا هذا المصطلح المركزي في لغته الأم، ونعني "المواطن والمواطنة" بالعربية المغربية أو السعودية أو غيرها الآن، فإننا حينها نصاب حقا بالدهشة. وأقصد نحن المقيمين في "دول القانون" والمراقبين لهذا المصطلح من الخارج. لأن استخدام هذا المصطلح في فضائه العربي، ونعني به من أدناه إلى أقصاه، لا يعدو عن كونه مجرد مفردة فارغة تعني فيما تعنيه، مخلوقا ما ... يعيش في هذه الرقعة. مفهوم "المواطن" في هذه الدول، يتجلى كقالب فارغ من كل مقوماته الحقوقية والإجتماعية والسياسية. فالمواطن في هذه الحالة، ليس سوى عبد بشري لأصحاب السلطة والمصلحة وقيادة الوطن. ولا نعني في هذه الأثناء بأن قاموسنا العربي خال من كل الألفاظ المعبرة أو القادرة على شحن المواطنة بكل أبعادها الحقوقية. وإنما تكمن المسالة الجوهرية في من همشوا مجتمعاتهم، وهمشوا لغاتهم الأم، وروجوا للأمية بكل أشكالها وأنواعها وأبعادها السلبية، وراحوا راقصين كعبيد في مستنقع التحالفات الغربية ومتطلباتها التبعية. وأكبر مثال على هذا، ما آلت إليه حالة الحكام الفراعنة المتألهة وأعني مؤقتا، كل من: ابن علي وحسني مبارك ومعمر القذافي وعلي صالح، وبشار الأسد، وآخرون في القائمة العربية قادمة بهم موجة الربيع العربي لا محالة.

موسم الحراك الدستوري الجديد
     إن مرحلة القطيعة بين ما كان من أمر الحكام المطلقي السلطة، قبل الربيع الثوري وما بعده، قد تمت. وهذه المرحلة الجديدة، القادمة فيما بعدها، لن تخطو أية خطوة جديدة نحو الوراء ...  أبدا. إن العامل الزمني قد يبدو سريعا أو بطيئا تاريخيا في تحقيق أهداف الثورة، وذلك حسب المرحلة الإنتقالية والركاب الملتحقين بركابها الحقوقية والمدنية أو المصلحية. ولكننا نؤكد بأن القطيعة قد حدثت، ولن يصيب الوطن العربي بعد الآن، أي أذى أو رجعة إلى الوراء، بل لن يناله سوى تطور عصري مؤكد، لضرورة التضحية، من أجل أجيال قادمة، ناضجة ومسؤولة عن بناء مستقبلاتها العقلانية القادمة.
     نعم إن نهاية الديكتاتوريات الفرعونية، قد سقطت متمرغة في رمال أوهامها، وانبطحت متصلبة ومتخشبة أمام زحف غضب المنتصري عليها، وأصبحت شاراتها،  ليس إلا ... ليس إلا .. ! وبهذه المناسبة، طلعت علينا موجة تجديد الدساتير بكل هذه البلدان مجتمعة، ونعني سواء من شهدت منها حراكا شعبيا، أم  من حاولت استباق "تسونامي" الأحداث لتجنب العاصفة. ومما يؤكد هذه الأحداث، تواري كل الحزاب اليسارية والليبرالية والعلمانية، أمام زحف الأحزاب الإسلامية المعتدلة منها والمتطرفة، المتشددة. فكيف نفسر إذن هذا المد الإسلامي الذي كان دائما حاضرا غائبا معا عن الساحة؟ حاضرا بطبيعة الحال بتنظيماته ومساهماته الفعالة على الساحة الإجتماعية، وغائبا بسبب الحظر والقمع البوليسي، الذي كان الحكام الطغاة، يمارسونه عليه. وإننا لا ننحاز حماسا إلى هذه الأحزاب على غيرها، وإنما ننحاز إلى الملاحظة والمقاربة التجريبية التي حكمت علينا بها. فغيابها كان قهرا لها واعتداء عليها. فأنت ترى من الولايات المتحدة لغاية أوربا، بأنها تطبق في معظمها ديموقراطية دولة القانون، ولكنها في أغلبيتها لا ترى غضاضة في إحياء أو المشاركة علنا في بعض الطقوس الدينية المسيحية. ويرجع هذا التقليد، حسب ما تقول إحدى الكاتبات الأوربيات الشهيرة " بالرغم من عبقر يتها العلمية والعلمانية، فإن هذه الدول قد اختارت في نهاية المطاف، الديانة المسيحية كمرجع. على ضوء هذا الكلام، وفي هذه الأثناء التي نحرر فيها هذا المقال، هنالك ضجة عظمى على مصير مصر، في الصحف العالمية بما فيها السعودية، حول ما سموه بديكتاتورية الحزب الإخواني لإسلامي ، عقب مصادقة حاكمها الجديد، السيد "مرسي" على الدستور الجديد، لمدة وجيزة لغاية الإستفتاء الشعبي. ولن نناقش تفصيل هذا الدستور الجديد تاركين للقارئ الكريم التطلع عليه، في ومن، المراجع الصحفية المتعلقة به. وإنما كلمة واحدة كانت مدار كل هذه الضجة، هي كلمة "الإسلام" كمرجع في مقدمة الدستور. ولماذا لا يتخذ الحاكم المسلم دينه كمرجع لدولة إسلامية؟ إننا نرى من جهتنا بأن الأمر يتعلق بالدرجة الأولى، بالممارسات الديكتاتورية القمعية لمرحلة ما قبل الربيع العربي. أما فيما بعد هذه المرحلة، فإن الجماهير التي  قتلت "الخوف العربي" ولن تتراجع قط عن مطالبها الحقوقية والشرعية، في وجه كل القوى المعادية لها، مهما كانت .. ! والغريب في الأمر أن هذا الحدث قد أتى غداة توسط وتدخل بنجاح للرئيس المصري محمد مرسي، في وقف اعتداء المحتل الإسرائيلي الهمجي على قطاع غزة. على كل حال، ما نريد ان ننبه إليه، وهو نصح القارئ المتسرع، بالإطلاع على مختلف المراجع المذهبية، والمتنوعة الاراء، لاتخاذ رأيه بقناعة. فرد الفعل على السيد مرسي في مصر أخيرا، لم يكن بريئا ولا عفويا، من قبل القوى الرجعية التي ما تزال تعمل لحسابات الخارج وأزلام الأنظمة الرجعية التي سقطت رموزها الدعائية في الداخل. وهذا بالذات ما حدث في الجمهورية التونسية مؤخرا مقتل القائد الشيوعي " " إذ نتسائل على غرار الروائية البولسية "أغاتا كريستي" من المستفيد من الجريمة؟ ولا نرى من مستفيد سوى أعداء الثورة الذين يسعون بطرق ملتوية، زرع الفوضى في البلد وبصفة خاصة، إلقاء ظلال الشبهات على الأحزاب الإسلامية المنتصرة.


تراجع القوى الليبرالية والعلمانية امام المد الإسلامي

     في خضم هذه الهزات الثورية الحماسية والتقلبات التي عقبتها، عُقدت هنا وهنالك، في هذا البلد وذاك، انتخبات دستورية شرعية جديدة - خارجة نوعا ما، عن تلك التي كانت مبيتتة نتائجها المأوية سلفا – قد مكنت معظم الأحزاب ذات الإنتماء الإسلامي، البلوغ إلى السلطة، وبتعبير صريح، البلوغ إلى أروقة سدة الحكم؛ الشيء الذي كان مستحيلا ولا مستباحا ولا متقبلا، من قبل اندلاع ربيع الثورات. وفي المقابل، فإن فشل كل من الاحزاب اللبرالية والعلمانية في إقناع الرأي العام، راجع بالأساس إلى مساهماتها السابقة في كل الحكومات الفرعونية التي كانت تدير هذه البلاد.
     أمام هذه الحداث المتداخلة، والمتشابكة شؤونها، توجهنا باهتمتمنا إلى استفسار رأي الخبراء، الواقعين عموما خارج جغرافيتنا العربية، ونقصد أولئك من يطلون علينا ويحرسون كل تحركاتنا وأفكارنا، من موقع الغرب المتوسطي القريب جدا منا. واستفسارنا كان حول مدى نجاح هذه الإسلامية الأخيرة. وبصيغة جديدة، كيف نفسر هذا الصعود الإسلامي وتفوقه الباهر على الساحة السياسية؟ فمن وجهة نظر الخبراء الإجتماعيين والباحثين السياسيين، الأوربيين منهم خاصة، وبالتحديد رأي الخبير في الشؤؤون العربية الإسلامية، الباحث السياسي الفرنسي "أولفييه دي روا" من مقاله الأخير الصادر في أواخر 2011 والمتعلق بتطورالأحزاب الإسلامية،  فإنه يرى ب" أن هذه الأحزاب الإسلامية، قد استفادت من الدروس السابقة، وعرفت كيف تصرف مصطلحها الديني في حلة جديدة وبمعطيات دلالية حديثة هي الأخرى". وفي هذا السياق، يقدم لنا هذا الأخير، قرائته لتجربة رشيد الغنوشي كقائد مُجرِّب للحزب التونسي الإسلامي "النهضة" قائلا:" إن السيد الغنوشي ومستشاريه من الحزبه الإسلامي، قد راجعوا كل حساباتهم فيما يتعلق بمضامين برنامج حزبهم، وعكسوا ذلك عبر سلوكهم الخارجي المتمثل في الجدل الدستوري، والتحالفات مع الأحزاب الأخرى، فكانت الحصيلة، إعادة تشكيلة منهجية الحزب". وبطبيعة الحال، إن تأكيد هذه الأحزاب وإصرارها على كل من ضرورات: الحرية والعدالة والتقدم والديموقراطية المدنية، قد كسبها في نهاية المطاف، نجاحا سياسيا متميزا وخطوة جديدة على طريق المدنية والتمدن. وهذا بالذات ما لخصه الباحث الفرنسي " أوليفيي دي غوا" من دراسته الأخيرة التي خصصها للتيارات الإسلامية حيث يقول بان هذه الأحزاب  الإسلامية المعتدلة قد اعتمدت بالأساس على الهوية الإسلامية كمنطلق لمدنية علمانية قادمة لا محالة فيها. أما فيما يخص الأحزاب السلفية ومن يسبح في فلكها فإن ظاهرة التمدن أو ضرورة التطور تظل مسالة معقدة وإشكالية جوهرية لطبيعة اعتقاداتها المتعلقة بالماورائيات الغيبية التي تقع خارج جغرافية الأزمنة الحديثة.

العولمة وشبكاتها "الإلكترونية " في صنع الثورات
     لقد كانت شبكة الإتصالات العالمية "فيس بوك" في صرخاتها المتجاوزة لكل الحدود القطرية " حرية، عدالة، مساواة ... !"، هي أول من تجاوز كل هذه الإذاعات العربية الوطنية المراقَبة والمراقِبَة، واخترقها للوصول مباشرة، إلى معظم شبيبة هذه البلدان ومثقفيها كما لا مثقفيها، أي إلى الملايين منها. وكان رد الفعل الباشر لهذه الأحداث، أن الصور المحذورة قد وفدت نافذة من كل الشاشات لكل بيت وكل شارع وكل مدينة، فانتفضت العامة وكان ما كان. ولعل فضل الشرارة المرئية الأولى، يعود إلى ظهور شبكة الجزيرة كمفاجأة صورية مباشرة إبان الحرب الأمريكية-الخليجية على العراق. وتوالت الأحداث وتطورت الشبكات الإذاعية العربية المقلدة أو المبدعة على ساحة الإعلام الصوري المباشر، فكانت عاقبة هذه الحرب الإمبريالية الجديدة ومحصلاتها البعدية كما نتائجها، صحوة الرأي العام في معظم الأقطار العربية. هذا الرأي الذي ستكون من إنتاجاته الكبرى، قدوم زلزلة الثورات العربية. إن شاشة التقانات الحديثة كما شبكة الإتصلات الإلكترونية المعاصرة (الأنترنيت)، قد ساهمت بدرجة ما أو بأخرى، بخلق فضاء إعلامي عابر للأقطار والقارات، وبأن تكون بالمناسبة، الرابط الفعلي والشاهد الحي، على كل هذه الأحداث الفاعلة والمحرك الأساسي لأحداثها. وتجربة الشاب المصري "وائل غنيم" في هذا الميدان، ستظل النموذج المثال على ما بإمكان العولمة الأنترنيتية نقله إلى الملايين من المواطنين عبر خريطة العالم.
     فالعولمة إذن، بمفهومها التقاني الحداثي، ليست مسألة من مسائل الكماليات المدنية أو من جمالياتها، وإنما هي بالدرجة الأولى، ضرورة حياتية لكل المجتمعات الراغبة باللحاق بركب الحضارات العلمية الآنية والمستقبلية. ولئن كانت بيوت المجتمعات المتمدنة تقانيا في البلدان الصناعية، لا تخلو في معظمها من هذه الشبكات  الأنترنيتية القافزة تمثلا، على كل حدود جغرافية العالم الواقعي، فإنه من ضروريات البلدان العربية الإسلامية، أن تفكر في وضع برامج ومشاريع وأرضيات من هذا النوع الحضاري التقاني للخروج من جاهلية القرون الوسطى إلى الأزمنة الحديثة. وننوه بالمناسبة، بضرورة تعميم علوم التقانة في برامجها التعليمية وأن لا تتركها مقتصرة على بضعة مؤسسات مخصصة لأصحاب الجاه والثروات المكدسة على حساب الأكثرية.
     ونذكر أخيرا، وليس بالأخير، بأن على البلدان العربية، بل على شبيبتها المؤهلة لكل هذه التحديات الحاضرة والمستقبلية القادمة، أن تقلص من رقعة الحدود المصطنعة إستعماريا للفصل بينها، أن تتخطاها بجرأة وتحدي، باسم الحضارة المشتركة والثقافة المقتسمة، باسم الجغرافية واللغة والدين والقاسم الحضاري المشترك، من أجل مصير أمة تقوم على مبدأ الرحمة والتضامن، والمسؤولية التاريخية.
   
(خاتمة)ربيع الثورات في مواجهة تحديات المستقبل
     مما لا شك فيه لكل مراقب لهذه الأحداث، أن مواطننا العربي يمر حاليا بمرحلة مخاض تاريخي، وقلق نفسي رهيف، مصحوب بحالة تفاؤل مستقبلي، غدوي أو بعدوي. وصحيح أيضا أن نقول بأن مخاوف المجهول وهواجسه ما زالت حاضرة في كل الأذهان وجاثية بماضيها الثقيل على كل القلوب. فإذا صح القول، فإننا بمراجعتنا لكل هذه الأحداث الأخيرة، ندرك بأن ربيع الثورات العربية ما زال في مستهل حراكه، ولا بد له من أن يمر بمراحل مضادة ومقاومة له، تلك المتمثلة في القوى الرجعية للأنظمة المرتزقة، التي كانت تطعمها وتعشيها، كما في الوقت نفسه تعريها، تجوعها، تستعبدها، وتميتها وتحيييها. هذه القوى المنهزمة التي ما زالت تربيتها القمعية والمستعبة لأبناء وطنها، بائنة في وجوه رجال امنها وعسكرييها الحالييين. ولكن مستقبل التحدي مهما تأخر زمنه قادم لا محالة فيه، وقادمة معه النهضة العربية الحقيقية الأولى. ويأتي في مقدمة هذه التحديات، مواجهة مخلفات الأنظمة المهزومة، ونعني بالدرجة الأولى محاربة: نسبة الأمية المرتفعة في هذه البلدان، ارتفاع سقف البطالة الذي يخص الشبيبة بشكل خاص ومباشر، فوارق البنى التحتية الصارخة، بين المدن المهجنة الشبه حضارية، والبوادي التي ما تزال تعيش في أزمنة القرون الوسطى، بلا كهرباء ولا مياه جارجية في البيوت، ولا مصحات، ولا شبكة طرق معبدة. الفوارق الطبقية الصارخة بين فئة تمتلك موارد البلد كلها، وجيوش لا تعد ولا تحصى من الطبقة العامة التي تعيش في أزمة دائمة بين الفاقة والبؤس، لسد حاجياتها اليومية. هجرة أدمغة هذه البلدان إلى الخارج. وخصوصا غياب أي مشروع مستقبلي لحاجيات هذه الدول، من مقومات مادية، تقانية ومعنوية للحاق بالركب العالمي المستقبلي.
إن الفكار الشائعة حولة هوية "الوحدة العربية"، التي روج لها مستشرقي الإستعمار الفرنسي – البريطاني بشكل خاص، منذ منتصف اوائل القرن التاسع عشر، تلك الملخصة جملها الحقدية في مقولات ك " إن الوحدة العربية المزعومة من قبل زعمائها الوطنيين ليست سوى اسطورة ... ولن تتحقق أبدا" و"ليس العرب سوى قبائل بدوية متخلفة"، و" ليس ثمة من حضارة عربية باستثناء ثقافتها الدينية المتزمة" إلخ.  لقد كانت هذه الشائعات الممنهجة سياستها سلفا، تهدف بالدرجة الأولى إلى نسف الذاكرة الثقافية لهذه الأمة، ونسف قواعدها التارخية المبنية على نسيج اجتماعي متشكل من "مختلف الأجناس والأعراق" هذا الذي كان ولما يزل، جد متماسك ومتوحد، بهويته الدينية والروحية. وهذا الهوس، هو بالذات ما استورثته واورثته المدارس الوطنية العربية لأبنائها، وراحت مروجة ومعمة له في كل برامجها التربوية المغشوشة. ففي مقابل كل هذا الموروث الرجعي، تجد الثورات العربية نفسها امام تحدي تاريخي يتطلب منها اكبر التضحيات لمراجعة مجمل موروثها التاريخي من اجل إحداث قطيعة "إبستمولوجية" معه وإنشاء قاعدة قانونية جديدة قادرة على وضع أسس حقوقية ديموقراطية بديلة قادرة على تبني رؤية مشروعية مستقبلية لا علاقة لها بتاتا بالموروث العنعني السلفي.



 
  فؤاد اليزيد السني -بلجيكا- (2013-03-05)
Partager

تعليقات:
أضف تعليقك :
*الإسم :
*البلد :
البريد الإلكتروني :
*تعليق
:
 
 
الخانات * إجبارية
 
   
   
مواضيع ذات صلة
المواطنة العربية،الربيع العربي
المواطنة العربية وأبعادها الحقوقية في خضم الربيع العربي-فؤاد اليزيد السني -بلجيكا-

متابعات  |   ناصية القول  |   مقالات  |   سينما  |   تشكيل  |   مسرح  |   موسيقى  |   كاريكاتير  |   قصة/نصوص  |   شعر 
  زجل  |   إصدارات  |   إتصل بنا   |   PDF   |   الفهرس

2009 © جميع الحقوق محفوظة - طنجة الأدبية
Conception : Linam Solution Partenaire : chafona, sahafat-alyawm, cinephilia