الرئيسيةإبداعفي فكري المكنون (خواطر)

في فكري المكنون (خواطر)

سأل عن حالي من ما يحوي العجب. حار في أمري الغريب الذي أصبح ملاذ الألسن. فكر شارد و صوت دامس و عيون كئيبة أظهروا الشفقة.أخرجت رأسي من جحر فكري و أجبت مطأطئا غير مبال : “ما الشأن بدواخلي الممزقة بين العتق و الجذب .ألا يكفي ما تعانيه من ذهل و أرق ؟. لماذا تسأل عن قلب مكلوم و سئوم؟. حالك هو حالي البئيس فلا تستعجل التأويل. لا تبحث عن المفقود المعدوم. هذا زمني و زمنك أنت, نبحر سويا و نصارع الأمواج سويا و نجازف بأرواحنا سويا. ففي السعادة أم في الحزن, نعيش مصيرا واحدا محتوما.” حز في نفسه جوابي, و أراد تغيير حجتي و قال : “ألهذه الدرجة ماعدت تتذوق طعم الحياة يا رفيق دربي. أعجزت ؟؟؟”. نظرت إليه و أدرت وجهي و غصت ثانية في عمق فكري الذي أعجز عن ولادته.

دواخلي ملأنها أسئلة كثيرة لكن ما من أحد شفي غليلي في الإجابة. خفت على نفسي أن بحت بها أصبح مختلا عقليا لأن الخلل يقطن كل ركن في الحياة. دواخلي ملأنها مواضيع مبهمة. أتخبط في تفكيك خيوطها عسى أن أستشف تحليلا معقلنا لكن دون جدوى. دواخلي, شهدن حالات نفسية عصيبة. من يأخذ بيدي و ينتشلني من قسوة الدهر, فالكل سواسية. بدواخلي, أفكارا مشتتة إن جمعت أموت خنقا. فهذه لحظات احتضاري. دواخلي, تتقلبن و تتحسرن كلما اتسعت رقعة الشر. من أين البدء حين يخذل الإنسان.
سألني وأنا منهمك في صمتي :” أخانك العشق؟؟؟.” نظرت إليه وتنهدت و سافرت بعيدا أسترجع كم لسعني الحب حين اقتربت منه و كم مرة عزفت عنه و يخونني قلبي.عبرت مراحل و يا ليتني ما احتسيت كأس الهوى الذي أقحمني عالم العذاب من دون استئذان. لقبت بزير نساء. كن بعدد شعر رأسي. كم أحببنني لجرأتي و لحماقاتي. برعت في مغامراتي برسائل غرام لهذه و موعد لتلك و قبلات لأخرى, لكن عشقي لأنثى واحدة عجل هزيمتي. يا ويلي من حب الغرباء, لا أعرفها ولا تعرفني. سحر صوتها الرنان سلب كل جوارحي و حلو كلامها قيدني و رحلنا من دون وداع. نعم خذلت, و لأول مرة زعمت خوض معركة الحب التي انتهت قبل البدء. وضعت يدي على قلبي, ربما أنتظر يوما من يلملم هذا الجرح.

جالس على أريكة, أحدق في الفراغ جنب شرفة. بقايا قهوة سوداء في كوب كسواد دهري على طاولة تنتظر عتقها و علبة السجائر الفارغة. كتفاي العريضتان أنهكتا من كثرة التفكير. دواخلي تحملن الكثير و الكثير. شعرت بدوار و رغبت في الخلود إلى النوم ساعات لا بل أيام. عاد مجددا ليسألني و كأنه يعاقبني أن لا يغمض جفن : “هل هجرك الخلان؟؟؟.” بلعت ريقي الملفوف بمرارة السؤال. عاتبته في صمت عن أية صداقة تسأل في أرض النفاق ؟؟؟. زمن الصحبة قد ولى. كل ما تبقى هو -صداقة المصلحة- و الغدر. كنا نجتمع دوما في المقهى أو سهرات في البيت, نقضي أوقاتا مرحة و نجول الأرض كما يحلو, لكن أصحاب المصلحة كثر. انمحت القيم و أضحوا لا يتعاملون سوى بالغش و التدليس. كان لي نصيبا من صحبة الرفيق الحقود و المخادع الذي يخفي حقيقته إلا في المحن.و بسبب طغيان الخيانة و الغدر, تركت عملي الذي لا يخل أيضا من المكائد. أحزنني كثيرا رفع أقنعتهم و كلما ابتعد أحدهم, قلوا إلى أن أصبحت وحيدا فاقد الثقة في كل شيء. يا لمرارة الحياة إن رفضت لبس الأقنعة كما هي موضة العصر.

تنهد من كثرة صمتي, فأنا لم أنطق بكلمة رغم أسئلته المغيظة, استلقى على فراش يترقبني. يزورني كل يوم و حالتي تزداد سوءا. ما من عادتي أن أكون إنسانا ذو نظرة سوداوية للحياة. لا زلت في ربيع عمري كما يقال. قد يكون أصابني مرض نفسي و لم أعد أتحمل لكمات الحياة أو ربما لم أعد أتحمل ذاك الصراع بين الخير و الشر فانفصلت عن واقعي.
ظل معي ساعات طوال, نام قليلا و استيقظ ليرى نفس الحال. لم يفقد الأمل في أن أحرك شفتاي و سألني:” ألديك مشاكل عائلية أو ضغط في العمل ؟؟؟.” سمعت صدى سؤاله و كأنني أمكث في بئر عميق. رشفت آخر قطرات قهوة المريرة. لا حاجة لي تذكر أحداث كانت سبب انفصالي عن أهلي. لم أعرف إن كنت قد أذنبت في حق إخوتي لكن شاء القدر أن يقطع الوصال بيننا. غلبنا الطمع في إرث والدنا. إخوة لم تجمعهم سوى حب المال و من ثم هاجرت إلى بلاد لا يعرفني أحد. نعم هربت من جشع الأهل و فضلت وحش الغربة عله ينصفني من قسوتهم. هربت مما عشته من قهر الأنظمة و ما طال حال البلاد من فساد. حروب و فتن هنا و هناك. حينها أعلنت تمردي لكن لم ترسم حسبتي سوى طريق الإحباط و الخيبة و البؤس. فياليتني ما هجرت بقعتي.

كلها هي دواخلي المنفلتة الصامتة. لا أجد دواءا لأنينها.هذه الغرفة و هذه الجدران و كل زاوية يشهدن أحزاني و دموعي. نهض و اقترب مني ليواسني .نظر إلي بحسرة كبيرة : “ما بك كل هذا ؟؟؟ ألا تؤمن بقضاء الله و قدره ؟؟؟ اعلم أنك بصمتك و بتخليك عن حياتك فأنك تضع حدا لكل شيء فيك جميل. مهما حدث من صعاب و مشاكل تعقن سيرك إلا و يجب أن تقاوم مرات و مرات. سأتركك لترتيب أفكارك. قم من موتك و تصالح مع نفسك و عش سلاما داخليا ستجد الأمل و النور.” رفعت يدي و قلت سلاما داخليا. تركني و خرج و أنا أردد هذه الكلمة في رأسي .
أن صح القول, الحياة باختلافها من شخص لآخر تدور في حلقة ليس لها بداية و لا نهاية. طريقة العيش و التعايش تفرض على المرء حالتين التصالح مع الذات أو النفور منها. و إن حصل النفور فان الإنسان يصبح في خبر كان. أحيانا قد نتعثر في فهم الأشياء و لا ندرك معناها الحقيقي إلا بعد مرور زمن. قد تكون أحداثا أو تصرفات يصعب علينا إدراجها ضمن معطيات حياتنا فلا نعير لها اهتماما لكن و في الواقع هي تحمل في طياتها حقائق كثيرة لو أدركنا كنهها لغيرنا نظرتنا للحياة. و بما أننا نجهل المصير و القدر لصيق بنا، فإننا لن نخل من متاعب الحياة و شقاءها. ترانا حيارى بين لذة الحياة و الموت.لا راحة مع الحياة و لا سكينة مع الموت. فنبقى مشتتي الأفكار. تلك،التي تلقينا في بحر المجهول. و لا محالة من العودة إلى الوراء فالزمن لا يرحم. تناولت القلم و كتبت في ورقة بيضاء و بخط واضح : ذاك السلام الداخلي الذي سيخمد نار دواخلي….

 

غزلان يقوتي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *