الرئيسيةإبداعماما ” نويل”

ماما ” نويل”

– من فضلك.. “دادي”..
_ بابا..أرجوك..
كانوا قد انتهوا توا من وضع لمساتهم الأخيرة على شجرة الميلاد.. وحدها “ماري” الصغيرة ما زالت تبحث عن موقع قدم لدميتها “الباندا” بين فروع الشجرة المزينة بالكويكبات المضيئة والأجراس النحاسية، والشرائط الملونة..منظر الثلوج وهي تتساقط في الخارج بدت لهم وكأنها شموس صغيرة، أو شظايا بدر تهوي من السماء، لتكسر روتين الليل، الذي لا ينتهي..حبات “البرد” وهي تتساقط بباحة منزل جده، يومها حسبها حبات سبحة انفرطت من قبضة جده بعد أن غافله النعاس..ألقت بنظرها عبر النافذة..قالت مأخوذة بالمنظر الذي يخلب الألباب:”أنظر حبيبي، وكأن النهار قد انبثق فجأة من رحم الليل!!!
ارتسمت على محياه ابتسامة قاتمة..أمسك بيدها..ضغط عليها قليلا..أغمض عينيه..اغترف حفنة من حبوب “البرد” القارسة..نثرها في حجر جده.. صحا هذا الأخير من غفوته..فجره من رقبته بطرف عكازه المعقوف.. قبل يدي زوجته ثم أسر في نفسه: منظر العظاءة الخضراء وهي تتشمس فوق سور “القريقية” المطل على البحر، ببلدته المنسية ، أروع من الدنيا وما فيها..ثم يستسلم لليل من جديد.. هي ليلة كسائر الليالي النرويجية الباردة والطويلة، لكنه ولأول مرة ومنذ أن وطأت قدماه هذا البلد، ينتابه ذاك الإحساس الغريب، يشعر وكأنه حبيس قوقعة هائمة في بحر لجي، بحيث يجد نفسه ولأول مرة، عاجزا على التجاوب أو التواصل حتى مع أفراد أسرته الصغيرة، يحدث هذا رغم تواجده مع زوجة محبة وطفلين وكأنهما بدر قد انشق إلى نصفين، وفي ليلة لا يراها إلا في الأحلام..
_ من فضلك بابا، دعنا نلاعبك قليلا..
– بابي ،أرجوك..أرجوك..
كان يعتقد أن اقترانه ب “سوزان” ، الحسناء الفرنسية الأصل، وترقيه إلى رئيس للطهاة، بفندق خمسة نجوم، وأيضا امتلاكه لمنزل بحديقته الخلفية، بحي راق، هو منتهى السعادة، بل هي جنة عدن عن حق وحقيقة، لذا فقد كان يستغرب أشد الاستغراب من إدمان المجتمع النرويجي المترف، على مضادات للاكتئاب ،مما دفعه مرارا لمداعبة المحيطين به قائلا: أيها المخنثون تنازلوا لنا عن رفاهيتكم ،نتنازل لكم عن شمسنا وطقسنا..هه لتملأ الشمس بطونكم وجيوبكم..
– بابي..بابي..من فضلك..حدثنا قليلا !!!(تصر ماري)
– بابي..ألن تخبرنا عن الهدايا التي كان يخصك بها “بابا نويل”؟(يلح جوزيف)
_ كفى..كفى.. (يصيح أبوهما بنرفزة شديدة)
تحدج ماريا زوجها “حميدو” بنظرة ملؤها العتاب، فينهض متثاقلا، ينثر بضع أخشاب بالمدفأة، ثم يربت على رأسي طفليه..
– اسف جوزيف..اسف ماري..اعذراني فأنا لست في مزاج جيد اليوم..
– لا عليك بابا..
– لا مشكلة بابي..
يقف عند حافة النافذة، يرسم دوائر بسبابته على زجاجها المثقل بالبخار، تعانقه زوجته من الوراء ..تهمس في أذنه:
– شيء عاد عزيزي..كما سبق وأن أخبرتك، إنه مجرد اكتئاب موسمي بسيط..سببه غياب ضوء الشمس.. لكن يمكن…
يقاطعها قائلا: لا تكترثي عزيزتي.. لدي مخزون كاف من الشمس..لذا فأنا لست في حاجة للتعرض للضوء الاصطناعي..
– لكنك…
– أيضا أنا لست في حاجة لتناول أقراص “بروزاك”..
– كما تريد..
– شكرا على تفهمك عزيزتي..
– لكن يمكننا السفر إلى المغرب..أنا متأكدة أنك ستستعيد حيويتك هناك..
يبتسم..يداعب خصلات شعرها..تسحبه من خصره، فتنتشله من دوامة أفكاره القاتمة..يسحب صنارته المنهكة، فترش وجهه موجة برذاذها المنعش..تقبله زوجته على جبينه فتحصل منه على ضمة لطيفة.. يقبل يد جده فيحصل على ريال كامل، وحفنة من أكباد شجرة التفاح العجوز، المرابطة بباحة منزل جده..يقرفص إلى جانب طفليه يدعو زوجته للانضمام إليهم..تناوشه دمية صهباء يغزو وجنتيها الكثير من النمش، كانت قد علقت بصنارته ذات يوم صيفي مطير.. تضطجع زوجته على بطنها فوق البساط.. تسند رأسها بمرفقيها..يتأمل وجهها فيذكره ببيض الحجل، و موسم صيد “الحجل”..وجه جده الأبيض يومها، بدا له محتقنا، مضيئا بحمرة قرمزية، وهو يحنو على الجميرات المحتمية “بالمجمار” من زمهرير “الليالي الأربعينية”..طفلاه يقلدانه في حركاته وسكناته..جدته تدعك العجين بيديها المعروقتين..تتفنن في صنع ضفائر رفيعة جدا.. فيضل هو ربع ليلة تحت ضوء الشمعة الوحيدة، يحصي عدد خيوط “الشعرية” وكأنه يعد النجوم…طفلاه يحصيان شهقاته وزفراته..
– ماما ..ماما..إني أتضور جوعا..
– كن صبورا “جوزيف:..فالديك الرومي يلزمه بعض الوقت ليكون جاهزا..
– ما أشهى رائحته ماما!!! (تغمض الصغيرة عينيها في انتشاء)..
تداعب خياشيمهم رائحة “الإسفنج” المقلي بـ”الزيت البلدي”، وهم يتسكعون في دروب وأزقة المدينة العتيقة، متنكرين بأقنعة “حاكوزة” الورقية الملطخة بسواد الفحم المبتل..ينذر أن تجد في مثل هذه الليلة الفريدة، بيتا من البيوت يخلو من هذه الأكلة المتميزة..يطرقون الأبواب، بيتا، بيتا..تكرمهم ربة بيت ببضع “إسفنجات”، فيحتجزونها داخل بطن كيس كبير..يصدح أكبرهم:”هاد الدار..هاد الدار..ربي يخلي مولات الدار..باش تعيد هاد الدار؟” فيرد وراءه الصغار:”بالقوالب ديال السكر”..تصدهم ربة بيت منزل اخر..يصيح متزعمهم شامتا :”باش تعيد هاد الدار؟؟؟”..فيرد من وراءه باقي الأطفال حانقين:” بالفراقش ديل الكيدار..”عند نهاية طوافهم، يلتهمون نصف غنيمتهم ويرجمون بعضهم البعض بالنصف الآخر..
– وأنت ماما ألن تخبرينا عن الهدايا التي كان يخصك بها “بابا نويل”؟؟؟
– هيا “مامي” .. هيا “بابي”.. من فضلكما..
– يالكما من طفلين لحوحين!
قبل أن يشرعوا في تناول وجبة العشاء، والتي تتألف أساسا في هذه الليلة المميزة من أساور عجينية مقلية في الزيت، وإبريق كبير من الشاي، تجهز أمه مائدة خاصة تسيل لها اللعاب للزائرة المهيبة القادمة من المجهول..تحكم إقفال باب المطبخ، وتحذر طفلها من الاقتراب منه ..بعدها تطمئنه قائلة: “نم قرير العين بني، لن تؤذيك “للا حاكوزة” هذه الليلة..فنصيبها من الوليمة الأسفنجية سوف يشفع لك”..هذا يعني أن الكائنة المرعبة لن تشق بطنه..لن تلتهم أحشاءه..ولن تخيط بطنه بعد حشوه بالتبن..
في الصباح كل أطفال الحي يستعرضون بزهو بطونهم العارية…لا شق ولا أثر للمخيط!!!
– ماما من فضلك..
– مامي من فضلك..
– لا ..لن أفعل حتى نفرغ من العشاء..
يحاصران أباهما بعيونهما الحزينة..
– أمكما على حق..لنؤجل حديثنا حتى وقت آخر..ففي جعبتي الكثير..
– عن بابا نويل؟؟؟
– لا عن ماما نويل..
-ماذا ؟ هل هي زوجة بابا نويل؟
-هل هي قريبته؟؟!!
يرد متبسما: لا أدري..لكن ما أعرفه يقينا، هو وجود مخلوقة مهيبة، تكنى ب”حاكوزة”، تزورنا مرة كل سنة، هناك في بلدتنا الصغيرة..وقد ارتأيت أنه أنسب اسم يمكن أن يطلق عليها في هذه المناسبة الجميلة هو ماما نويل…
حينما رشت موجة عابثة وجه الطفل حميدو، كان على وشك أن يرمي بحلم يقظته الأخير إلى البحر، ويحتفظ بالدمية الصهباء التي يملأ وجهها الكثير من النمش، وكعادته بدا له أن يجري تعديلات طفيفة على خياله الأزرق قبل أن يستعمله طعما للأسماك..لذا فقد حذف “ماما نويل” التي تعد بمثابة مفتاح حلمه الأخير، لتحل مكانها “ماما حكوزة”..واستبدل جوزيف وماري بيوسف ومريم..وجعل بطل خياله يمرض بإينفلونزا حادة بدل الاكتئاب الموسمي..وضحك كثيرا من كونه كبير الطهاة، فهو لا يعرف حتى كيفية قلي بيضة..فقهقه وقهقهت معه حيتان البحر..ولما ألقى بما تبقى لديه من طعم وكذا شذرات من حلم مستهلك، للأسماك الطليقة، تفقد صيده، فدهش لرؤية أسماكه ترقص رقصتها الأخيرة داخل كيسه البلاستيكي..وذلك على إيقاع أغنية دميته العجيبة التي انتشلها توا من قعر البحر..

 

زهير الخراز

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *