الرئيسيةالأولىتيمة الانقسام في “رواية الحجر والبركة”لعبد الرحيم جيران

تيمة الانقسام في “رواية الحجر والبركة”لعبد الرحيم جيران

تحكي رواية “الحجر والبركة” للروائي عبد الرحيم جيران سيرة روائي آمن بغدأفضل وراهن على فترة ما بعد الاستقلال لترسيخ ذلك، لكنه أصيب بخيبة أمل كبيرة لما رأى الكثير من السياسيين والمثقفين يتهافتون على تحقيق المكاسب الشخصية، وأغفلوا مصالح الوطن والمواطنين، وهذا الروائي هو سليمان الثُّنائي، ولهذا الاسم دلالته الرمزية؛إذ يخبرنا سليمان في الوصية التي افتتح بها سيرتهالذاتية أن المؤلف أبى إلا أن يجعله منقسما على نفسه ليكون صفة “لموصوف يراه سمة لجيل أخطأ السبيل إلى الولادة، فلم يكن على موعد مع نفسه، قبل أن يكون على موعد مع التاريخ” ، فما سليمان إلا مفرد بصيغة الجمع، وما خيبات أمله المتكررة على مر تاريخه الشخصي إلا خيبة أمل جيل بكامله، وهذا ما تؤكده العبارة التي وضعها المؤلف على ظهر الغلاف” تصور هذه الرواية الانفصام التاريخي الذي يشوب الذات الإنسانية؛ وذلك بسرد حياتها الخاصة من خلال حكايات الآخرين”.
وقد عانى سليمان من هذا الانقسام في مختلف مراحل حياته وفي علاقاته بباقي شخصيات الرواية، فقد “آلمه أن يكون اثنين متخاصمين: ظاهر يتبدل ولا يستقر على حال، وباطن رمادي لا قرار له” .
وهذا الانقسام في شخصيته ناتج عن التجارب القاسية التي مر منها، فقد نشأ في مدينة الراموزة محروما من الأب، وفي أحضان والدته الحاجة لويز الشيخة التي تحترف الرقص والغناء، وتقدم المتعة لطالبيها من زوار البيت المبارك، فطاردته سيرتها السيئة وكانت سببا في سخرية زملائه منه في المدرسة، ثم إنه سيضطر إلى مغادرة الراموزة بعد أن قبض على الحاجة وحكم عليها بالسجن ثلاث سنوات، فانتقل إلى العيش في كنف خاله آدام بالدار البيضاء، والذي كانت له هو الآخر مأساته الخاصة، إذ قبض عليه في زمن الاستعمار بالدار البيضاء عندما كان يشتغل بجمع القمامة فعثر على مسدس وأخذه وذهب به إلى الشرطة الفرنسية ليسلمه لها، فإذا بهم يقبضون عليهم ويذيقونه أشد ألوان العذاب، متهمين إياه بالانتماء إلى الفدائيين، وحكم عليه بالمؤبد، فتسارعت مجموعة من خلايا المقاومة إلى ادعاء انتمائه إليها، ولما جاء الاستقلال وأفرج عنه تنكر له الجميع، بل إن ما آلمه أكثر هو أنه وجد فاضل الخائن الذي كان يترجم للفرنسيين اعترافاته قد أصبح من كبار السياسيين، ويدعي أنه من ورثة الحركة الوطنية وأنه ممن ضحوا بأرواحهم لينعم الوطن بالحياة، وهكذا أدرك سليمان أن خاله آدم اثنان” آدم المكتفي بذاته من دون عمق، وآدم الذي ضاع منه آدم، ويحاول العثور عليه بإخفائه” ،كما أنه عانى من الكثير من الأمراض التي دمرت جسده، هذا الجسد الذي “هو مصدر لذتنا وحياتنا، ومصدر خرابنا وموتنا في الوقت ذاته” ، حيث سيبتلى بأمراض عديدة بدءا بمرض جلدي يشبه الجرب ومرورا بالرعاف وداء رئوي، وانتهاء بمرض السرطان المدمر الذي أنهى حياته،إذ أمام معانته من هذا المرض سيظهر الانقسام في شخصيته بين سليمان الواقعي اليائس الذي يحسب السويعات المتبقية من عمره، وبين سليمان المثالي الحالم الذي يرى أن جسمه يستجيب للعلاج وأن المرض لن يخضعه، لذلك تحفر بحيوية شاب عشريني لكتابة سيرته الذاتية قبل انطفاء الجسد.
وسينكشف هذا الانقسام في علاقته بالمرأةالتي راكم في علاقاته معها خيبات متكررة بدءا من رحمة بائعة الهوى، ثم صباح جارة خاله في حي كوبا، التي جعلته يدرك أن “المرأة ليست مجرد جسد مصنوع من تخيلاتنا حوله فحسب، بل هي قارة من الرموز المحيرة التي تحتاج منا في فهمها إلى بصيرة وتفهم وصبر” ، ثم رحيل بنحاس التي اصطنعت مشهد سقوط الفوطة عن جسدها العاري، والتي راقصه وقبلته دون أن تمكنه من جسدها، فلم يستوعب تصرفها، وهنا ظهرت حالة الانقسام في شخصيته من جديد ” سيحاول سليمان الواقعي السخرية من سليمان المثالي الراغب، فيقنعه بأن راحيل لم تسلم نفسها له معاتبا إياه على إسرافه المفرط في تأويل الأشياء وفق منطق الحلم، وعادا قبلتها تصرفا أكثر من عاديّ” ،كما سينكشف هذا أيضا في علاقته بنجية بلمعلم التي كانت لها هي الأخرى مآسيها الخاصة فهي ابنة رجل مقاوم “بّاعروب بلمعلم” الذي كان ينتمي إلى منظمة الهلال الأسود وسخر أمواله لمقاومة الاحتلال الفرنسي، وبعد خروجه من السجن إبان الاستقلال سيقتل بسبب الصراع الدائر بين الأقطاب السياسية حول الديمقراطية وبخيانة من صهره تاركا ابنته نجية في عمر الثامنة وزوجته التي تزوجت أحد رفاقه الخونة، فحاولت نجية استعادة صورة والدها المناضل بالانخراط في المنظمة السرية اليسارية وبحبها لأستاذ الفلسفة اليساري، وكان قلبها مترددا بين اختيار أستاذ الفلسفة المعتقل أو اختيار سليمان الذي كانت ترى فيه إنسانا منقسما على نفسه يتوزع بين الحلم والواقع، واضطر سليمان الذي كان عضوا في المنظمة اليسارية السرية تحت تهديد عيسى البدياني إلى التخلي عن نجية دون أن يمهلها فرصة التحدث بعد عودتهما من زيارة أستاذ الفلسفة الذي أدخل المستشفى بسبب تسمم غذائي بالمعتقل، وكانت نجية قدحسمت أمرها بعد هذه الزيارة، لكن سليمان جرح كبريائها لما طلب الانفصال فجأة،ولم يكتشف هذه الحقيقة إلا بعد خمسة وعشرين سنة، حيث سيكشف له وليد أنه تسرع في قطع علاقته بنجية، فقد أخبرته إثر التقائهما في عيادة طبيب نفساني أنها في ذاك اليوم كانت قد اتخذت قرارها باختيار سليمان لكنه جرح كبرياءها بتسرعه، وهكذا أضاع سليمان نجية من بين يديه، التي لم تكن “مجرد أنثى تنشر حولها عبق جمال ممهور بالسحر،…بل كانت إلى جانب ذلك أيضا كيانا يتلظى قلقا ويحمل في مسامه حريق أسئلة مدوخة حول الوجود والعالم والحياة، كانت تريد أن تعيش التاريخ وتفعل فيه” ، وفقد برحيلها طوق نجاته ولم يستطع نسيانها أبدا” رحلت وتركت في قلبي، لا حلقي، غصة لا تزول” ، وحتى لما تخلى عن نجية لم يسلم من بطش البدياني الذي حاول اغتصاب نجية فلما قاومته وأصابته بسكين اتهمها رفقة سليمان بالشروع في قتله، فقضى سليمان بسبب هذه التهمة خمس سنوات في السجن.
ولم تقف خيبته مع المرأة عند هذا الحد، بل أضيفت إليها خيبة أخرى في علاقته مع الفتاة الإسبانيةالجميلة صبرينا التي أحبها ورغب في الزواج منها، لكنه أصيب بخيبة أمل كبيرة عندما كشفت له عن التشوهاتالتي يحملها جسدها نتيجة حريق تعرضت له في صغرها الشيء الذي يجعل جسدها غير مرغوب فيهويمنعها من الزواج.
وتجلى هذا الانقسام أيضا في علاقته بوالده التي شهدت توترا حادا، فهذا الوالد الذي ظهر بعد عشرين سنة من الاختفاء، حيث كان يعتقد الجميع أنه توفي، خاصة أنه كان قد أقنع الحاجة لويز بوقوعه ضحية نصب من قبل صديقه البياضي والفرنسي لوبلون، سيكتشف سليمان بعد خروجه من السجن أن حكاية النصب حكاية واهية، اخترعها والده للحاق بكاترين بفرنسا حيث تزوج منها هناك وأنجب منها طفلين،فلما علم سليمان الحقيقة تعمد ترك والده يموت دون أن يقدم له المساعدة،لأنه أيضا أرجع موت الحاجة بنزيف في المخ إلى ارتفاع الضغط نتيجة الخصومة بينها وبين شعيب والده،لذك أصر على عدممساعدته، فسليمان الواقعي كان يتمنى موت والده، وسحب “وراءه المثالي نحو منطق الكراهية تجاه أبيه” ، وهكذا لازمه عذاب الضمير طيلة أربع سنوات.

وبناء على ما تقدم يتضح أن الانقسام صفة لازمت سليمان طيلة حياته بفعل ما تعرض له في مسار حياته من انكسارات وخيبات أمل متكررة.

الهوامش:

1ـعبد الرحيم جيران: الحجر والبركة، الفاصلة للنشر، طنجةـالمغرب، ط.1، 2018، ص.8
2ـالمصدر نفسه، ص.16
3ـالمصدر نفسه، ص.65
4ـالمصدر نفسه، ص.56
5ـالمصدر نفسه، ص.124
6ـالمصدر نفسه، ص.178ـ179
7ـالمصدر نفسه، ص.202
8ـالمصدر نفسه، ص.11
9ـالمصدر نفسه، ص.306

 

عمرالقادري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *