الرئيسيةإبداعالمرحوم

المرحوم

كنت في الحمام الشعبي أنهي آخر ترتيبات تنظيف الجسد و العرق ينضح منه كالشلال . جالسا القرفصاء كنت أقوم بالحركات المعتادة لأنهي آخر اللمسات و أخرج فقد كنت أحس بالعياء الشديد و كان الاحساس بالاختناق يزداد مع كل ثانية ثانية .
فجأة أحسست بجسدي يتخشب و أنا في وضعي المقرفص ، فقفزت -ببساطة- قفزت !لكن أحسستني أغادر و وعيي في الجزء الذي قفز بعيدا فيما تهاوى الجزء الآخر مني و تكوم خلفي ، انتبه لتخشبي بعض المستحمين فاقترب مني لكنهم تجاوزوني ، التفت إلى حيث يمضون كنت أنا هناك أو بالأحرى كان جسدي هناك و كنت الأنا الواعي أطفو -تقريبا- متابعا ما يجري . صار الأمر يتعلق بشخص آخر سواي . رأيتهم يرشونني بالماء البارد ثم يحملونني إلى الخارج حاولت أن أنبههم إلى ضرورة الانتباه إلى أنني لم أكمل ما كنت بصدده بلا جدوى لم يحفلوا بي .. و لا بصرخاتي بصوت عالي على الأقل بالنسبة لي .
ارتفعت الأصوات و اختلط الجميع ، أشخاص دخلوا من الخارج و رجال أمن و أنا عالق هناك بالكاد ألامس الاسفلت المبلل ، شبه عاري و نصف مبلل و منبوذ. حملوني في سيارة إسعاف ، أحسست أن هناك رابطا قويا يجرني خلف الجسد المحمول لم أستطع التحرر منه كما أنني لم أكن قادرا على العودة إلى الحلول فيه أو اعادة التواصل معه. ثم .. كنت هناك في المستشفى مسجى على سرير متسخ و مغطى بغطاء نتن رمته لتوها علي يد ممرضة بدينة و هي تسب طريقها خارجةراكلة قطا حاول التمسح بقدمها .. لم أستوعب لحد الساعة ماذا يقع ! الزمن يجري بسرعة و سلاسة كأنه يتدفق من مكان عالي، و أنا الممدد هناك الطافي هنا .. بالقرب مني ، لأول مرة منذ قفزي خارج نفسي و من مكاني الجديد بالخارج قمت باستراق النظر إلي .
رأيتني شاحبا و جامد الملامح و سكون مفزع يعلو قسماتي ،أفزعني منظري فأشحت بوجهي بعيدا عني آه… ثم بدأ الشعور بوحشة و غربة مفاجئتين يتسلل إلي .تبا ، كيف يفزعني منظر جسدي .. و لأي سبب ؟ عدت إلى حالي أتأمل ما أنا فيه .. هل أنا ميت ؟ و إن كنت ميتا لماذا لا أصعد إلى السماء عبر ذلك الطريق النوراني الذي يفتح فجأة كما رأيت في بعض الأفلام ، أو لماذا لا يكشف عن بصري الحجاب فأرى العالم الآخر كما كنت أقرأ و أسمع في الكتب الدنيوية . و إذا لم أكن ميتا لماذا لا أعود إلى جسدي و ينتهي هذا الكابوس .ربما أنا أحلم ، ولكن كل شيء يبدو واقعيا جدا و حقيقيا جدا رغم غرابته كل شيء غريب و لكنه حقيقي . هذا أنا هناك و هذا جزء مني هنا .. و حتى إشعار آخر أنا عالق بين الحياة و الموت أنتظر الفرج . كنت عالقا أيضا في الحياة أنتظر الفرج ،أيستقيم أن أعلق حتى في هذا الوضع الجديد ؟ يا للمصير
. دخل طبيب و ممرض إلى حيث كنت ممددا و شرعا يعبثان بجسدي و يقلبانه بحركات آلية شعرت بالاستفزاز وهما يمارسان عملهما بهذه الطريقة الآلية و المهينة اقتربت من الطبيب و صفعته على قفاه عندما لمحت في عينيه بعض الاشمئزاز وهو يتحسس مناطق خاصة في ما كان جسدي .. لكنه لم ينتبه لي و لا لصفعتي بل ظل منهمكا في عبثه بي .
عدت إلى مكاني ألعن اليوم الذي مت فيه منتظرا شيئا ما .. يخرجني من هذه الورطة .. حضر الأهل ، زوجتي و أبنائي أمي و البقية .. كانوا يولولون و يبكون و القيّم على مستودع الأموات ينهرهم و يدفعهم بحقارة ،تبا لك .. لو كنت حيا لوضعت أصبعي في أنفك أيها البغيض و لسحبتك بعيدا أيها القزم المرتشي لماذا في أنفك ؟ في عينك في عينك مباشرة … آه ! لكنني الآن مجرد شبح لاحول له و لا قوة .. ليس في الأمر شيء جديد فحتى في حياتي لم يكن لي حول و لاقوة .. لهذا لن يشكل هذا التفصيل الان اضافة أو نقصا يستحق الذكر .. جسدي كان يذوي و يضمر و ينكمش و الخيط الدقيق الذي ظل يربطني به مند سقوطي بالحمام بدأ يضعف و يدوي أيضا . كنت ميتا ،ربما ، كنت أعبر إلى العالم الآخر .. ضوء خافت بدأ يلوح لي ضوء أبيض خافت أبي في نهاي…..بيب..بيب..بيب…. *
* سجل انقطاع في الاتصال سنعود للمواصلة بعد اعادة ربط الاتصال مع المرحوم رحمه الله .

رشيد بلفقيه

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *