الرئيسيةإبداعرتق على جرف القارات

رتق على جرف القارات

 

 

(1)

– لا تنظر لي بدهشة فلم يحن بعد الوقت لكي تكتب قصة حياتك فهي لم تبدأ بعد ، لقد قال دولوز بأن صنع حدث ما ؛مهما بلغ صغره؛ هو الأمر الأكثر صعوبة ، ومهمتي هي صنع الأحداث ، كما ستكون هذه هي مهمتك أيضاً ، أرى التساؤلات في عينيك الصامتتين دوماً ، ولكن لم يحن وقت إجابتها، وأنا لا أسرد ما حصل لك إلا لكي تؤمن بالحتمية ، حينما تمارس دور الإله في صنع الأحداث ، وليس المشاركة فيها ، حينئذٍ ستشعر بقوة لا تقهر في ذاتك حينما يكون موكولاً لك أنت وأنت وحدك فقط أن تصنع الأحداث ، ألم أقل لك بأن قصة حياتك لم تبدأ بعد .

حسناً لا تخش شيئاً ، أدرك بأنك مرتبك ، وربما قلق من هذه المقابلة ، في الواقع أراك في حالة رعب كبيرة ، تماماً كذلك اليوم الذي أوقفت فيه سيارتك بعنف حتى اصطدمت بك السيارة التي خلفك ، وأنت تتصبب عرقاً ، حينما سمعت بمقتل (ص) إثر حادث سقوط طائرته ، شتمك الرجل الذي اصطدم بك وتجمهر الناس حول سيارتك ولكنك كنت في حالة ضياع كامل وبيد مرتعشة أخرجت الفلاش من درج السيارة وأخذت تنظر إليه برعب شديد. ثم دسسته في جيبك وقدت سيارتك والعرق يجرح عينيك من خلف النظارة ذات العدسات السميكة . قبل ثلاثة أيام التقيت بـ(ص) الذي كان متوتراً وحكى لك قصة مشاهدته لنائب رئيس الحزب الحاكم وهو يمارس الشذوذ مع ضابط في الأمن وقام بتصوير المشهد ثم منحك الفلاش لتخبئه عندك وهو يؤكد لك بأن قتله أصبح وشيكاً. لقد كان (ص) مؤمناً بالحزب إيماناً عميقاً ، وبقدر عمق إيمانه كانت صدمته . الآن بعد أن سمعت بخبر قتله توقف عقلك عن العمل ، هرعت إلى منزلك وأخذت تشاهد ابناءك الصغار وهم نائمون في حضن أمهم ، كنت خائفاً على مستقبلهم إذا قُتلت أنت نفسك ، وكانت مخاوف الدنيا كلها تقفز إلى أم دماغك كصراصير الليل ، أمامك خياران أن تحتفظ بالفلاش أو أن ترميه في النهر ، وكان الخيار الأول يعني أنك ستظل مهدداً إذا أُكتشف عندك ، ولكنك لو ألقيته في النهر وجاء رجال الأمن فطلبوه منك وأخبرتهم بأنك تخلصت منه فلن يصدقوك ، إذن؛ الخياران أحلاهما مر ، وقررت أخيراً أن تحتفظ بالفلاش في خزنتك بالبنك . أعتقد بأنه كان خياراً صحيحاً ، ولكي تتجنب جميع الشبهات ، خاصة أنك كنت مقرباً إلى (ص) ، فقد كان عليك أن تنضم إلى الحزب الإسلامي الحاكم ، وأعتقد أنه أيضاً كان قراراً ذكياً ، خاصة أنك ومن فرط رعبك تبنيت الصمت في علاقاتك داخل الحزب ، أتذكر أول يوم ذهبت فيه إلى مباني الحزب ، كنت تتحرك كالسلحفاة ببطء شديد ، وبصمت ، دخلت إلى عالم لم يكن عالمك أبداً وأنت المحامي الصغير ، دخلت عالم السياسة ، دخلته مكرهاً ، طامعاً في أن تحمي أبناءك من مجرمي الحزب الحاكم الأوحد ، من نظام يغتال كل من يقف ضده بأكثر الطرق خسة ، كنت تقف في باحة مقر الحزب صامتاً والشمس تصهر إحساسك بالأمان ، وكل من يدلفون إلى الحزب كنت تراهم إما وحوشاً لهم قرون الشياطين وأنياب السباع ، أو ضحايا خائفين مثلك ، لقد سجلت إسمك ووقعت على ميثاق الحزب ولم يتبق لك إلا يوم أداء القسم ، لكنك لا تعرف أكثر من هذا ، لا تعرف كيف تبدأ اللقاءات بأعضاء الحزب الآخرين ، ولا متى تكون الإجتماعات ولا أي جانب تنظيمي ، فأنت مستجد ، لا خبرة لديك ، وقررت أن تتبع ثلاثة شبان نحو أحدى الغرف ، ترددت كثيراً قبل أن تدخل وراءهم ، لكنك في النهاية عزمت أمرك ، لتجد نفسك أمام حشد من عشرين عضو جديد ، وهناك من يلقي على مسامعهم محاضرة استقبال ، كان يسألهم عن سبب دخولهم فكانوا يجيبون بتزلف ونفاق أما أنت فلم تستطع حتى أن تجد إجابة مقنعة فقد ظللت صامتاً حتى أن بعضاً من الأعضاء الجدد أخذوا يخفون ضحكاتهم الساخرة . وقد أحس المحاضر المدعو بـ (ن) بإشفاق شديد عليك ، فقد نحى بك جانباً بعد ان انتهى من محاضرته وطلب منك الحضور يوم الاثنين الساعة العاشرة مساء إلى مقر الحزب الرئيسي في العاصمة وقد وقع على بطاقتك من الخلف لتسهيل دخولك ، وخلال كل ذلك لم تكن تنبس ببنت شفه ، وكان الرعب يعتصر مفاصلك .

***

يوم الاثنين كان حافلاً بالنسبة لك فقد قادك (ن) إلى كل قيادات الحزب من الصف الثاني ، ورغم شعورك بالخوف إلا أنك تماسكت غير أنك لم تتجاوز القاعدة الذهبية : الصمت . كنت ترد التحية الخاصة بالحزب ، وتتجنب الجمل الطويلة ، تعرف عن نفسك فقط ، هم كانوا يعتقدون بأنك إنما تفعل ذلك كنوع من الاحترام ، لكنك في الواقع كنت تفعل ذلك خوفاً ، قادك (ن) عبر الدهاليز والمكاتب المكيفة ، حتى إذا انتهى الأمر ودعك عند الباب قائلاً:

-تعود أن تداوم على تواجدك في الاجتماعات ، ذلك أنني قد نقلتك اليوم من صف المبتدئين إلى صف القادة ، وعليك أن تثبت جدارتك بنفسك .. إلى اللقاء .

وحين ودعته حانت منك التفاتة إلى سيارتك ولاحظت أخيراً الانبعاج الناتئ في الخلف وتذكرت الحادث وكأنه قصة قديمة. لكنك الآن أكثر ارتياحاً من ذي قبل .

كل اربعة أشهر كانت تسقط طائرة ثم تليها طائرة وثالثة وهكذا يتم اغتيال الأعضاء المتفلتين في الحزب ، أو أولئك السياسيين الذين يخشى إتساع نفوذهم الشعبي ، أو من يمسكون بكروت خطرة ضد قيادات الحزب النافذة ، وهكذا قتل (ص) أيضاً ، وربما تقتل أنت أيضاً في يوم من الأيام إذا اكتشفوا احتفاظك بالفلاش . ولكي تتجنب ذلك كان عليك أن تكثف من نشاطك داخل الحزب وحضور كل الاجتماعات ، وقد كان ذلك . كانت الصراعات داخل الحزب محتدمة ، وكنت أنت الوحيد الذي جنبه صمته من الدخول في المعارك أو اختيار شلة على أخرى ، فقد كان غرضك الوحيد هو الاختفاء داخل الظهور ، وهذا ما جعلك محبوباً من الجميع حينما تأكدوا تماماً بأنك لست صاحب غرض نفعي ، لكنهم كانوا يتساءلون سراً عن سبب انضمامك للحزب وأنت كما يبدو عليك لا تفقه شيئاً في السياسة ولا الانتهازية . ولما طال صمتك توقفوا عن التساؤل واعتقدوا بأنك قد خُلقت هكذا؛ شخصية صامتة لا تحب الجدل والنقاش وهذا ما زادهم اطمئناناً .

***

لم يكن الصف الثاني من قيادات الحزب خالياً من الصراعات بل كانت الصراعات أكثر عنفاً لأن كل عضو منهم كان يستند إلى شخصية قوية من الصف الأول وكان يرغب في الحصول على منصب سياسي يمكنه من إدارة أعمال تجارية تدر عليه مالاً يضمن به مستقبله ، وهكذا تكونت مجموعة بقيادة (م م) في مواجهة مجموعة بقيادة (ت ع) ، كان (م م) يستند إلى رئيس جهاز الأمن والمخابرات ، في حين أن (ت ع) كان يستند إلى أحد مستشاري الرئيس ، وكان محل الصراع صفقة سلاح ذات تعقيدات شديدة ، وإزاء هذا الصراع لم يعد وقوفك فوق خط عدم الانحياز ممكناً بل كان عليك أن تتخذ قرارك الحاسم بالانضمام لإحدى المجموعتين ، كان رئيس جهاز المخابرات يبدو الأقوى في الظاهر ، إلا أن المستشار كان صاحب نفوذ أكبر فهو مقرب من الرئيس نفسه ، فانضممت إلى مجموعة (ت ع) ، ونسبة لهذا الخيار الصائب فقد تم تصعيدك إلى درجة القياديين بالصف الثاني بعد أن كنت مجرد عضو عادي. أما (م م) فقد صار عارياً من السند بعد أن أقيل رئيس جهاز الأمن من منصبه بل وتم اعتقاله بتهمة الاعداد لانقلاب مع بعض العسكريين ، ونتيجة لأنه كان يملك معلومات دقيقة عن الجميع فقد تمت تسوية الأمر معه بالعفو عنه مقابل إلتزامه بالصمت والاكتفاء بإدارة أعماله التجارية التي بلغت مليارات الدولارات. وهكذا قرر (م م) الإنشقاق عن الحزب ، وتكوين مليشيا مسلحة مستغلاً وجود تمرد مسلح في الغرب فانضم لحاملي السلاح ، لكنه أغتيل من نائبه الذي رأى أنه الأجدر بقيادة المليشيا من (م م) ؛ فهذا الأخير –كما كان يعتقد نائبه- مجرد سياسي لا يصلح كعسكري متمرس في أعمال القتل والسلب.

***

ثم مضت بك الشهور وكدت أن تنسى قصة الفلاش لولا ذلك اليوم الذي كنت فيه تحوم داخل أروقة الحزب فإذا بنائب رئيس الحزب وضابط الأمن يمران أمامك ، وحين تسمرت في مكانك حانت من نائب رئيس الحزب التفاتة نحوك ، ثم ابتسم لك ابتسامة صفراء أرجفت قلبك وتذكرت وجه (ص) المذعور قبل اغتياله . كان رئيس الحزب هو رئيس الجمهورية وهو رجل عسكري لا يفقه شيئاً في الحكم فاضطر إلى الاستعانة بنائبه في الحزب وهو زعيم سياسي لأكبر حزب ديني ، هذا الأخير استطاع أن يسيطر على الدولة عبر سيطرته على البرلمان حين امتلك ناصية القانون فركز السلطات في يده كرئيس للبرلمان ونائب لرئاسة الحزب . وحين اختفى من أمامك تنفست الصعداء ودخلت إلى أقرب قاعة بوعي ضبابي مختبئاً فيها.

كانت القاعة ممتلئة بالأعضاء من الصف الثاني ، وكانت تناقش الحرب في الجنوب ، وضرورة أن يتم استقطاب الشعب واستدراجه على أساس الاختلاف في الدين أي خوض حرب مقدسة ، إلا أن أحد الأعضاء ويدعى (ك) كان معترضاً على تحويل الحرب من حرب بين الحكومة والمتمردين إلى حرب دينية قد تثير حفيظة المجتمع الدولي ، فيجد المتمردون مبرراً أخلاقياً للحرب كمدافعين عن حريتهم الدينية ، إلا أن الأعضاء وقفوا ضد (ك) باعتباره متهاوناً في الدفاع عن العقيدة التي هي قوام الحزب وأساس قيامه والدافع الذي أوصله إلى السلطة عبر الإنقلاب العسكري على القوى العلمانية الكافرة ، وقد عرفت فيما بعد بأن (ك) تم إيداعه السجن بتهمة الفساد رغم أنه كان أكثرهم نظافة يد ؛ وحينئذٍ زادت قناعاتك بأن هذا النظام يعتمد على تصفية كل من يخالفه جسدياً ومعنوياً مما زاد شعورك بالرعب ، فازداد صمتك داخل الحزب حتى عدت كقطعة أثرية يتم نقلها من متحف لآخر دون أن تعترض. وتفاقم لديك ذلك الشعور بأن الإنسان إنما يقف وحيداً وقوى الشر تحيط به من كل جانب ، وقد لاحظت زوجتك صمتك واكفهرار وجهك ، وانطواءك على ذاتك قرب طفليك بألم ، لم تعد تثق حتى في نفسك وأنت تحدثها عن جحيم الحياة في دولة دكتاتورية ، حيث يتربص الكل بالكل وأصحاب السلطة يمارسون القهر الجمعي والفردي بأقسى وأقصى صوره بدون وازع ديني أو أخلاقي وبلا ضمير مستنير ، كانت حادثة صديقك (ص) قد فتحت عينيك على الصورة القاتمة والتي أخذت مساحتها تتسع حتى بات الهرب إلى دولة أخرى أو الموت هما أفضل الموانع من الوقوع تحت أيديهم ، وما زاد الطين بلة حين تم استدعاؤك للمثول أمام جهاز الأمن والاستخبارات ، في ذلك اليوم ارتجف جسدك وتصبب عرقاً وشعرت بأن أشواكاً تنغرز في كل مسامة من مسامات جلدك ، إلى أن جلست صامتاً أمام ضابط الأمن الذي ظل بدوره صامتاً وهو منشغل عنك لساعتين بقراءة أوراقه إلى أن رمقك بنظرة من فوق نظارته وهو يقول:

– لماذا لا تشرب شيئاً .. هل أنت خائف ..

وحين اجتررت غصة من حلقك ، ومسحت العرق من جبينك بمنديلك ، نهض فصب كوب ماء بارد لك وقدمه قائلاً:

– لا تخف .. إن كل ما هنالك هو أننا رأينا جديتك ونشاطك داخل الحزب فوجب علينا أن نكافئك قليلاً ، لا شك أنك خائف بسبب سماعك لتلك الإشاعات المغرضة التي تقول بأننا نعذب المعارضين والخونة جسدياً وجنسياً ومعنوياً .. حسناً .. لا تصدق كل ما تقوله المعارضة فهم يعمدون لتشويه صورة الحكومة .. هل تصدقهم ؟

هززتَ رأسك نفياً دون أن يتمكن صوتك من الخروج من حنجرتك .. حينها نهض الضابط ولف حول مكتبه ثم جلس أمامك قائلاً :

-نحن نعرض عليك وظيفة في الاستخبارات .. وهي وظيفة بسيطة .. وبالتأكيد سنعطيك عليها أجراً .. عليك فقط أن تكون مصدراً لنا داخل الصف الثاني من الحزب .. أنت تعرف أن هناك انشقاقات عديدة تحدث وأن هناك متفلتون لأن وجودهم داخل الحزب لم يحقق لهم مطامعهم ومصالحهم الشخصية .

ثم ضرب بسن قلم حبر على الطاولة وهو يردف:

-هؤلاء هم من نريدهم .. وأنت عليك أن تطلعنا عليهم وعلى كل جديد .. لن تكتب تقارير ورقية بل ستأتي هنا وتحدثنا عنهم شفاهة ..

وحين بدأ الضابط في شرح المهمة كان عقلك قد غاب تماماً وربما لأول مرة تشعر بالإمتهان لكرامتك وأنت تستخدم كمخبر لا يختلف عن أي قواد ، لكنك تحت رحمتهم الآن وفي كل وقت ، وحين قادك أحدهم إلى الخارج ولفحتك الشمس بدا لك وأنك قد أضحيت كائناً ميتاً بالفعل .

وبت الآن منشغلاً بهم جديد وهو الوشاية بالآخرين ، وكاد هذا الخوف يزول بعد خلاص زائف تمثل في عملية إنقلابية فاشلة ، تم على إثرها إعدام سبعة وعشرين ضابطاً في الجيش ولم يتم الكشف عن مكان دفنهم حتى اليوم .

***

(2)

تلقيت اتصالاً من والدتك تخبرك فيه بغياب شقيقك عن المنزل منذ ثمانية أيام ، فأخذت تبحث عنه في كل مكان ، ولكنه عاد في اليوم التاسع بوجه متورم وجروح سياط تدمي ظهره ، ثم ألقى جسده على السرير وغاب عن الوعي ليوم كامل قبل أن يصحو ويخبركم بأنه كان معتقلاً لدى جهاز الأمن والمخابرات ، وحكى عن عمليات اغتصاب تعرض لها هو وجماعة آخرون من حزب الشباب الثوري ، بالإضافة لعمليات تعذيب ، وإعدام زائف ، فقلت له:

– سأعمل على تهريبك خارج البلد .. ستسافر إلى مصر وهناك تطلب اللجوء السياسي ..

لكنه قال بإصرار:

– لابد من المقاومة ..

– عن أية مقاومة تتحدث .. إنك تجابه نظاماً كاملاً .. يجب أن تتوقف عن السياسة وأن ترحل إلى الخارج

– لقد قتلوا صديقي المهندس جابر .. وصديقي الآخر عبد المعطي تم اغتصابه فخرج وهو مصاب بالجنون فقتل زوجته وأولاده وانتحر .. هل تريدني أن أترك ثأرهما .. هل تريد أن تضيع جهودنا سدى في مقاومة الدكتاتورية ! هذا لن يحدث أبداً ..

– استمع لصوت العقل .. هذا نظام كامل وأنتم حفنة من الشباب لو قتلوكم فمن سيحاسبهم .. إن كل شيء تابع للنظام ؛ القضاء ، الشرطة ، النائب العام ، الجيش ، كل شيء كل شيء .. دع الحماقة ويكفك ما نلته من تعذيب .. اترك كل شيء وسوف أوفر لك تذكرة سفر إلى القاهرة هناك ستطلب اللجوء السياسي إلى أية دولة أوربية أو أمريكا لتعش حياتك ..

– إنها قضية مبدأ يا أخي .. مبدأ ..

– لازلت يافعاً وعقلك لم يدنو من الرشد ..

-بل سأقاوم .. أما أنت فلن أطلب منك الخروج من حزبهم المتعفن لأن هذا خيارك وأنت حر ..

– من أخبرك بذلك ؟

– الكل يعلم بأنك أضحيت من قيادات الحزب … لن أسبب لك إحراجاً فلي شخصيتي القانونية المستقلة ولك شخصيتك القانونية..

كان شقيقك مصراً على موقفه بمناهضة النظام ، وكنت خائفاً عليه من القتل ، لكنه كان شاباً في مقتبل العمر يحمل قلب الفتوة وعقلاً مليئاً بخيالات الأبطال وأوهام الحرية ، لم يفهم أبداً أو يتخيل ما كنت تسوقه له من مبررات لترك العمل السياسي والالتفات إلى مصالحه … كانت الشقة بينكما كبيرة .

كان منهكاً مما منعه من المشاركة في المظاهرات المتقطعة التي شنها عديد من الشباب الثائر وقتل منهم الكثير على يد رجال الأمن .

***

كان عليك فقط أن تضع توقيعك ، وبيد مرتجفة فعلت ، لا تدري ما الذي يحدث ، لقد أستدعيت إلى لجنة خاصة مكونة من ثلاثة أفراد ، لم تتعرف إليهم من قبل ، وطلبوا منك التوقيع على أوراق مكدسة بقربهم ففعلت وكعادتك ابتعلت لسانك ولم تنبس ببنت شفه ، ثم دخلت إلى المكتب الصغير والمفروش بأوثر الرياش ، فتاة صغيرة –علمت فيما بعد بأنها بلغت لتوها التاسعة عشر من عمرها – طُلب منها التوقيع هي أيضاً ، فوقعت ولكن بأصابع واثقة ، ثم أخبروك بأنك أصبحت شريكاً للفتاة في شركة إستيراد المعدات البحرية ، وأن مهمتكم الأولى هي شراء يخت لرئيس الجمهورية ، وأن أرباح العملية ستذهب كلها إلى جهة غير معلومة ولا يجوز لكما السؤال عنها ، ومع ذلك فستنالان عمولة مناسبة ، كانت هذه أول قضية فساد تراها بأم عينيك بل وتكون أنت نفسك أحد ضحاياها أو جناتها في الواقع لقد درسوا أعضاء الحزب جيداً وتوصلوا إلى شخصيتين صالحتين للمهمة ، أنت لأنك صامت والفتاة لأنها يتيمة وضعيفة ، كما أنها كانت انطوائية ، هذا الحدث –ربما لم تكن تعرف- بأنه كان حجر الدومينو الأول والحقيقي في تطور نظرتنا لك ، لكنك لم تكن بعيداً عن عيني أنا بالذات قبل ذلك ، وهأنا أسرد قصة بدايتك ونهايتي لك لكي تطمئن.

***

اخترتك ، نعم اخترتك وأنا أعلم بكل شيء ، حتى الفلاش الذي يحمل الفيديو الفاضح في داخله ، أعلم حتى كيف توقفت عن ممارسة الجنس مع زوجتك منذ أشهر بسبب مخاوفك ورعبك من أن تقع في أيدينا ، في يدي أنا ، ولكن لا تخش شيئاً فأنت لا تعلم ما ينتظرك ، إنك ستكون بديلي أنا نائب رئيس الحزب ، لقد كبرت في السن ، ولم أعد قادرا على تنفيذ كل المخططات بنفسي ، صحيح أنني نائب رئيس الحزب لكنني الرئيس الحقيقي في هذه الدولة ، لماذا تبتعد عني ، هل تخشى أن أتحرش بك حنسياً ، لا لا تخش شيئاً ، سوف تدرك في يوم من الأيام أنك كنت مخطئاً حين ظننتني شاذ جنسياً ، حتى الفيديو الذي معك لن يستطيع شرح السبب السياسي لممارسة الشذوذ . عليك أن تفهم أن هذا العالم لا بد أن يسيره الإنسان ولو قسراً ، هذه التناقضات ، الصراعات ، الإرهاب والإرهاب المضاد ، كل ذلك ، وغيره ، نحن من نسيطر عليه ، نسيطر على هذا العالم بذكاء كبير ، لا تعتقد بأنك لست ذكياً ، بالعكس أنت ذكي ، فقط عليك أن تجد البيئة المناسبة لاستغلال هذا الذكاء ، الانتماء ، الانتماء لعالم أكبر ، لقوة أعظم ، لكيان يتفوق حتى على الكيان الإلهي ، عليك أن تكون جزءً من صُنَّاع الحضارات ومن يدمرونها ، أولئك الذين يرسمون سياسات العالم على القارات الخمس ، أولئك الذين يحيكون ثياب الحكومات والمتمردين والإرهاب ، ويفصلون لهم أدوارهم ، أنت الآن ستكون جزءً من هؤلاء ، لقد اخترتك لتكون بديلاً لي ، اخترتك بعناية وبعد أن راقبتك لسنوات ، لقد التقيت بكل أصناف البشر وأغلبهم انتهازيون ووصوليون ، وهم على ذلك من السهل كسرهم ، من السهل قيادهم ، أما أنت فلا ، أنت الزعيم القادم ، ورئيس الكتلة الدينية المحافظة في الدولة ، سوف تكون قائداً للمجمع الإقليمي العالمي ، فأنا أدير هذا المجمع وأرسم له سياساته ، سياسات الدول من حولنا ، من المغرب وحتى جزر القمر ، سوف تتحمل أنت هذه المسئولية العظيمة ، بعد أن يتم تدريبك تدريباً دقيقاً قد يأخذ سنة كاملة من عمرك ، سنة ستتلقى فيها ما لم تعرفه خلال مسيرة حياتك كلها.

ستسافر من هنا إلى تركيا ومن هناك إلى أمريكا ، سوف يتم الاحتفال بتدشينك عضواً في محفلنا العالمي ، وبعدها ستتلقى تدريباتك المفروضة .

***

في نيويورك قادني السائق على سيارة الليموزين إلى شارع جانبي ثم توقف أمام مبنى عالٍ روماني الطراز ذو سقف مقبب ، كانت بوابته الحديدية تكشف عن حديقة لم تشذب أعشابها وأشجارها القديمة تعرت من أوراقها فغطت بها الأرض ، عندما دلفت إلى البهو قابلني ظلام دامس وتم تغطية عيني بعصابة ، وسرت يقودني سائس إلى الداخل ، سمعت همهمة تلاه تصفيق ، وصوت رجل يقول:

-نرحب بك عضواً في محفلنا العالمي ، هنا حيث نقود العالم ، وسيبدأ احتفالنا بطقس بسيط وهو أنك ستتعرى تماماً من ملابسك وسنحممك بالماء المخلوط بدمائنا . الآن يا سادة ، أمام كل منكم سكيناً فليجرح بها كل واحد عضده ويسكب الدماء على هذه المياه الساخنة .

تم ادخالي عارياً داخل برميل به ماءً ساخن وتفوح منه رائحة الدماء ، بعدها أخرجوني ، وسمعت صوت الرجل يقول:

– لن يكتمل تدشين عضويتك إلا بعد أن يلج كل رجل من الأعضاء في هذه القاعة ذكره في مؤخرتك ، لقد اقتربت من النهاية ، الآن احني جسدك .

حنيت جسدي ، وأحسست حينها بذكر أحدهم يلج مؤخرتي بسرعة ، تلاه العشرات ، وحين انتهى الجميع تذكرت الفلاش ، ومقولة نائب رئيس الحزب من أن الشذوذ نفسه سياسة ، فهل كان يقصد ذلك ؟ بعدها سمعت صوت الرجل يقول:

– لقد تأسس تجمعنا هذا قبل أكثر من ألف سنة ، تحديداً في القرن الخامس الميلادي ، وأخذ أجدادنا يديرون العالم كله عبر هذا المحفل ، الحروب كلها ، والسلام كله ، ونهوض حضارات وزوالها ، الانتصارات والهزائم ، كانت كلها نتاج أيدي الزعماء في هذا المحفل ، نحن الذين ندير هذا العالم ، من أجل تدمير سلطة الرب ، وإقامة سلطة البشر الأقوياء ، الأقوياء فقط من يستحقون الحياة . الآن سنزيل الغطاء من عينيك ، لترى باقي الأعضاء ثم ستقوم بارتداء الملابس الخاصة بالمحفل .

تم ازالة العصابة من عيني ، وحينها رأيت على الأضواء الشاحبة ، عشرات من القادة العالميين وزعماء الطوائف الدينية والسياسيين العظماء ، وقادة الإرهاب ، ثم تناوبوا في السلام علي وهم يحتضنونني الواحد تلو الآخر ، ثم قال الرجل صاحب الصوت بوقار:

– مرحباً بك زعيماً للمحفل الإقليمي العالمي ، أنت زعيمه منذ الآن . منذ الآن سنحدد لك طريقة حياتك ، وطريقة مماتك ، منذ هذا اليوم سوف لن تكون أنت هو أنت ، بل أنت هو نحن . والآن عليك أن تؤدي قسم الولاء المطلق .

أديت قسم الولاء المطلق ، ثم قادني أحدهم إلى الخارج ، كانت السماء تمطر مطراً خفيفاً ، والأرض المعبدة تلمع من تحتي فتعكس صورتي ، نظرت إلى حيث قدمي ورأيت صورة وجهى على صفحة المياه ، وهالني ما رأيت ، كانت ملامحي تذوب في بعضها ، أنفي فوق أذني وشفاهي فوق حاجبي ، وشعري عند ذقني ، كانت تفاصيل ملامحي تنصهر في بعضها كقناع من الثلج، حينها همست :

– مصادرة التفاصيل .. مصادرة التفاصيل .. مصادرة التفاصيل

 

أمل الكردفاني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *